يأتي انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" المقبلة يومي 24 و25 يونيو 2025 بمدينة لاهاي في هولندا، في ظل تحديات استراتيجية تواجه القارة الأوروبية في مقدمتها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي لا تزال تلقي بظلالها على الأمن الأوروبي، وصعود اليمين المتطرف وما يحمله من أجندة ضد المهاجرين واللاجئين والتشكيك في جدوى الاتحاد الأوروبي، والصعود الصيني المتنامي، والتحولات في ميزان القوى العالمي الرامي إلى تعددية قطبية.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يثار تساؤل رئيسي حول أولويات أوروبا خلال القمة المقبلة للحلف، وما إذا كانت تلك الأولويات تتماشى أو تتعارض مع الرؤية الأمريكية التي تبلورت منذ الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واستمرت خلال الولاية الثانية، التي تقوم على مطالبة أعضاء الحلف بزيادة الإنفاق الدفاعي لدوله.
أولويات أوروبية
تتنوع الأولويات الأوروبية المحتمل طرحها خلال قمة الحلف المقبلة، التي ترتبط بكيفية مواجهة التهديدات التي تواجه الأمن الأوروبي، وتتطلب رؤية أوروبية مغايرة للسياق الذي أدى إلى نشأة الحلف. لذلك هناك العديد من الأولويات التي يمكن أن تُسهم في تعزيز دور الحلف كضامن رئيسي للأمن الأوروبي، التي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) عقيدة الحلف: مع تغير طبيعة التهديدات التي تواجه دول الحلف واختلافها عن سياق الحرب الباردة التي أسهمت في بلورة عقيدة الحلف وتحديد مصادر التهديد للأمن الأوروبي في مواجهة الخطر الشيوعى في أوروبا، فإن بعض المراقبين يصفون الحلف بأنه يعرف داخل الدوائر السياسية الأوربية بمثابة السيدة العجوز التي تحتاج إلى أن تستعيد شبابها. ويبدو أن الحلف الذي نشأ في سياق دولي تزامن مع تفاعلات الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين آنذاك الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، أضحى يواجه واقعًا مغايرًا لهذه النشأة ودوافعها، بما تطلب معه تغير طبيعة المهام والوظائف الجديدة التي أفرزتها تحديات المرحلة التالية على الثنائية القطبية، التي بدأت بالقطبية الأحادية والهيمنة الأمريكية، وصولًا للحالة الحالية لطبيعة النظام الدولي الذي يتسم بالأحادية القطبية في الجانب السياسي، والتعددية القطبية في الجانب الاقتصادي، وهو الأمر الذي أسهم في تغير المخاطر الأمنية الأوروبية التي يجب على الحلف التعامل معها وتكييف عقيدته على مواجهتها.
وباتت طبيعة التهديدات التي تمس الأمن الأوروبي تعكس عمق أزمة الحلف وعدم قدرة أعضائه على تبني استراتيجية موحدة لمواجهتها. وتمثلت أبرز تلك التهديدات في الحرب الروسية الأوكرانية التي عكست عجز الحلف عن مواجهتها، وتنامي دور اليمين المتطرف، والهجرة غير المشروعة، وتهديدات الأمن السيبراني، والتحديات الاقتصادية. وجاء إخفاق الحلف وعدم قدرته على مواجة تلك التحديات في ظل تغليب الاعتبارات الأمنية لكل دولة على حده.
(*) مسألة توسيع الحلف: على الرغم من أن مسألة توسيع حلف الناتو من خلال رغبة أوكرانيا في الحصول على عضويته، التي كانت أحد الدوافع التي برر بها بوتين الحرب، إلا أن استراتيجية توسيع الحلف لا تزال قائمة، فبعد انضمام كل من فنلندا والسويد مؤخرًا أعربت دول أخرى عن رغبتها في الانضمام لعضوية الحلف، منها البوسنة والهرسك، وجورجيا. وتعكس هذه المؤشرات استمرار الحلف في توسيع عضويته باعتبارها إحدى ركائز انتشاره في أوروبا، وبما يعزز من دوره في الدفاع عن أمن القارة الأوروبية ومواجهة التهديدات المتنامية.
(*) التدرج في زيادة الإنفاق العسكري: على الرغم من مطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزيادة الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء في حلف الناتو لتصل إلى 5% من الناتج المحلي لكل دولة، إلا أن التوجهات الأوروبية تتبنى التدرج في زيادة الإنفاق الدفاعي، فإذا كان الإنفاق الحالي يصل إلى 2% فإن الخبراء المتخصصين في قضايا الأمن الأوروبي يتوقعون أن تتجه الدول الأوروبية خلال القمة المقبلة في لاهاي، لزيادة الإنفاق الدفاعي ليتراوح ما بين 3% و3.5% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة، إلا أن تصريح الأمين العام لحلف الناتو مارك روته، 26 مايو 2025، الذي يعد الأول من نوعه، توقع أن تتوصل دول الناتو إلى اتفاق خلال القمة المقبلة في لاهاي يقضي برفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي بحلول 2032، موضحًا أن هذا الهدف موزع ما بين 3.5 % للإنفاق العسكري المباشر مثل شراء الأسلحة ودعم القوات، و1.5 % لمجالات الأمن الأوسع من بينها الأمن السيبراني وتطوير البنية التحتية الحيوية.
(*) مواجهة الصعود الصيني: يشكل الصعود الصيني أحد التحديات التي تواجه أوروبا، لا سيّما وأن المنظومة الغربية بجناحيها الأوروبي والأمريكي برغم تباين الرؤى بينهما منذ وصول ترامب، إلا أن ثمة إصرار غربي بالحفاظ على النظام العالمي الحالي، الذي يتسم بالهيمنة الغربية التي تجعل من الصين المُنافس الاستراتيجي لتلك الهيمنة، لذلك اعتبر البيان الختامي لقمة الحلف السابقة في واشنطن يوليو 2024، بأن بكين تواصل إثارة التحديات بشكل ممنهج لأوروبا مع تزايد المخاوف الغربية من ترسانة الصين النووية وقدراتها في الفضاء.
(*) دعم أوكرانيا: يتزامن انعقاد قمة الحلف بلاهاي مع سعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، وإقرار خطة للسلام في أوكرانيا توقف الحرب برغم تباين الرؤى الأوروبية من موقف ترامب، في ظل تراجع الولايات المتحدة عن تحمل المسؤولية الأساسية في حماية أوروبا والاتجاه نحو التقارب مع روسيا، لذلك تعالت الأصوات الأوروبية المنادية بدعم الاستقلالية والوحدة الأوروبية.
(*) الهجرة غير الشرعية: تعد قضايا الهجرة غير الشرعية واللجوء من الأولويات الأوروبية التي تحظى بالمناقشة في غالبية الفعاليات الأوروبية المشتركة ومنها قمم حلف الناتو، لا سيّما وأنها تعد سلاح ذو حدين فمن ناحية تعتبر فرصة للدول الأوربية، لاستعادة توازن الهرم السكاني بها؛ فثمة معاناة في أغلب الدول الأوروبية من الخلل الديموجرافي، وهو ما سيشكل تهديدًا لفرص التنمية بها حيث يغلب على الهرم السكانى افتقاده للمكون الشبابي في ظل العزوف عن الإنجاب لدى قطاع معتبر من الأوروبيين، وهو ما جعل المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تتبنى سياسة الباب المفتوح بالنسبة للاجئين والمهاجرين إلى ألمانيا.
من ناحية ثانية فإن الهجرة والنزوح إلى الدول الأوروبية قد تحمل مخاطر على الأمن الأوروبي من خلال احتمالية تسلل عناصر إرهابية إلى العمق الأوروبي، وهو ما أدى إلى تنامى النزعات القومية والمتطرفة ضد المهاجرين واللاجئين إلى الدول الأوروبية، ومع وصول حكومات يمينية في عدد من هذه الدول، فإنها تبنت سياسة معادية ضد هؤلاء المهاجرين واللاجئين.
الخلاصة؛ لعل وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر لخص واقع الحلف ومستقبله برؤية ثاقبة بقوله "بغية الحفاظ على الناتو، على الاتحاد الأوروبي أن يعمل وكأن الحلف قد زال بالفعل"، وهي مقولة تعكس رؤية الأوروبيين لواقعهم دون تزييف، بما يعني ضرورة الاعتماد على قدراتهم الذاتية، لحماية أمنهم ومواجهة الانعزالية الأمريكية في السياسات الأوروبية، وإن ظل الاعتقاد الراسخ هو استمرار عضوية الولايات المتحدة في الحلف الذي سيبقى ويستمر لدوره المؤثر في تحقيق أهدافها الاستراتيجية.