أثار خفوت الدور الأوروبي في انطلاق المباحثات الأمريكية الإيرانية، والتي بدأت جولتها الأولى في العاصمة العُمانية مسقط في 12 أبريل 2025 حول البرنامج النووي الإيراني من دون مشاركة أوروبية، وترجيح عقد الجولة الثانية من المفاوضات في العاصمة الإيطالية روما، العديد من التساؤلات حول حدود الاتجاه الأمريكي نحو الانفراد بتسوية الأزمات الدولية بعيدًا عن الشركاء الأوروبيين، ومدى انعكاسه على مستقبل العلاقات الأمريكية الأوروبية، وماهية الدوافع الأمريكية نحو تكرار ذلك السلوك الانفرادي في ملفات مشتركة أمريكية أوروبية، منها: الملف الأوكراني برغم ارتباطه بالأمن الأوروبي، وملف فرض الرسوم التجارية على الدول الأوروبية، وملف تعزيز قدرات حلف الناتو، ومطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف بزيادة إنفاقها الدفاعي ليصل إلى 5 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، وهو ما يشكل عبئًا على اقتصادات الدول الأوروبية.
مؤشرات التباعد
شكل التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية المسار الذي أسهم في تعزيز مكانة المنظومة الغربية وهيمنتها على التفاعلات العالمية.
(&) المباحثات الأمريكية الإيرانية: أسهمت ممارسة الرئيس الأمريكي لسياسة الضغوط القصوى، والتي مارسها خلال ولايته الأولى، وأدت إلى الانسحاب الأمريكي عام 2018 من الاتفاق النووي الإيراني، ومعاودته لتكرار تلك السياسة خلال ولايته الثانية ما بين التهديد بعمل عسكري يستهدف العمق الإيراني أو التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران في انطلاق التفاوض الأمريكي الإيراني، والذي تكلل بالجولة الأولى من المفاوضات الأمريكية الإيرانية بوساطة عُمانية في 12 أبريل 2025، وترجيح عقد جولة ثانية من المفاوضات في روما. غير أن ثمة اتجاهًا يرى أن عدم مشاركة الدول الأوروبية والتي عرفت بالترويكا، وهي الدول الثلاث الموقعة على اتفاق 2015 والخاص بنووي إيران، وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا، يعكس النهج الانفرادي الأمريكي في التعامل مع الملفات المعقدة، واتجاه الولايات المتحدة للتركيز على مصالحها دون الأخذ في الاعتبار مصالح الدول الأوروبية، والتي تمتلك آلية سناب باك للعودة التلقائية إلى العقوبات الدولية على طهران قبل أكتوبر 2025، موعد انتهاء فاعلية اتفاق 2015. لذلك يعتقد ذلك الاتجاه بأنه ليس من المستبعد أن يلجأ الأوروبيون إلى هذه الآلية لتسهيل عودتهم ومشاركتهم في العملية التفاوضية، باعتبار أن الولايات المتحدة، التي خرجت من اتفاق عام 2015، لم تعد مؤهلة لتفعيل سناب باك وستكون بحاجة إلى الأوروبيين.
(&) الانتقادات الأمريكية الموجهة للأوروبيين: تنوعت الانتقادات التي وجهها المسؤولون الأمريكيون للدول الأوروبية، مما يُشكل انعكاسًا للتباعد بين الجانبين حول العديد من المنطلقات. وهو الأمر الذي بدأه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن الأوروبيين استنزفوا القدرات الاقتصادية الأمريكية، كما انتقد نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس، خلال مشاركته في أعمال مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير 2025 الحكومات الأوروبية بأنها تمارس رقابة صارمة على حرية التعبير، وأنها لم تنجح في التعامل مع قضية الهجرة غير المنظمة. وهو الأمر الذي أدى إلى رفض القادة الأوروبيين لتصريحات فانس، حيث انتقد المستشار الألماني السابق أولاف شولتس، ما وصفها بالتعليقات العدائية لنائب الرئيس الأمريكي، وما تنذر بتأجيج التوترات بين أكبر اقتصاد أوروبي وواحد من أهم حلفائها. فيما وصفت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، خطاب فانس بأنه بدا وكأن الولايات المتحدة تحاول افتعال قتال مع أوروبا.
(&) تسوية الصراع الروسي الأوكراني: أثار اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية للتفاوض مع روسيا من ناحية وأوكرانيا من ناحية أخرى، بشأن تسوية الصراع الروسي الأوكراني انتقادًا أوروبيًا لاستبعادهم من تلك المفاوضات، واعتبرها بعض المحللين بأنها تعكس أحد أوجه التباعد الأمريكي الأوروبي. وهو الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لاستضافة قمة أوروبية في باريس تهدف إلى تعزيز، ودعم الموقف الأوكراني في تلك المفاوضات، والبحث عن كيفية تشكيل قوة سلام أوروبية يُمكن أن تنتشر لمراقبة وقف إطلاق النار حال التوصل إليه.
(&) الرسوم التجارية على الدول الأوروبية: جسدت الرسوم التجارية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على عدد من دول العالم ومنها الدول الأوروبية مؤشرًا على التباعد الأمريكي الأوروبي في ظل الارتباط الاقتصادي بينهما، قبل أن يعود ترامب ويقرر تعليق تلك الرسوم لمدة 90 يومًا على العديد من الشركاء التجاريين. وهو ما أدى إلى ارتفاع الأسهم الأوروبية في الأسواق. هذا الارتفاع يجسد التشابك والتداخل بين الاقتصادين الأمريكي والأوروبي، وبحسب بيانات مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة، ففي عام 2024 بلغ إجمالي تجارة السلع بين الجانبين 975.9 مليار دولار، مما يعكس عمق الترابط بينهما.
التحولات المُحتملة
هناك سيناريوهان لا ثالث لهما بشأن التحولات المحتملة لمستقبل العلاقات الأمريكية الأوروبية، وهما:
السيناريو الأول: الاتجاه نحو التباعد في العلاقات الأمريكية الأوروبية، وهو الأمر الذي سينعكس على احتمالية تعزيز التعاون الأوروبي الأوروبي، من خلال تعزيز مؤسسات التعاون الأوروبي وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي الذي يجسد الوحدة الأوروبية، واتجاه الدول الأوروبية نحو صياغة استراتيجية دفاعية أوروبية، فضلًا عن طرح مسار تعزيز التعاون الاستراتيجي مع الصين في ظل التقارب الأمريكي الروسي. غير أن التحدي الذي يواجه تحقيق هذا السيناريو الذي يعد الأقل ترجيحًا يرتبط بأن الصين تسعى فقط لتعزيز تعاونها الاقتصادي مع أقاليم العالم المختلفة ومنها أوروبا، وتوظيف تلك المصالح بعيدًا عن الصدام مع الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة الحالية.
السيناريو الثاني: استعادة التقارب الأمريكي الأوروبي، وهو السيناريو الأقرب للتحقق في ظل الارتباط الوثيق بين ضفتي الأطلسي، وتشابه التحديات التي تواجه الجانبين، وفي مقدمتها سعي القوى الصاعدة اقتصاديًا في النظام الدولي، ومنها الصين وروسيا والهند، لتحويل النظام الدولي من أُحادي القطبية إلى نظام دولي متعدد الأقطاب. وهو ما يعني إنهاء الهيمنة الغربية على تفاعلات المشهد الدولي، وما يتبعه ذلك من تحولات في بنية النظام الدولي ومؤسساته وتراتبية القوى الكبرى بداخله.
مجمل القول، برغم مؤشرات التباعد في العلاقات الأمريكية الأوروبية، إلا أن المصالح الاستراتيجية بين الجانبين ستتمكن من حماية ذلك التحالف الاستراتيجي الذي يجسد الهيمنة الغربية، ويدعم الأحادية القطبية التي تعني استمرار المنظومة الغربية في حماية مصالحها، وبما يحول دون صعود أقطاب دولية أخرى في مقدمتها الصين وروسيا، وهي الدول التي لا تزال أوروبا تتوجس من مخاوف تمددها، سواء اقتصاديًا كما تفعل الصين بالتغلغل الاقتصادي داخل الدول الأوروبية أو عسكريًا، كما فعلت روسيا في أوكرانيا.