تثير التحولات الضخمة في منطقة الشام على مدار 14 شهرًا من انتقال الحرب في غزة والعدوان على الجنوب اللبناني وانتهاءً بسقوط نظام الأسد وتقويض المقدرات العسكرية للدولة السورية القلق بشأن انتقال الصراع إلى منطقة شرق المتوسط، في ضوء الخلافات القائمة بشأن تقسيم الحدود البحرية وتقاسم احتياطيات الطاقة الواعدة، إلى جانب الأهمية الاستراتيجية للممر البحري الرابط بين أوروبا من جهة وآسيا وشرق إفريقيا من جهة أخرى على صعيد التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي تأثير التصعيد الإقليمي على البيئة الأمنية لشرق المتوسط في ضوء الإطاحة بنظام بشار الأسد في سوريا.
تحركات حثيثة
على مدار السنوات الأربع الماضية شهدت منطقة شرق المتوسط هدوءًا نسبيًا تجسد في انخفاض نشاط سفن التنقيب والصدامات البحرية التركية اليونانية وتلويح حزب الله باستهداف منشآت الغاز البحرية الإسرائيلية قبيل توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، أكتوبر 2022. ومع تصاعد التوتر على الساحل الشرقي للبحر المتوسط باندلاع حرب غزة والتوغل الإسرائيلي في جنوب لبنان وتحولات المشهد السوري بسقوط نظام الأسد، من المرجح أن تشهد المنطقة عودة للتصعيد البحري في ظل تغير التحالفات وبالتبعية طبيعة التنافس الاستراتيجي بمنطقة شرق المتوسط، مدفوعة بالعوامل التالية:
(*) الوجود الروسي: بعد عقود من تموضعها في الساحل السوري تحقيقًا لحلم الوصول للمياه الدافئة، تواجه روسيا مخاطر جدية بفقدان منفذها على البحر الأبيض المتوسط، ما يعرض خططها لتوسيع الحضور العسكري في المياه الدولية.
جاءت الخطوة الأولى لانحسار الوجود العسكري الروسي في شرق المتوسط باتفاق بين نيقوسيا وواشنطن، 16 سبتمبر 2022، لرفع القيود التجارية على تصدير الأسلحة إلى قبرص، الذي يمتد لعام 1987، في إطار اتفاق شراكة الأمن والطاقة بين الولايات المتحدة وقبرص واليونان وإسرائيل في 2019، لمنع توقف السفن الروسية في موانئ قبرص لأغراض الصيانة والتزود بالوقود.
وبالتزامن مع الإطاحة بحكم بشار الأسد في سوريا، شهدت حركة السفن الحربية الروسية في القاعدة البحرية بطرطوس تحركات غير عادية، حيث غادر بعضها بينما رسى البعض الآخر قبالة الساحل السوري تجنبًا للاستهداف.
وقبيل تحول المشهد دراماتيكيًا في سوريا أبلغ رئيس الأركان الروسي فاليري جراسيموف نظيره الأمريكي سي كيو براون في اتصال هاتفي 27 نوفمبر 2024، بإجراء تدريبات بحرية وجوية ضخمة في شرق المتوسط جرت في 3 ديسمبر 2024 بمشاركة ألف جندي و10 سفن و24 طائرة حربية تضمن إطلاق صواريخ فرط صوتية جويًا وبحريًا من طرازي كينجال وزيركون، وصواريخ كاليبر المجنحة من الغواصة نوفورسيسك. وأشارت آيه بي سي نيوز الأمريكية أن المكالمة جاءت لتحذير القوات الأمريكية الاقتراب من منطقة العمليات التي تنتشر بالقرب منها 3 سفن برمائية أمريكية على متنها 2200، إلى جانب المدمرات التي توفر الحماية الجوية الصاروخية لإسرائيل.
وعلى الرغم من عدم ورود مطالبات فورية من قبل سلطات دمشق الجديدة للجانب الروسي بسحب تواجده العسكري في الأراضي السورية، إلا أن المحادثات بشأن مستقبل ذلك التواجد يخضع لمساومات سياسية واقتصادية دولية في إطار مساعيها لحيازة الاعتراف الدولي وعلى رأسها الموقف الأوروبي الرافض لأي وجود مؤثر لكل من إيران وروسيا في سوريا، إلى جانب المباحثات المستمرة مع الجانب الأمريكي.
(*) التحركات التركية: مثّل سقوط الأسد أحد المكاسب الاستراتيجية للانخراط التركي في سوريا بالنظر لموقعها المركزي في منطقة المشرق العربي وحلقة الوصل الأهم لتركيا بالعالم العربي، وتعزز علاقات التحالف بين أنقرة وسلطات دمشق الحالية حصول تركيا على أكبر قدر ممكن من عقود إعادة الإعمار التي تُقدر مبدئيًا بنحو 400 مليار دولار وبصفة خاصة في قطاعات البنية التحتية والطاقة حسب المعهد الملكي للشئون الدولية "تشاتام هاوس" البريطاني.
وفي إحياء لحلم تعزيز موقع تركيا كمركز إقليمي للطاقة، أعلن وزير النقل التركي عزم بلاده توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع أول حكومة دائمة في سوريا في ظل ما تتمتع به دمشق من ثروات نفط وغاز بحرية لم تكتشف بعد ضمن "حوض الشام" الذي يمتد على المياه الاقتصادية لكل من سوريا وقبرص ولبنان وفلسطين (غزة) وإسرائيل وقبرص وأجزاء من المياه الاقتصادية لمصر.
(*) الأطماع الإسرائيلية: عملت إسرائيل على توسيع الاستفادة من استكشافات الغاز في البحر المتوسط وتطمع بالتوسع على حساب دول الجوار، فمنذ اكتشافه 1999 تواصل تعطيل جهود استخراج الغاز الفلسطيني قبالة سواحل غزة والتي تقدر بنحو (1.1 إلى 1.4 تريليون قدم مكعب). ومن شأن السيطرة الفعلية على كامل القطاع ومساعي فرض السيادة على شماله أن تعزز فرص تلك أبيب في فرض الأمر الواقع مستقبلًا في التنقيب وإنتاج الغاز قبالة سواحل القطاع.
وقبيل التوصل لاتفاق مع لبنان حول ترسيم الحدود البحرية نهاية أكتوبر 2022 بما يعود بالنفع على الجانبين في إنتاج الغاز في المياه الاقتصادية، سارعت إسرائيل بفرض الأمر الواقع في استكشاف حقل كاريش وبدء الإنتاج الفعلي منه، رغم تعثر التحالف الذي تقوده توتال إنرجيز الفرنسية ويضم إيني الإيطالية وقطر للطاقة في استخراج الغاز من حقل قانا وانسحاب التحالف في أكتوبر 2023. وعلى الرغم من ذلك تقدر مصادر إسرائيلية احتياطيات الغاز في السواحل اللبنانية بنحو 25 تريليون قدم مكعب.
اتجاهات محتملة للتصعيد
على الرغم من الاستفادة المزدوجة لكل من تركيا وإسرائيل من سقوط نظام الأسد وتراجع نفوذ إيران الإقليمي، إلا أن مساعي الطرفين لجني ثمار ذلك التطور في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط قد يدفع لاستمرار التوتر بين الجانبين في سوريا، وقد تنعكس تلك التطورات في سوريا وقبرص واليونان على البيئة الأمنية في منطقة شرق المتوسط على النحو التالي:
(&) العودة لصراع الطاقة: على الرغم من وجود منظمة إقليمية لتداول الغاز في تعزيز الاستقرار الإقليمي ممثلة في منتدى غاز شرق المتوسط، التي تضم مصر (دولة المقر) وقبرص واليونان والأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية وإيطاليا وفرنسا، إلا أن تطورات المشهد السوري تعزز حضور الموقف التركي من جديد في منطقة شرق المتوسط التي تقدر احتياطياتها من الغاز الطبيعي 286.2 تريليون قدم مكعب، حسب تقرير هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية 2021، مدفوعًا باتفاق محتمل لترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسوريا، إلى جانب استمرار التوتر حول جزيرة قبرص، ما يسمح بتوسيع نطاق عمليات البحث السيزمي قبالة الشطر الشمالي أو ما يعرف بـ"جمهورية شمال قبرص التركية" غير المعترف بها دوليًا، في ظل الوجود العسكري التركي المقدر بنحو 33800 جندي في الشمال. وتسعى قبرص واليونان وإسرائيل لإحياء خط "إيست ميد" بدعم من الإدارة الأمريكية المقبلة بقيادة دونالد ترامب، بعد انسحاب إدارة بايدن من دعمها للمشروع، يناير 2022.
ويمثل الزخم المحتمل للتحركات التركية في شرق المتوسط حافزًا لتجديد الشراكة القبرصية اليونانية الإسرائيلية في مجالي الأمن والطاقة، إذ حثت اتجاهات إسرائيلية لتعزيز التعاون العسكري الثلاثي لتدريب القوات البحرية القبرصية. وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان اعتبر قبرص، يوليو الماضي، قاعدة لإسرائيل وقوى غربية أخرى متهمًا نيقوسيا "حسب معلومات استخباراتية" بالمساهمة في الحرب على غزة.
وعلى الرغم من تركز الاكتشافات الجديدة لحقول الغاز خلال الأعوام الأربعة الأخيرة في المياه الإقليمية لكل من مصر وقبرص وإسرائيل، إلا أن تأزم حل القضية القبرصية ودخول سوريا على خريطة مواقع الاستكشاف المحتملة في السنوات المقبلة قد يعيدان إلى المشهد في شرق المتوسط الصراع على الغاز رغم تراجع القيمة الاستراتيجية لمسار الصدام في وجود فرص بديلة لنقل الغاز القطري عبر الأراضي السورية ونقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر خطي توركستريم وبلوستريم، وخط أنابيب الغاز الأذري عبر الأناضول "تاناب TANAP".
(&) نقل الصراع لوجهات بديلة: على الرغم من الترجيحات بمساعي روسيا لنقل عتادها وتمركزاتها العسكرية في شرق البحر المتوسط من سوريا إلى وجهات بديلة بعد سقوط الأسد، إلا أن الموقع الذي توفره سوريا لا يمكن تعويضه بالنسبة لموسكو، وهو ما يبرر تمسك روسيا ببحث فرص البقاء في طرطوس وحميميم، وذلك للعديد من الاعتبارات؛ أولها على الإطلاق أن موقع سوريا يعزز من حضور موسكو في الشرق الأوسط وإفريقيا، وقد يمثل الخروج من سوريا على الجانب الآخر تكلفة اقتصادية وجيوسياسية أكبر على موسكو تفقد بموجبها دور القوة الدولية الكبرى. وثانيها أن فقدان تلك القواعد الثابتة يعرضها لضغوط أنقرة وحلفاء واشنطن عبر إغلاق المجال الجوي أمام الطيران العسكري الروسي علاوة على القرار التركي بغلق مضيق البسفور أمام السفن الحربية دخولًا وخروجًا من البحر الأسود طبقًا لاتفاقية مونترو 1936 عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وقطع الإمدادات عن الفيلق الإفريقي وحلفاء موسكو الجدد في منطقة الساحل.
وثالث تلك الاعتبارات أن الوجود الروسي في سوريا بصورة قواعد بحرية وجوية جاء بناءً على اتفاق طويل الأمد مع حكومة دائمة، ولن تنخرط روسيا الاتحادية في مغامرة عسكرية مفتوحة في ظل معركة الاستنزاف المستمرة منذ 46 شهرًا بأوروبا والتضييق العسكري الأمريكي في شرق المتوسط دون وجود خطوط إمداد موثوقة.
وعلى الجانب الآخر؛ فإن استغلال الوضع لتأجيج الصراع وطرد الوجود الروسي من شرق المتوسط لن يكون في صالح تركيا التي ستفقد في تلك الحالة ورقة مساومة مهمة في مواجهة روسيا، في ظل التراجع الملحوظ بالعلاقات الأمريكية التركية لصالح العلاقات اليونانية الأمريكية، إذ عززت الولايات المتحدة حضورها العسكري في الجزر اليونانية بانتشارها على الأقل في ثلاث قواعد، منها قاعدتان في جزيرة كريت وأخرى في منطقة ماكري بالقرب من ميناء ألكسندروبولي الاستراتيجي، الذي دعم خطوط الإمداد العسكرية من الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى أوكرانيا ودول الحافة الشرقية منذ انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية، ومن ثم تقليل الميزة الاستراتيجية التي تتمتع بها تركيا من إشرافها على مضايق البحر الأسود، خاصة في ظل خطط تحديث شبكات الربط الحديدي بين شمال اليونان ودول الاتحاد الأوروبي وكذلك بافتتاح وحدة التخزين وإعادة التغويز العائمة في ألكسندروبولي مطلع أكتوبر 2024، ما يجعلها أحد محاور نقل الغاز لعموم دول جنوب شرق ووسط أوروبا.
وتلعب اليونان دورًا رئيسيًا في الحفاظ على التوازن الاستراتيجي بمنطقة شرق المتوسط لصالح الولايات المتحدة، من خلال توسيع الانتشار العسكري الأمريكي على جزرها الذي يعزز من قدرة القوات الأمريكية على العمل في 3 مسارح عمليات رئيسية بالشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب أوروبا، ومن ثم فإن وجود تهديد محتمل على المصالح الأمريكية أو اليونانية، من خلال إعادة الانتشار البحري الروسي أو فرض معادلات عسكرية وقانونية جديدة (من قبل تركيا) في جنوب المتوسط (بشأن ترسيم الحدود البحرية) قد يواجه برد فعل استباقي من واشنطن وحلف الناتو لاحتواء التهديد.
وإجمالًا؛ من المرجح أن تتأثر منطقة شرق المتوسط بالتغيرات في المشهد السوري، مع تعظيم حضور تركيا كمركز إقليمي لنقل الغاز إلى أوروبا عبر العديد من خطوط الأنابيب البحرية والبرية، وقد يؤثر التراجع المحتمل للوجود الروسي في المنطقة لإيجاد تسوية شاملة بين موسكو والغرب تراعي تقديم ضمانات أمنية لمختلف الأطراف واستمرار تدفق الغاز إلى أوروبا مع تقليص نفوذ الغاز الروسي في وجود عدة بدائل، وهو ما يوفر لتركيا مزايا استراتيجية واقتصادية كبرى في حال المسار التعاوني بما يشمل تعزيز التفاهمات مع اليونان والانخراط في مباحثات إضافية بقبرص ولعب دور إيجابي في تسوية الانقسام الليبي. وفي المقابل لا يمكن استبعاد احتمالات التصعيد حال دفع روسيا للانسحاب من مياه شرق المتوسط ولإخلاء قواعدها في سوريا بالتزامن مع عودة أنشطة البحث والاستكشاف في المياه القبرصية وعودة الاحتكاكات العسكرية التركية اليونانية قبالة السواحل الليبية.