الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

حسابات جيوسياسية.. كيف يتفاعل "الناتو" مع تحدياته الشرقية؟

  • مشاركة :
post-title
قمة حلف الناتو ـ أرشيفية

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

تنعقد قمة حلف الناتو في العاصمة الليتوانية فيلنيوس يومي 11 و12 يوليو المقبل، في ظروف جيوسياسية معقدة خلقت تحديات إضافية لجناح الحلف الشرقي على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع منسوب التوتر في بيلاروسيا المجاورة، بالتزامن مع انتقال قائد مجموعة فاجنر شبه العسكرية إلى مينسك، عقب فشل التمرد المسلح على القيادة العسكرية الروسية، للمساعدة في تدريب قوات الجيش البيلاروسي.

ويزداد التوتر مع اتهام السلطات الأمنية البيلاروسية، في 26 يونيو 2023، دول الجوار (دول البلطيق الثلاث وبولندا وأوكرانيا)، بالتخطيط لانقلاب على سلطة الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، عبر تدريب أجهزة مخابرات تلك الدول لعناصر معارضة للوكاشينكو في الأراضي الأوكرانية.

جاء ذلك فيما طالب رئيس ليتوانيا جيتاناس نوسيدا، الأحد 25 يونيو 2023 -رئيس الدولة المستضيفة للقمة- حلف الناتو بتعزيز دفاعات جناحه الشرقي، ردًا على تمركز قوات فاجنر في بيلاروسيا.

إجراءات الردع

أثارت حرب جورجيا 2008 وضم شبه جزيرة القرم 2014، مخاوف دول الجناح الشرقي تجاه روسيا ودفعتها لتعزيز إنفاقها الدفاعي وفرض التجنيد الإجباري خلافًا لأغلب دول الحلف، إلا إن الحرب الروسية الأوكرانية أظهرت الحاجة القصوى إلى منظومة أمن جماعي فعّالة لتهدئة مخاوف تلك الدول صغيرة المساحة وعدد السكان، وهو ما سعى الحلف لتأكيده منذ قمة ويلز 2014 إلى قمة مدريد 2022، التي أسفرت عن مجموعة من الإجراءات الهادفة لتعزيز الردع، منها ما يلي:

(*) تعزيز الخطوط الدفاعية الأمامية: في أعقاب اندلاع العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، أقرت القمة غير العادية لحلف الناتو في بروكسل 24 مارس 2022، نشر 4 مجموعات قتال متعددة الجنسيات إضافية في دول الجنوب الشرقي للحلف (سلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا)، ليصل إجمالي عدد المجموعات القتالية المنتشرة على امتداد الجناح الشرقي 8 مجموعات في جميع دول المواجهة.

وفي قمة مدريد العادية يونيو 2022، أقر قادة دول وحكومات الحلف زيادة حجم الوحدات المنتشرة من مستوى الكتائب (نحو 1000 عنصر للكتيبة) إلى مستوى الألوية (3000: 5000 عنصر للواء)، ليبلغ عدد القوات المنتشرة على امتداد الجناح الشرقي من بحر البلطيق شمالًا والبحر الأسوء جنوبًا نحو 40 ألف مقاتل تحت قيادة حلف الناتو، إلا إن ما تم نشره فعليًا بدول المواجهة في المجموعات القتالية الثمانية نحو 10 آلاف فقط، حسب أوما لانجيسكو، المتحدثة باسم الحلف، بينما بقيت أغلب القوات في بلدانها.

(*) رفع الكفاءة والجاهزية: ركزت قمة مدريد في يونيو 2022 على دعم قدرات الدفاع النشط عبر تسريع وتيرة نشر وتعبئة قوات الحلف عالية الجاهزية القتالية على الخطوط الأمامية لدول المواجهة، وإمكان نشر وحدات دعم إضافية وتعزيزات ثقيلة إذا تطلب الأمر، ونشر الأسلحة والمعدات بصورة مسبقة في دول البلطيق وتعزيز القيادة والسيطرة على مستوى "الفرقة" بين قوات الجناح الشمالي الشرقي في شتشتين "Szczecin" ببولندا.

ولتحقيق نشر قوات إضافية عالية الجاهزية أقرت قمة مدريد نموذجًا جديدًا لتعبئة القوات يزيد من قدرة دول الحلف على تعبئة نحو 300 ألف مقاتل، نهاية العام الجاري، وبحسب الموقع الرسمي للحلف بدأت قوات الدول الأعضاء التدرب على دعم خطة نشر القوات بكفاءة وسرعة منذ مايو الماضي.

كما صعّدت دول الحلف وتيرة التدريبات المشتركة، آخرها في منطقة بحر البلطيق "التدريب البحري السنوي BALTOPS"، التي عقدت في إستونيا (من 4 إلى 16 يونيو 2023)، بمشاركة 19 دولة عضوة (إلى جانب السويد) ضمت 50 سفينة وأكثر من 45 مقاتلة. كما يشارك العشرات من طائرات الاستطلاع والطائرات المقاتلة من مختلف الطرازات في مهام تأمين أجواء الجناح الشرقي، وتنتشر قواعد تلك الطائرات في ألمانيا وإستونيا وليتوانيا وبلغاريا وبولندا.

تقديرات متضاربة

على الرغم من التعزيزات العسكرية التي دفع بها حلف الناتو إلى دول الجناح الشرقي، إلا إن انقسامًا بشأن تقدير التهديدات القادمة من روسيا يظل المحدد الأهم في السجال بين دول البلطيق وبولندا من جهة وحلفائهم في الغرب الأوروبي من جهة أخرى، في ظل دفع روسيا لنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، بينما ترى دول غرب أوروبا أن روسيا لم تعد قادرة على تشكيل تهديد وجودي يستهدف أيًا من أراضي الحلف.

نسب الإنفاق الدفاعي الغربي للناتج المحلي الإجمالي 2022-تقديرات حلف الناتو مارس 2023

(&) الميزانية الدفاعية: في ظل التشديد المتكرر لأمين عام الحلف ينس ستولتنبرج، على أهمية مواصلة الاستثمارات الدفاعية، يبرز تحدي الالتزام بتخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي من كل دول الحلف، ولا يقترب من معيار الناتو سوى 11 دولة من إجمالي 31 دولة عضوة، هي فنلندا المنضمة حديثًا إلى جانب كل من اليونان والولايات المتحدة وبولندا ودول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) والمملكة المتحدة وسلوفاكيا وكرواتيا ورومانيا. ويمثل الوزن النسبي المنخفض لأغلب تلك الدول على صعيدي القوة البشرية (باستثناء الولايات المتحدة يليها بفارق كبير المملكة المتحدة وبولندا) والاقتصادية، عامل ضغط إضافي على قدرة تلك الدول على التعبئة، وإن تميزت بعض تلك البلدان بقدرات عسكرية متطورة تعوض الفارق في العامل البشري بأرض المعركة.

ودفعت تلك الصعوبات من جهة والقدرات القتالية العالية للجيش الفنلندي من جهة أخرى، أمين عام الحلف للقول بإن هلسنكي يمكنها أن تدافع عن نفسها في الوقت الحالي، ولا تحتاج إلى قوات من الناتو على الرغم من احتفاظها بأطول حدود برية بطول 1300 كم من إجمالي 2550 إلى 2600 كم من إجمالي الحدود البرية للحلف مع روسيا.

(&) الصعوبات اللوجستية والتكتيكية: على الرغم من مساعي الاستقلال الاستراتيجية التي تتبناها دول أوروبا الغربية، إلا إن الاعتماد الأمني والدفاعي على الولايات المتحدة يظهر صعوبة تحقيق التوازن في الظروف الراهنة بين واشنطن من جهة والعواصم الغربية الرئيسية من جهة أخرى، نتيجة فاعلية وجاهزية نشر الوحدات الأمريكية البرية في الوقت المطلوب، خلافًا لباقي القوى الغربية التي تعاني نقصًا في الاستعداد القتالي والإنفاق الدفاعي والقوة البشرية القتالية القابلة للتعبئة، ولم تفِ كندا والدول الأوروبية التي تقود مجموعات الحلف القتالية في دول الجناح الشمالي الشرقي بتعهداتها كاملة في ترقية مساهمتها بجنود إلى مستوى لواء، نتيجة نقص تعانيه تلك الدول في القوة البشرية المدربة مثل كندا التي تقود المجموعة القتالية في لاتفيا.

بينما تعلل دول أخرى موقفها بعدم جاهزية البنية التحتية المناسبة لبقاء أعداد أكبر من القوات وتوفير منشآت للتدريب، وهو ما أشار إليه وزير الدفاع الألماني في 26 يونيو 2023، أن بلاده مستعدة لنشر لواء قوامه 4000 جندي بشكل دائم في ليتوانيا-حيث تتولى قيادة المجموعة القتالية- شريطة توافر البنية التحتية المناسبة لبقاء القوات وإمكان إجراء التدريبات. وبحسب مجلة فورين بوليسي، في بريطانيا، التي تتولى قيادة المجموعة القتالية في إستونيا تعهدت بنشر 3 آلاف جندي، لكن أغلب تلك القوة لا تزال في بريطانيا ومعداتهم في ألمانيا.

ممر سوالكي الاستراتيجي بين جيب كالينينجراد وبيلاروسيا-فايننشال تايمز

(&) جبهة جديدة: فرضت تطورات الصراع الغربي الروسي دخول بيلاروسيا على ساحة المواجهة، في ظل وزنها المؤثر بين روسيا وبولندا وهمزة الوصول جيب كالينينجراد الروسي على بحر البلطيق، عبر ممر سوالكي البالغ 65 كم، الذي يفصل دول البلطيق الثلاث عن بولندا وباقي دول الحلف، ومن هذا المنظور يقدم موقع بيلاروسيا ميزة استراتيجية لموسكو تجاه دول البلطيق في حال اندلاع مواجهة مباشرة أو تصعيد التوترات على غرار قرار ليتوانيا السابق بقطع الطريق أمام قطارات البضائع والسلع بين البر الرئيسي الروس وجيب كالينينجراد.

كما أن التهديد الإضافي في هذا الإطار يمكن في نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، بهدف توسيع نطاق التهديد النووي والرد على توسع الحلف بضم فنلندا وقرب انضمام السويد، وتثير إعادة التموضع المحتملة لمجموعة فاجنر شبه العسكرية في بيلاروسيا مخاوف دول الحلف في الجناح الشمالي الشرقي، خاصة لاتفيا وليتوانيا وبولندا، وهو ما أشار إليه الرئيس البولندي أندريه دودا، في 28 يونيو 2023، معربًا عن قلقه من انتقال المجموعة إلى بيلاروسيا، ما يمثل تهديدًا على ريجا وفيلنيوس ووارسو.

كما حذرت كايا كالاس، رئيسة وزراء إستونيا، خلال مؤتمر صحفي مع ينس ستولتنبرج، 28 يونيو 2023، من بيلاروسيا واعتبرتها "خطيرة" و"غير متوقعة مثل روسيا" و"شريكة في العدوان"، مؤكدة أن قمة الحلف من المهم أن تعكس وحدة دول الحلف في الدفاع عن "كل شبر" من أراضي الدول الأعضاء.

وتشير التصريحات الغربية خلال أزمة التمرد وما أعقبها إلى مخاوف بشأن إمكان سيطرة قوات غير نظامية على الأسلحة النووية، سواء في موسكو أو مينسك، بعدما صرح الرئيس البيلاروسي عن طلب وزير دفاعه الاستعانة بمجموعة فاجنر كجزء من الجيش، حسب وكالة أنباء بيلتا الرسمية.

وإجمالًا؛ على الرغم من إجراءات الردع لأي تحرك "عدائي" محتمل تجاه دول المواجهة بالجناح الشرقي، تظل خطط حلف الناتو غير فعّالة خاصة بنظر دول البلطيق، في ظل الاستراتيجية الحالية في الدفاع النشط وامتصاص صدمة الهجوم عبر أنساق متوالية على غرار الحالة الأوكرانية، بالنظر لفقدانها (دول البلطيق) العمق الاستراتيجي وقرب مراكز صنع القرار فيها من روسيا وبيلاروسيا، خاصة ليتوانيا التي تستضيف عاصمتها فيلنيوس، قمة الحلف المقبلة، وفي ظل عدم نجاح الحلف في نشر المجموعات القتالية بصورة كاملة في قواعدها بدول المواجهة أو نشر المعدات والأسلحة المخصصة لتلك المجموعات متعددة الجنسيات يغيب عنصر الردع.

ومن ثم ستبحث القمة المقبلة تحديث الخطط بما يشمل تعبئة قوات الحلفاء بكفاءة وجاهزية وتعزيز الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء والتغلب على نقاط الضعف، وعلى رأسها الاستراتيجية الدفاعية لحرمان الخصم فرصة المبادرة.