الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

أزمات متفاقمة.. تأثير سياسات ترامب على تماسك حلف الناتو

  • مشاركة :
post-title
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

في ظل الانتقادات اللاذعة التي أطلقها نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، تجاه الديمقراطيات الأوروبية، خلال مشاركته بمؤتمر ميونخ للأمن، 14 فبراير 2025، فضلًا عن دعوة إدارة ترامب لأوروبا بتحمل المزيد من المسؤولية عن أمن القارة العجوز، بينما تتولى الولايات المتحدة حلحلة الأزمات حول العالم.

وتتجه أنظار العالم إلى ألمانيا التي استضافت المؤتمر الأمني السنوي الأهم بميونخ، في ظل انتخابات مصيرية ارتفعت فيها حظوظ أقصى اليمين بدعم من إدارة أمريكية لم يخفِ أركانها تأييدهم لحزب البديل من أجل ألمانيا، الذي حل ثانيًا في انتخابات، 23 فبراير 2025، في وقت يترقب فيه الحلفاء الأوروبيون ارتدادات التقارب بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، على أمن القارة الأوروبية، والحاجة للاعتماد على النفس في مواجهة انسحاب بعض القوات الأمريكية وسيناريوهات أي هجوم روسي على الأراضي الأوروبية.

وألقت أجواء سياسة ترامب عبر التفاوض المباشر مع روسيا حول استعادة العلاقات الثنائية وبدأت المفاوضات بشأن إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، بظلالها على القوى الأوروبية التي باتت تطالب بضمانات أمنية في تبدل للمواقف مع موسكو، التي أطلقت شرارة الحرب بعد رفض مطالبها بتقديم ضمانات أمنية أمريكية، حول وقف تمدد حلف الناتو والتعهد بعدم ضم أوكرانيا مستقبلًا للتحالف العسكري الغربي.

أولويات متعارضة

ارتبطت تحركات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تجاه أوروبا منذ عودته للبيت الأبيض، 20 يناير 2025، بالرغبة في صناعة السلام العالمي وتحييد الولايات المتحدة عن الصراعات الدولية، خاصة تلك الصراعات الممتدة، التي لا تحمل مصالح اقتصادية وتجارية مباشرة لواشنطن، وفي مقدمتها الصراع الروسي الأوكراني.

(*) التحالفات السياسية: أحدثت الحرب الروسية الأوكرانية تغييرات بالغة في الساحة السياسية الأوروبية وأدت لبروز أحزاب أقصى اليمين في العديد من العواصم الرئيسية، ضمن الائتلافات الحكومية أو الأزان البرلمانية على المستويين الوطني والأوروبي، نتيجة لزيادة الأعباء الاقتصادية وتصاعد الخطاب المناهض للهجرة بالتوازي مع نجاعة أدوات الإكراه الاقتصادي في تغيير الخريطة السياسية الداخلية.

وجاءت رسائل أركان الإدارة الأمريكية الحالية لأوروبا ونخبة يمين ويسار الوسط نتيجة لحالة العزلة المفروضة على أحزاب أقصى اليمين لتجنب إشراكهم في التحالفات السياسية والانتخابية، وهو ما برز في السياسة الألمانية عبر انتقادات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، لزعيم حزبها الاتحاد المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس، في تحالفه مع حزب البديل من أجل ألمانيا، لتمرير مشروع قانون حول تشديد الهجرة، 29 يناير الماضي، وهو ما أدى لإعلان ميرتس عزمه تشكيل حكومة ائتلافية مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الذي حل ثالثًا في انتخابات 23 فبراير 2025، بنسبة 16.4% من الأصوات وتجنب إشراك حزب "البديل" الذي جاء في المرتبة الثانية بنسبة 20.8%.

القوات الأمريكية في أوروبا

(*) تقاسم الأعباء العسكرية: تشمل رسائل الإدارة الأمريكية في هذا الصدد لروسيا والحلفاء الأوروبيين إلى رغبة ترامب في تجنب صراع عالمي جديد بتقليص الإنفاق الدفاعي أولًا وحث القوى الأوروبية على تحمل تكاليف حماية أمن القارة وتقديم الضمانات الأمنية لأوكرانيا. وثانيًا تشير تقديرات رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي جوزيبي كافو دراجوني، إلى أن عدد القوات الأمريكية في أوروبا يتجاوز 100 ألف عنصر تشمل العديد من قوات قيادة الجيش الأمريكي في أوروبا وقوامها نحو 65 ألفًا إلى جانب القوات الإضافية، التي استقدمتها إدارة بايدن في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، بالتوازي مع خطط إدارة ترامب لتوفير 50 مليار دولار من ميزانية الدفاع لدعم أولويات أخرى، مثل حماية الداخل الأمريكي عبر بناء نموذج دفاع جوي متعدد الطبقات لطالما روج له الرئيس الأمريكي على غرار منظومات الدفاع الجوي والصاروخي الإسرائيلية، منها "القبة الحديدة" وتعزيز القدرات البحرية لمواجهة التطور المستمر لبحرية جيش التحرير الشعبي الصيني.

ومن شأن إنهاء الحرب في أوكرانيا وتسوية النزاع مع روسيا أن يقلص عدد القوات بنحو 20 ألف مقاتل على الأقل، حسب تقديرات مسؤولين أوروبيين، وهو ما تسعى دول الحلف الأوروبية لتعويضه بنشر فيلق متعدد الجنسيات يتراوح عدده بين 20 و45 ألفًا، في ضوء خطط الحلف لمواجهة النقص الناجم عن تقليص القوات الأمريكية، حسب موقع بوليتيكو.

ويصاحب ذلك رسائل أمريكية لافتة ومقلقة للحلفاء الأوروبيين، بالتزامن مع إعداد الحلف تحديثًا لخطط الإنفاق الدفاعي ولتعزيز إعادة انتشار القوات في مواجهة أي هجوم روسي محتمل، تمهيدًا لإقراره في قمة لاهاي، خلال الصيف المقبل، بما يشمل نشر 100 ألف جندي، خلال 10 أيام وحشد 500 ألف، 6 أشهر.

وعلى الرغم من الدعوات المستمرة منذ قمة حلف الناتو في ويلز 2014، لزيادة الإنفاق الدفاعي للحلفاء إلا أن عددًا قليلًا من دول الحلف التزم بالمعيار السابق للحلف المتمثل في إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع وتخصيص القسم الأكبر من تلك المخصصات للمشتريات الدفاعية. وتسببت الحرب الروسية الأوكرانية في زيادة الإنفاق الدفاعي لدول الاتحاد الأوروبي بنسبة 30%، في الفترة من 2021 إلى 2024 لتبلغ إجمالًا نحو 341 مليار دولار تعادل نحو 1.9% فقط من الناتج الإجمالي، حسب وول ستريت جورنال.

الضمانات الأمنية

(*) الملف الأوكراني: يتكثف الحراك الأوروبي لمواجهة توجه ترامب لإيجاد تسوية ناجزة لحرب أوكرانيا، في ظل عدم وجود ضمانات كافية لكييف والقوى الأوروبية، أبرزها المفاوضات الثنائية المنفردة بين واشنطن وموسكو على قاعدة القبول بالأمر الواقع على الأرض وإلقاء مسؤولية منح ضمانات أمنية لأوكرانيا على عاتق أوروبا. على الجانب الآخر وبينما تنفتح بروكسل على إيجاد تسوية "منصفة" تشمل تنازلت إقليمية، تتطلع كييف ودول حلف الناتو لإيجاد ضمانات أمريكية سياسية وأمنية لعدم عودة القتال مرة أخرى وضمان الالتزامات السابقة "2008" بحق أوكرانيا في الانضمام لحلف الناتو في مرحلة ما، وهو ما اعتبرته مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد ورئيسة وزراء إستونيا كايا كالاس، أقوى الضمانات الأمنية وأقلها تكلفة على دول الحلف، مشيرة إلى أن دعم أوكرانيا استثمار في أمن أوروبا، في تصريحاتها لشبكة سي إن إن، 23 فبراير 2025.

المقترحات الغربية لضمان أمن أوكرانيا

ورغم التطمينات الأمريكية من إمكانية انضمام أوروبا في المفاوضات، حول إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية في مرحلة لاحقة، إلا أن الذاكرة الأوروبية تعتبر التوجه الأمريكي "استرضاءً" لروسيا وتستدعي سيناريو 1938، حينما أقرت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بمعاهدة ميونخ على منح إقليم السوديت بتشيكوسلوفاكيا لألمانيا النازية مقابل تجنب الصراع، لكن طموح هتلر بالتوسع أدى بالنهاية لنشوب الحرب العالمية الثانية.

ومنذ المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين، 12 فبراير 2025، تقود فرنسا تحركًا أوروبيًا محتملًا لضمان الأمن في أوكرانيا عبر نشر قوات أوروبية في الأراضي الأوكرانية، بعيدًا عن خطوط المواجهة ودون مشاركة القوات الأمريكية، باعتبار أوروبا شريكًا قويًا للولايات المتحدة تؤمن بمبدأ ترامب "السلام من خلال القوة"، وهو ما يعزز فرص رؤية الرئيس إيمانويل ماكرون، لأمن أوروبا وهو ما يشهد معارضة بعض القوى الأوروبية، التي تسعى لضمانة أمريكية لأمن أوروبا وعلى رأسها الحفاظ على المظلة النووية الأمريكية وعدم الاكتفاء بقدرات باريس ولندن.

(*) المطالبات الإقليمية: يعزز التفاهم المبدئي بين روسيا وأمريكا في عهد ترامب من مخاوف الاتحاد الأوروبي والقوى الرئيسية في حلف الناتو من إقرار صفقة سيئة تؤدي لسلام قصير الأمد في أوكرانيا وعموم القارة الأوروبية من شأنها القبول بتغيير الحدود السياسية القائمة بالقوة، في ظل تخوف مزدوج من تكرار سيناريو الحرب في أوروبا مع تغير توازن القوى القائم على الحضور العسكري الأمريكي في مواجهة روسيا من جهة، وتعزيز التهديدات للأراضي الأوروبية من قبل الحليف الأمريكي في ظل المطالبات المتكررة من الرئيس دونالد ترامب بضم جرينلاند للولايات المتحدة عبر الإكراه الاقتصادي والتجاري والتلويح بالخيار العسكري من جهة أخرى.

ورغم استبعاد الحل العسكري من الجانب الأمريكي، إلا أن خروج روسيا منتصرة من أوكرانيا يعزز الضغط على دول المواجهة في بحر البلطيق والقطب الشمالي، حال التوصل لصفقة محتملة أو تفاهم ضمني بين واشنطن وموسكو، بشأن ثروات القطب الشمالي، وهو ما تلقته الدنمارك بتعزيز الإنفاق الدفاعي والاستعداد العسكري، بالإعلان في 19 فبراير 2025، تخصيص نحو 120 مليار دولار إضافية للجيش حتى 2033، ما يرفع نسبة الإنفاق الدفاعي من 2.4% إلى 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي، خلال العام الحالي، مع توجيه نحو 40% من المبلغ المخصص إلى قيادة الجيش من أجل شراء المعدات والأسلحة اللازمة لتعزيز دفاعات البلاد في العامين 2025 و2026.

انعكاسات محتملة

أبرزت توجهات الرئيس الأمريكي تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية انقسام دول حلف الناتو، إزاء التغيرات المحتملة في القارة الأوروبية وتوازن القوى في ظل خطط تقليص الوجود العسكري الأمريكي، التي تلتقي من جهة مع متطلبات الداخل في خفض الانخراط العسكري وتقليص نفقات الدفاع ومن جهة أخرى مع متطلبات التوجه شرقًا وتعزيز الانخراط في منطقة المحيطين لمواجهة النفوذ الصيني.

(&) تحالف بديل: أدى "تأثير ترامب" في ولايته الثانية حول التوصل لتسوية للحرب الروسية الأوكرانية ودعوة الأوروبيين لمزيد من الاستثمار لضمان أمن القارة العجوز وتوفير ضمانات أمنية لأوكرانيا، بإعلان زيادة قياسية للإنفاق الدفاعي للعديد من الدول وآخرها بريطانيا والدنمارك، إلا أن هناك مجموعة من التحديات التمويلية والعسكرية وحتى السياسية لإيجاد ذلك البديل أو القوة المكملة للدور الأمريكي، الذي يستبعد الأوروبيون الاستغناء عنه في المدى المنظور.

وتشير تقديرات "بلومبرج" إلى أن أوروبا بحاجة لإنفاق 3.1 تريليون دولار إضافية على ميزانياتها العسكرية الحالية على مدار 10 سنوات تشمل إعادة بناء الجيش الأوكراني وتكلفة نشر قوات حفظ سلام، وتوحيد المشتريات الدفاعية اللازمة لدول الاتحاد الأوروبي لتعزيز مخزون المدفعية والأنظمة الصاروخية والدفاعات الجوية والطائرات المسيرة، في إطار الورقة البيضاء للأمن والدفاع التي من المتوقع أن تصدر مارس المقبل، خاصة في ظل المناقشات التي جرت بين وزراء دفاع الحلف لرفع معيار الإنفاق من 2% إلى نحو 3.5%، الذي لا يقترب من تحقيقه سوى بولندا "صاحبة أكبر جيش في الحلف بين الولايات المتحدة وتركيا" ودول البلطيق واليونان.

ورغم النصر السياسي الذي أحرزته رؤية الرئيس الفرنسي لأمن أوروبا بعد مجيء إدارة ترامب، باعتبارها الزعيم السياسي لأوروبا الساعي لملء الفراغ المحتمل للقيادة الأمريكية للقارة العجوز عبر الدعوة لتشكيل تحالف "الراغبين" من الحلفاء الأطلسيين، بمشاركة بريطانيا وبولندا وألمانيا وإيطاليا وهولندا والدنمارك إلا أن تحديات عديدة تواجه تجسيد تلك الرؤية على رأسها الحاجة لحشد المزيد من الجنود وتعزيز الإنتاج والمشتريات الموحدة للقدرات الدفاعية من أنظمة الصواريخ متعددة المديات والدفاعات الجوية وقذائف المدفعية، إلى جانب الحاجة لضمانة أمريكية موثوقة ممثلة في الالتزام الواضح بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف وتأكيد استمرار الحضور والانتشار العسكري والمظلة النووية الأمريكية التي لا يمكن الاستغناء عنها أوروبيًا وأمريكيًا.

(&) إرباك الجبهات: بعدما كان المفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو يتجه تدريجيًا لتعريف الصين كتهديد محتمل للمصالح الغربية والحلفاء الرئيسيين في منطقة، تعزز توجهات ترامب انكفاء الحلف في أوروبا مع تعاظم المخاوف من التهديد الروسي لدول البلطيق والجبهة الشرقية، التي قد تشهد انخفاضًا إجباريًا في الاستثمارات في البنية التحتية العسكرية للحلف في غياب دعم إدارة ترامب لتلك الخطط، فضلًا عن إعادة نشر الأصول العسكرية الأمريكية، في إطار التسوية المحتملة والشاملة للحرب الروسية الأمريكية وقضايا الأمن والتسلح النووي.

وتنعكس المخاوف الأوروبية في 3 ملفات رئيسية أولها أن هدف ترامب من التفاهم مع روسيا يستدعي الإنصات لمطالبها كقوة عالمية كبرى باستعادة النفوذ في مجالها الجيوسياسي "السوفييتي" مقابل تقليص الانخراط مع الصين، وثانيها أن الحوار الثنائي قد يفضي لصفقة شاملة دون مشاركة الأوروبيين وتقديم تنازلات أمنية في الفضاء الأوروأطلسي على امتداد الجبهة الشرقية لحلف الناتو من البحر الأسود جنوبًا إلى القطب الشمالي وثالثها أن إظهار الضعف أمام الرئيس الأمريكي يعزز هشاشة الأمن الأوروبي أمام الضغط والابتزاز اقتصاديًا واستراتيجيًا من واشنطن وموسكو.

وإجمالًا؛ على الرغم من حالة الإجماع الأوروبي على أولوية مواجهة التهديد الروسي، إلا أن درجة استعداد دول الحلف من أوروبا وخارجها لتحمل أعباء أي تقليص في القدرات العسكرية الأمريكية والمخاوف المقابلة من ابتزاز الإدارة الأمريكية لدول الحلف، من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية وتجارية قد تعزز من هشاشة وتماسك الحلف وتضع الأمن الأوروبي على المحك، في ظل الاعتماد الحرج لدول الاتحاد الأوروبي على القوى الثلاث الكبرى الولايات المتحدة وروسيا والصين.

 ومع استمرار المخاوف في أوروبا من هجوم عسكري محتمل من روسيا عقب انقضاء فترة ترامب إلا أن الأمن الأوروبي لا يزال عرضة لمخاطر الانكشاف الداخلي المدعوم بالتدخلات الخارجية والحرب الهجينة عبر الإكراه الاقتصادي وصعود اليمين المتطرف، التي تهدد بتقويض قيم ومؤسسات الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف. وفي المجمل يمثل اليوم التالي للحرب الروسية الأوكرانية اختبارًا وجوديًا لقدرة أوروبا في الحفاظ على تماسكها وتحصين ديمقراطيتها من التدخلات الخارجية والاعتماد على النفس اقتصاديًا وعسكريًا، بعد ثلاث سنوات كان دول المنطقة جزءًا رئيسيًا من الحرب بأدوات مختلفة، وحال فشله في مواجهة ذلك الاستحقاق قد يواجه الاتحاد الأوروبي خطر التفكك من الداخل.