عبّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 13 فبراير 2025، عن رغبته في استئناف محادثات الحدِّ من الأسلحة النووية مع روسيا والصين، والاتفاق بين الدول الثلاث على خفض الميزانيات الدفاعية، منتقدًا الاستمرار في إنتاج وتكديس الأسلحة النووية.
وأثارت تقارير إخبارية أمريكية المخاوف من نشوب صراع نووي على وقع التوترات في منطقة الشرق الأوسط و"تسريع إيران خطى إنتاج سلاح نووي"، في ظل توجه إسرائيلي لشنِّ هجمات على المنشآت النووية الإيرانية حسبما أفادت صحيفة وول ستريت جورنال في 12 فبراير 2025، نقلًا عن تقييم استخباراتي أمريكي في الأيام الأخيرة لإدارة جو بايدن.
تأتي تلك التطورات في ظل استحقاقات هامة قد توسِّع نادي القوى النووية وترقُّب لموقف إدارة ترامب الجديدة بشأن سياسات الانتشار النووي، بعدما فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقوبات موسعة على إيران في 4 فبراير الجاري؛ لدفعها إلى مفاوضات جديدة بشأن برنامجها النووي، مع التلويح بخيار ضربة إسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية إذا لم تنجح جهوده لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي. كما تأتي المكالمة الهاتفية بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي ترامب، وهي الأولى منذ بدء الولاية الثانية للأخير في إطار مساعيه لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، لتثير التساؤل بشأن تأثير العلاقة بين أكبر قوتين نوويتين على مستقبل النظام النووي العالمي على صعيد منع الانتشار واتفاقيات الحد من التسلح، على وقع تعليق مشاركة روسيا في معاهدة نيوستارت التي تنتهي في فبراير 2026 ما لم تتوصل موسكو وواشنطن لاتفاق بشأن تجديدها أو استبدالها.
متغيرات متعددة
على الرغم من البيان الخماسي للقوى النووية الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا) في 3 يناير 2022، الذي تضمن إقرار تلك القوى أن الحرب النووية لا يمكن الفوز بها ولا يجب أن تُخاض، إلا أن شدة الانفجارات الجيوسياسية في مختلف أقاليم العالم منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022 وحتى التصعيد الإسرائيلي الإيراني على وقع العدوان الإسرائيلي على غزة أفرزت عددًا من المتغيرات الحاكمة والتي قد تسهم في العودة المحتملة لسباق تسلح نووي غير مسبوق.
(*) العقائد النووية: تأتي روسيا في مقدمة الدول التي أدخلت تعديلات في عقيدتها النووية على وقع الحرب الدائرة في أوكرانيا وسماح إدارة بايدن لأوكرانيا بقصف العمق الروسي بالأسلحة الأمريكية، وتشمل التعديلات التي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في نوفمبر الماضي، حق المبادرة باستخدام السلاح النووي إذا تعرضت روسيا أو حلفاؤها لهجوم بأي من أسلحة الدمار الشامل، أو في مواجهة هجوم تقليدي قد يعرض سلامة روسيا (ووحدة أراضيها) للخطر، كما تتضمن حالة قصف العمق الروسي من قبل دولة غير نووية مدعومة من قوة نووية.
وأفادت وسائل إعلام أمريكية (من بينها نيويورك تايمز) بأن إدارة جو بايدن أقرَّت خطة استراتيجية نووية سرية في مارس 2024 لتعزيز الردع النووي الأمريكي في مواجهة روسيا والصين وكوريا الشمالية، وتشمل تركيز الاهتمام على القوة النووية الواعدة للصين، في إطار التوجه الأمريكي طويل الأمد لمواجهة صعود الصين والذي كان الدافع الأساسي لانسحاب ترامب في ولايته الأولى من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى مع روسيا في 2 أغسطس 2019 لصالح إبرام اتفاق جديد يشمل القوى الثلاث، إلى جانب التذرع بعدم الالتزام بتنفيذ مقررات المعاهدة التي تقضي بإزالة القدرات الصاروخية القصيرة ومتوسطة المدى (500 إلى 5500 كم) القادرة على حمل رؤوس نووية في أوروبا وتشمل الصواريخ الباليتسية الأرضية والصواريخ المجنحة.
(*) زيادة مخزون الأسلحة النووية: تشير بيانات مكتب الميزانية بالكونجرس إلى تخصيص 75 مليار دولار سنويًا لتحديث الثالوث النووي الأمريكي في الفترة من 2023 إلى 2032، وتشمل تحديث الأنظمة الصاروخية العابرة للقارات والغواصات الباليستية والقاذفات الاستراتيجية ذات البصمة الرادارية المنخفضة.
وأشار تقييم استخباراتي أمريكي سابق (2022) إلى أن الصين تسعى لزيادة مخزونها من الأسلحة النووية من مستوى 400 رأس حربي إلى 1500 بحلول 2035، ولفت تقرير سنوي لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في يوليو 2024 إلى ارتفاع مخزون الأسلحة النووية الصينية إلى 500 رأس حربي في يناير 2024. وعلى الرغم من ذلك يؤكد موقع الخارجية الصينية تمسك بكين بسياسة عدم البدء باستخدام السلاح النووي "No-first-Use policy".
(*) الصراعات الجيوسياسية: أثارت الصراعات الجيوسياسية المشتعلة في أوروبا والمحيطين والشرق الأوسط العديد من المخاوف بشأن تغير دور السلاح النووي في سباق تشكيل النظام العالمي الجديد وتحول دور الأسلحة النووية من كونها أداة للردع إلى وسيلة للتصعيد المحفوف بالمخاطر بغرض فرض توازن جديد للقوى، فقد بدأت روسيا بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا في يوليو 2023، بالتوازي مع تلويح الرئيس الأوكراني بتطوير سلاح نووي كضمانة لأمن كييف إذا لم توافق الدول الغربية على انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، بعد الإخلال بمذكرة بودابست 1994 التي تخلت بموجبها أوكرانيا عن الأسلحة النووية التي تعود للحقبة السوفييتية بضمانات أمنية من الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة.
وأشارت "وول ستريت جورنال"، في 12 فبراير 2025، إلى أن تقييمًا للاستخبارات الأمريكية يظهر استعداد إسرائيل لتوجه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية خلال العام الجاري بدعم وتسليح الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب، وجاء التقرير بعد أيام من تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" (في 3 فبراير) أشار إلى تقيم استخباراتي أمريكي يفيد بأن فريقًا من العلماء النوويين الإيرانيين يبحث تسريع الخطى لتطوير سلاح نووي بدائي وقد يستغرق إنجازه من 12 إلى 18 شهرًا.
(*) توسيع نطاق نشر الأسلحة النووية: أعاد البنتاجون في الولاية الأولى لترامب تأسيس القيادة الفضائية بالجيش الأمريكي، نظرًا لزيادة مخاطر عسكرة الفضاء الخارجي كمجال لخوض الحرب، وأشار ترامب في 2019 إلى رغبته في الاستثمار بإنشاء طبقة دفاع صاروخي بالفضاء الخارجي للأغراض الدفاعية -وربما هجومية- وفق طبيعة المخاطر والتهديدات. ويعتبر العديد من المحللين الجمهوريين أن إشادة ترامب بمنظومة القبة الحديدة الإسرائيلية ورغبته في تطوير قبة حديدية صاروخية متعددة الطبقات لحماية كامل إقليم الولايات المتحدة تهدف بالأساس لمواجهة أي تهديدات محتملة لضربة نووية للجزيرة الأمريكية التي تعد بمنأى عن أي تهديدات صاروخية قصيرة ومتوسطة المدى، وأن التهديدات الصاروخية الأهم تتمثل في تنامي القدرات الصاروخية العابرة للقارات والقادرة على حمل رؤوس نووية.
وفي فبراير 2024، أثارت الأوساط الإعلامية والحكومية الأمريكية (رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب حينها مايك تيرنر) المخاوف بشأن عكوف روسيا على تطوير أسلحة نووية في الفضاء، وكانت روسيا صعَّدت من تحدي عسكرة الفضاء من خلال إسقاط قمر صناعي سوفييتي متقادم في منتصف نوفمبر 2021 عبر صاروخ "a-235".
محفزات الانتشار في عهد ترامب
لم تسعف الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب في إبرام معاهدة جديدة للقوى النووية القصيرة والمتوسطة تضم كلًا من روسيا والصين، وخلافًا لذلك يقف العالم على شفير أزمة نووية تختبر نهج ترامب في إدارة الأزمات الدولية.
(&) تآكل النظام العالمي للحد من الانتشار النووي: مع فك ارتباط القوى النووية الرئيسية، وفي المقدمة روسيا والولايات المتحدة اللتان تمتلكان نحو 90% من مخزون الأسلحة النووية، باتفاقيات الحد من الانتشار النووي وآخرها اتفاقية نيو ستارت للحد من الأسلحة النووية الهجومية التي أعلنت روسيا تعليق الالتزام بها في 21 فبراير 2023 ومن المقرر أن تنتهي في 5 فبراير 2026 ما لم يتفق الرئيسان الأمريكي والروسي على تجديدها لمدة 5 سنوات إضافية. ويعد التفاهم بين الولايات المتحدة وروسيا محركًا رئيسيًا لمنع نشوب أي أزمة نووية في المستقبل وللحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي.
(&) عدم اليقين من السياسات الأمريكية والحاجة للضمانات الأمنية: تنطوي سياسة ترامب بشأن حل القضايا النووية على العديد من المخاطر، إذ لا يلتزم الرئيس الأمريكي بالأطر القانونية والدبلوماسية متعددة الأطراف في حل المسائل الأمنية، وينتهج بدلًا من ذلك "عقيدة الصفقة" لحل الأزمة الروسية الأوكرانية والملفين النوويين الإيراني والكوري الشمالي، لتحقيق مكتسبات انتخابية وسياسية قصيرة الأمد، ما قد يعرض المصالح الاستراتيجية الأمريكية للخطر ويعزز مخاوف حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا. فمن شأن توصل دونالد ترامب لاتفاق مع زعيم كوريا الشمالية لا يضمن إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية بالتوازي مع تعزيز الضغوط على اليابان وكوريا الجنوبية لدفع المزيد من تكاليف وأعباء الانتشار الواسع للقوات الأمريكية على أراضيهما أن يدفع سول وطوكيو في مرحلة متقدمة لامتلاك سلاح نووي، وهو ما ألمح إليه الرئيس الكوري المعزول يون سوك-يول في يناير 2023.
ويشير نهج ترامب في إدارة ملف البرنامج النووي الإيراني مع تعظيم الضغوط الاقتصادية والجيوسياسية على طهران بالتوازي مع ما يبدو "تطابقًا شكليًا" مع أجندة الحكومة اليمينية في إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو في الملف الإيراني قد تدفع لتصعيد غير محسوب في الشرق الأوسط.
ارتدادات محتملة
تتعدد التحديات التي تواجه منع الانتشار والحد من التسلح النووي وتفادي اندلاع صراع عالمي بالأسلحة النووية، ويمكن قياس الارتدادات المحتملة لتأثير سياسة ترامب على مسار التسلح النووي وفق السيناريوهين التاليين:
السيناريو الأول: المحادثات المباشرة، وينطلق هذا السيناريو من دعوة ترامب لكل من الصين وروسيا لاستئناف محادثات شاملة للحد من الأسلحة النووية والدعوة لخفض الميزانيات العسكرية باعتبارها اللبنة الأولى لترميم النظام الدولي لمنع الانتشار النووي. ويدعم ذلك رغبة ترامب في نيل جائزة نوبل للسلام والرغبة المتبادلة في تخفيف حدة التوترات العسكرية بين القوى الكبرى وبدء مسار للسلام بين روسيا وأوكرانيا للحد من فرص نشوب أزمة جديدة على غرار أزمة الصواريخ الكوبية 1962.
ويعترض ذلك المسار التغيرات التي طرأت على العقائد النووية ومحددات استخدام السلاح النووي التي لم تَعُدْ أداة للردع والردع المضاد عبر "التدمير المؤكد المتبادل" وإنما كوسيلة لتحقيق التوازن بين قوتين غير متكافئتين (غير متماثلتين)، وفي ظل المخاطر المعقدة للصراع في منطقة المحيطين وعدم وضوح سياسة ترامب تجاه التحالفات الأمنية والشراكات الاستراتيجية التي أسستها إدارة بايدن وإزاء الملف النووي لكوريا الشمالية، وهو ما يرتبط بتقديم "صفقات منصِفة" تخدم مصالح جميع الأطراف المعنية وتقديم ضمانات أمنية موثوقة للحلفاء وعلى رأسهم كوريا الجنوبية التي لوَّح رئيسها المعزول يون سوك-يول بإمكانية امتلاك وتصنيع أسلحة نووية.
السيناريو الثاني: الفقاعة النووية، وهو أن تذهب إحدى القوى النووية القائمة أو القوى الصاعدة الساعية لامتلاك سلاح نووي إلى تصعيد السباق لإجبار القوى النووية المنافسة على التفاوض حول الحد من التسلح النووي، وتطرح بعض الأوساط البحثية القريبة من الحزب الجمهوري (معهد هدسون ومؤسسة التراث) ذلك الاقتراح على الرئيس ترامب لاستئناف التجارب النووية التي توقفت منذ عام 1992، لضمان الذهاب إلى معاهدة دولية تشمل الولايات المتحدة وروسيا والصين. ويستند البعض إلى تصريحات سابقة لترامب في 1999 حول السلاح النووي لكوريا الشمالية يعتبر فيها أن الانتشار النووي هو أكبر مشكلة تواجه الولايات المتحدة، وتتلخص رؤية ترامب في تنفيذ ضربة استباقية على الأسلحة النووية الكورية ومنصات إطلاقها في حال فشل الدبلوماسية، وهو ما لوح به ضمنيًا في دعوته للتفاوض مع إيران عقب إعادة فرض العقوبات وإبقاء طهران أمام خيار التوصل لاتفاق نووي جديد أو تعريض منشآتها النووية للقصف الإسرائيلي المدعوم استخباراتيًا ولوجيستيًا وعسكريًا من واشنطن.
يحكم الذهاب لهذا المسار فشل تدشين المحادثات الثلاثية وفق الرؤية الأمريكية خلال العام الجاري أو تدهور البيئة الأمنية في مناطق الصراع ، ما يدفع لتصعيد التجارب النووية بحد أدنى، خاصة في ظل خطة تحديث الثالوث النووي الأمريكي وإدخال منظومات صاروخية ومنصات إطلاق وقاذفات جديدة لم تعلن إدارة ترامب التخلي عنها أو مراجعتها حتى الآن.
بينما يُضعِف ذلك السيناريو رغبة روسيا إنهاء الحرب في أوكرانيا والتلاقي مع إدارة ترامب في الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي شريطة وجود ضمانات أمنية لموسكو وعلى رأسها عدم استهداف مصالحها والاعتراف بمكانتها كقوة كبرى في النظام الدولي وفاعل رئيسي في أوروبا، وهو ما ألمح إليه ترامب برغبته في إعادة روسيا إلى مجموعة السبع (مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى سابقًا) وتخفيض الالتزام الأمني الأمريكي تجاه أوروبا وحلف الناتو مقابل تعزيز الإنفاق الدفاعي لباقي دول الحلف ومنع انضمام أوكرانيا.
وإجمالًا؛ على الرغم من تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الحد من التسلح النووي، إلا أن المخاوف بشأن فشل تلك المساعي لا تزال متعاظمة، نتيجة للعديد من التحديات ومنها تآكل النظام العالمي للحد من الانتشار النووي وتغير المشهد الجيوسياسي العالمي ومخاوف حلفاء الولايات المتحدة وخصومها من سياسات ترامب لحل تلك الصراعات، والتي قد تفرز توسعًا لنادي القوى النووية وانتفاء صفة السلاح النووي كأداة للردع. ويبقى السيناريو الأول هو الأقرب للتحقق مع ما ينطوي عليه من تحديات وعراقيل أبرزها الهامش الزمني المحدود للرئيس الأمريكي الحالي في مواجهة ملفات معقَّدة لم يتمكن من البت فيها خلال ولايته الأولى.