يجري أمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرج، جولة آسيوية لكل من كوريا الجنوبية واليابان انطلقت في 29 يناير 2023، لبحث التعاون بين المنظمة السياسية الأمنية الغربية وكل من سول وطوكيو، يلتقي خلالها الرئيس الكوري يون سوك يول، ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، لتعزيز القيم المشتركة في الحرية والديمقراطية والحفاظ على حكم القانون والتضامن في مواجهة التحديات الأمنية العالمية غير المسبوقة، حسب تصريحات وزير الخارجية الكوري بارك جين. فيما ذكر ستولتنبرج، أن الزيارة تُظهر عمق الترابط الأمني بين الحلف وسول في عالم اليوم؛ للحفاظ على النظام القائم على القواعد، في إطار اتهام الناتو لبيونج يانج بمساعدة موسكو في الحرب الروسية الأوكرانية.
المصالح المشتركة:
زيارة ستولتنبرج، تعد أول استعراض لسياسة الحلف الجديدة، التي وضعتها قمة مدريد 29 يونيو 2022، وخرجت في إطار وثيقة "المفهوم الاستراتيجي"، كما شهدت القمة حضورًا لافتًا لحلفاء من خارج الناتو على رأسهم، الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، في تأكيد على عمق التعاون السياسي والأمني بين الحلف من جهة وسول وطوكيو من جهة أخرى، وذلك على النحو التالي:
(*) دعم أوكرانيا: بحث أمين عام حلف الناتو في سول إمكانية دعم أوكرانيا بالقذائف المدفعية، ودعا خلال لقاء بمعهد تشي Chey للدراسات المتقدمة في العاصمة الكورية سول لمراجعة سياستها بشأن عدم تصدير الأسلحة لدول منخرطة في صراعات، التي تعيق أي صادرات أسلحة من سول إلى كييف في الوقت الراهن. وخلال العام الماضي وبفعل مخاوف تصاعد الحرب في أوكرانيا باتجاه الغرب، ارتفعت صادرات الأسلحة الكورية الجنوبية عالميًا لتصل إلى 17 مليار دولار في نوفمبر الماضي، مقارنة بنحو 7,25 مليار دولار في عام 2021. وجاءت بولندا على رأس المهتمين بالصناعات الدفاعية الكورية الجنوبية، إذ تعاقدت على توريد ونقل تكنولوجيا صناعات دفاعية كورية شملت دبابات K2 ومدافع هاوتزر K9، واستلمت أول دفعة منهما في ديسمبر 2022.
(*) مواجهة التحدي الكوري الشمالي المتصاعد: يتصل التعاون بين الحلف وكوريا الجنوبية واليابان بالتهديدات والمخاوف من نشوب نزاع مع كوريا الشمالية لصالح تعزيز قدرات الدفاع السيبراني، والتعاون العلمي في الكشف المبكر عن الانبعاثات الكيميائية أو البيولوجية أو الإشعاعية أو النووية، ومكافحة تهريب الأسلحة والمتفجرات المستخدمة في العمليات الإرهابية. وفي نوفمبر الماضي افتتحت كوريا الجنوبية بعثة دبلوماسية لدى حلف الناتو في إطار تعزيز التعاون في مجالي مكافحة الإرهاب ومنع الانتشار النووي.
(*) التحدي الصيني: يتفق الأطراف على أهمية الحفاظ على انفتاح منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وضمان حرية الملاحة عبر مضيق تايوان. ويلتقي حلف الناتو وكل من كوريا الجنوبية واليابان في مخاوفهم من احتمالات اجتياح الصين لجزيرة تايوان على مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية. يحتل الحليفان الآسيويان مكانة مهمة في الاستراتيجية الأمريكية لتقييد وصول الصين إلى الرقائق الإلكترونية المتطورة في إطار التحالف المقترح Chip 4 (بين أمريكا واليابان وكوريا الجنوبية وهولندا)، خوفًا من تعزيز قدرات جيش التحرير الشعبي.
حدود التصعيد:
شهدت قمة قادة حلف الناتو في 2021 تحولًا في نظرة الحلف نحو الصين، باعتبارها تهديدًا محتملًا للنظام الدولي القائم على القواعد، في تحول قادته إلى حد كبير الإدارة الأمريكية الحالية التي اعتمدت سياسة بتعزيز التحالفات الأمنية الإقليمية في مواجهة المنافسين الاستراتيجيين وعلى رأسهم بكين، ليبدأ التحول التدريجي للتحالف الغربي إزاء مواجهة صعود بكين، خاصة مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ويقتصر الانخراط العسكري المباشر في منطقة المحيطين، على دول غربية محدودة على رأسها الولايات المتحدة.
يمثل تعميق العلاقات بين دول جنوب شرق آسيا ومنظمة حلف شمال الأطلسي تجاوبًا مع الرؤية الأمريكية للتهديد الذي تمثله الصين على النظام العالمي القائم، وهو ما يثير مخاوف الصين باتجاهين؛ التخوف الأول لدى بكين (وبيونج يانج) يتمثل في تكوين تحالف أمني إقليمي على غرار حلف الناتو في ضوء مؤشرات عدة على رأسها مشاركة زعيمي البلدين في قمة مدريد 2022 واجتماعهما مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في أول لقاء من نوعه منذ 2017، وتعميق التعاون السياسي والأمني بين واشنطن وسول وطوكيو. ويحد من ذلك التعاون تحفظ اليابان وكوريا الجنوبية على الإشارة الصريحة لـ"التهديد الصيني" في ضوء العلاقات التجارية والتي تعطي أفضلية لبكين كأكبر شريك لكلا البلدين فضلًا عن الواقع الجيوسياسي المعقد في المنطقة، ففي حين قد تلجأ اليابان للتدخل إذا اشتعل نزاع عسكري حول تايبيه كما اتخذت موقفًا أكثر صرامة تجاه موسكو رغم اعتمادها على الغاز الروسي، تبقى كوريا الجنوبية في وضع هش يؤثر على مواقفها ومساعيها للموازنة بين حلفائها الغربيين من جهة والصين من جهة أخرى، على ضوء ارتباطها بالاقتصاد العالمي وطرق التجارة البحرية التي ستكون عرضة للتهديد في حالة اشتعال الصراع.
وثانيًا؛ في إطار التحالف الغربي، باتت تداعيات مهاجمة تايوان على أجندة الحلف منذ سبتمبر الماضي، إذ شاركت الخارجية الأمريكية مع الحلفاء الأوروبيين تحليلًا اقتصاديًا لتبعات حصار الجزيرة بخسائر تقدر بنحو 2,5 تريليون دولار للاقتصاد العالمي، حسب صحيفة "فايننشال تايمز". وتسعى الصين للحفاظ على العلاقات والتعاون مع القوى الأوروبية الرئيسية وعلى رأسها فرنسا وألمانيا مع رفضهما تبني النهج الأمريكي في التعامل مع بكين حفاظًا على التوازن الدولي في عالم متعدد الأقطاب ومنعًا لتفجر نزاع جديد يضر بالاقتصادات الأوروبية التي تلقت ضربات موجعة جراء الحرب الروسية الأوكرانية. وعبّرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس السويسرية منتصف يناير 2023، عن توجه أوروبا المعارض لتصعيد الموقف من الصين، فضلًا عن مواصلة التعاون الاقتصادي مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، الذي تعتمد عليه بروكسل في توفير أكثر من 90% من المعادن الحيوية اللازمة لدعم التحول الأوروبي الكامل للاقتصاد الأخضر، ودعت لتقليل خطورة "De-risking" وليس فك الارتباط "Decoupling" بالاقتصاد الصيني، في إشارة لخيار غربي داعٍ لتحجيم الصين ومنعها من ضم تايوان بالقوة، في حين يمثل حجم التعاون والمصالح الاقتصادية بين الغرب والصين صمام أمان لاستقرار الاقتصاد العالمي وردع أي مواجهة عالمية جديدة.
وإجمالًا؛ يمثل دعم حلف الناتو لأوكرانيا نموذجًا تتخوف منه الصين في إطار ما تطلق عليه القيادة الصينية بـ"عقلية الحرب الباردة"، سواء على صعيد مساعي استنساخه في منطقة المحيطين أو على صعيد دعمه المحتمل للتحالف المزمع تشكيله (على المستوى الفني والتقني وتبادل الخبرات)، فضلًا عن كونه مؤشرًا ضمنيًا على تحول محتمل للموقف الغربي من بكين وقضية ضم جزيرة تايوان، وقد يؤثر على توجهات الحلف كمظلة أمنية لحماية المصالح الغربية، في ضوء تحول الاهتمام العالمي باتجاه منطقة المحيطين كمرتكز أساسي للاقتصاد العالمي تستحوذ فيه تايبيه وحدها على 65% من صناعة الرقائق (وأكثر من 90% على صناعة الرقائق المتطورة)، الحيوية للاقتصادات والجيوش الغربية.