الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

حدود مواجهة حلف الناتو لتحديات الأمن الأوروبي

  • مشاركة :
post-title
علم حلف الناتو

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

عقد وزراء خارجية الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو" اجتماعهم يومي 3 و4 أبريل 2025 في ظل تنامي التحديات الداخلية التى تتمثل فى تعقّد المشكلات الاقتصادية التى تواجه الدول الأوروبية، والتى عمّقتها قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برفع التعريفات الجمركية على الواردات،وهي الإجراءات التى تزامنت مع ذلك الاجتماع، وعكست مؤشرات التباعد بين رؤية ترامب ومصالح الدول الأوروبية التى تواجه تحديات خارجية أيضًا تتمثل فى الحرب الروسية الأوكرانية، التى تعد تهديدًا للأمن الأوروبي وفق رؤية العديد من القادة الأوروبيين بعد أن كشفت الحرب عن عجز الدول الأوروبية لمساندة أوكرانيا بعيدًا عن المظلة الأمريكية. الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي ونائبه جي دى فانس بمطالبة الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو بزيادة إنفاقها الدفاعي ليصل إلى 5% من ناتجها المحلي.

رؤى متباينة

تتباين رؤى الدول الأعضاء فى حلف الناتو بشأن زيادة الإنفاق الدفاعي ما بين تيارين رئيسيين:

(*) التيار الأول: تقوده الولايات المتحدة الأمريكية منذ وصول ترامب إلى السلطة وسعيه لتغيير السياسة الأمريكية فيما يتعلق بضمان أمن الحلفاء، حيث ينطلق ترامب من قناعة بأن الولايات المتحدة الأمريكية تم استنزافها اقتصاديًا وعسكريًا لحماية الأمن الأوروبي، وأن على الأوروبيين ضرورة تحمل تكلفة أمنهم أو على أقل تقدير تحمل الجانب الأكبر من ذلك الإنفاق. لذلك جدّد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في أول حضور له لاجتماعات وزراء خارجية الدول الأعضاء في الناتو مطالب الرئيس الأمريكي ترامب بأن يقوم الحلفاء فى حلف الناتو بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي.

(*) التيار الثاني: يضم غالبية الدول الأوروبية، التي أعلنت عن زيادة مخصصات إنفاقها الدفاعي، إلا أنها ترى أن زيادة الإنفاق ليصل إلى 5% يمثّل صعوبة بالغة. لذلك جاءت تصريحات العديد من المسؤولين الأوروبيين المشاركين فى اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو لتصب في ذلك الاتجاه، فقد أشار وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى أن فرنسا حددت لنفسها هدفًا يبلغ ما بين 3- 3,5%، وأن فرنسا تستعد للوصول إليه وهو يقترب من مستوى الإنفاق الأمريكي. فيما أعلن وزير الخارجية النرويجي إسبن بارث بأن أعضاء حلف الناتو يعملون على وضع هدف إنفاق جديد، ليتم الإعلان عنه في القمة المقبلة في يونيو، لكنه أشار إلى "أن هدف الـ5% أعلى بكثير بالطبع مما تنفقه الولايات المتحدة نفسها، وهو طموح عالٍ للغاية، ونحن لسنا مستعدين للالتزام برقم في الوقت الحالي، فمثلما من المهم إنفاق الكثير، فمن المهم أيضًا الإنفاق بذكاء أكبر". وبرغم ذلك دعا الأمين العام لحلف الناتو مارك روته إلى زيادة الإنفاق الدفاعي ليصل إلى أكثر من 3% بشكل كبير، التي اعتبرها ربما قد تكون أكبر زيادة في الإنفاق الدفاعي بالنسبة للجانب الأوروبي منذ نهاية الحرب الباردة.

تحديات ماثلة

فى ظل التباين ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والحلفاء الأوروبيين فيما يخص زيادة الإنفاق الدفاعي لدول الحلف، فإن الدول الأوروبية تواجه العديد من التحديات العسكرية والاقتصادية والسياسية التى تجعل الحلف فى قلب تلك المعادلة وتطرح إعادة تشكيل دوره ليواجه تلك التحديات التي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:

(*) التحولات المحتملة فى السياسة الأمريكية: شكّلت التحولات المحتملة فى السياسة الأمريكية إزاء أوروبا منذ عودة ترامب أحد التحديات التى تواجه الأمن الأوروبي، فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من تناوب رؤساء أمريكيين ديمقراطيين وجمهوريين فلم يتبنى أحد منهم نقد حلف الناتو، واعتباره عبئًا على الولايات المتحدة واستنزافًا لقدراتها كما فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برغم أن الحلف جسّد ملامح القيادة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية فى فترة ما بعد الحرب الباردة، التى وظّفت قدرات الحلف للمشاركة في التدخل فى مناطق متعددة من أقاليم العالم ترجمةً للهيمنة الأمريكية والأحادية القطبية. لذلك فإن معضلة الأمن الأوروبي منذ وصول ترامب ترتبط بسعيه لإثبات أن أوروبا وعلى الرغم من قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية فإنها تظل قاصرة فى مجال حماية أمنها والدفاع عنه.

(*) الحرب الروسية الأوكرانية: جسّدت الحرب الروسية الأوكرانية المعضلة الرئيسية للأمن الأوروبي، لا سيما أنها مثلت إخفاقًا للحلف فى ردع روسيا برغم الدعم الاقتصادي والعسكري الذي قدمته الدول الأوروبية لأوكرانيا، فقد ظهر الحلف كطرف ضعيف في مواجهة روسيا، أو على الأقل لديه مستوى محدود من العمل خارج الحدود الأوروبية، رغم توسعته واقترابه من الحدود الروسية عبر فنلندا. لذلك جاء تأكيد الأمين العام لحلف الناتو مارك روته على أن التهديد الروسي لا يزال قائمًا، حيث تعزز موسكو من تعاونها مع الصين، وإيران وكوريا الشمالية، مما لا يؤثر فقط على أوكرانيا، بل يشكل خطرًا على الحلف والعالم أجمع.

(*) التقارب الروسي الأمريكي: أثار التقارب الأمريكي الروسي مخاوف العديد من الدول الأوروبية، للتوصل إلى خطة سلام فى أوكرانيا من دون تمثيل أوربي فى المحادثات الروسية الأمريكية، لذلك جاء تأكيد مارك روته الأمين العام لحلف الناتو بتجديد الحلفاء بالتزامهم بدعم أوكرانيا ومساعدتها في بناء قواتها المسلحة في المستقبل، فضلًا عن مناقشة وزراء خارجية دول الحلف للمحادثات الجارية التي تقودها الولايات المتحدة مع كل من أوكرانيا وروسيا، لإيجاد حل عادل ومستدام لإنهاء الحرب.

(*) الحروب التجارية: من المحتمل أن تشكّل الحروب التجارية أحد ملامح الصراعات فى الفترة المقبلة. وهو ما سيؤثر على الأسواق والاقتصادات الأوروبية، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية التى تبنت مبادىء حرية السوق وحرية انتقال البضائع والأفراد، فقد جاءت قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيما يتعلق بفرض رسوم جمركية على الواردات الأمريكية من دول العالم المختلفة ومنها الدول الأوروبية لتمثل ارتدادًا عن تلك القيم والمبادىء وتضع العالم على أعتاب حروب تجارية بعد أن قررت الصين الرد على تلك الإجراءات بسياسات مماثلة. كما أعلنت الدول الأوروبية أن التضامن بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تعرّض لضربة إثر القرارات التي اتُخِذت وأعلن عنها الرئيس ترامب بفرض رسوم جمركية على بلدان العالم لم يسلم منها الاتحاد الأوروبي. لذلك جاء تأكيد وزير الخارجية الفرنسي نويل بارو خلال اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو بأن الاتحاد الأوروبي سيرد وسيقوم بمواجهة الرسوم الجمركية التى فرضتها الولايات على الصلب والألومنيوم.

(*) حدود الاستقلالية الأوروبية: فى إطار ما شهدته ميزانيات الدفاع الأوروبية من ارتفاع من عام 2022 إلى عام 2024، حيث بلغ الإنفاق الدفاعي نسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي، وحقّق هذا الهدف 23 من أصل 32 عضوًا في الناتو تزايد الحديث عن الاستقلال الدفاعي الأوروبي ومدى إمكانية تحقيقه. وهو ما أدى إلى تنامي الدعوات الأوروبية لتدشين جيش أوروبي مستقل للدفاع عن أوروبا ضد مصادر التهديدات الداخلية والخارجية، وتقليل الاعتماد على المظلة الأمنية الأمريكية غير أن ذلك التوجه يواجه انقسامات داخل الدول الأوروبية التى تدرك صعوبة الحفاظ على أمنها بعيدًا عن المساندة الأمريكية. وهو الأمر الذي تجلي فى ترحيب وزراء خارجية دول حلف الناتو بتأكيد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بالتزام الولايات المتحدة بالبقاء داخل الحلف.

إجمالًا، يواجه حلف الناتو تحديات متعددة ترتبط بالتحديات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التى تواجه الدول الأوروبية، التى تحتاج لإعادة تشكيل دور الحلف ليتلاءم مع تلك التحولات التى أضحت تشكل تهديدًا للأمن الأوروبي بعد أن كشف الصراع الروسي الأوكراني عن معضلات الأمن الأوروبي وإخفاق دعوات الإستقلالية الأوروبية عن المظلة الأمريكية التى لا تزال تشكل الضامن الأساسي للأمن الأوروبي.