الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

الجيوستراتيجية المؤثرة.. ما أهمية دول الشمال الأوروبي للولايات المتحدة؟

  • مشاركة :
post-title
الرئيسان الأمريكي والفلندي يتوسطان قادة دول الشمال

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

اختتم الرئيس الأمريكي جو بايدن جولته الأوروبية بزيارة فنلندا، بعدما ترأس بجانب الرئيس الفنلندي سولي نينيستو القمة الأمريكية-النوردية الثالثة في هلسنكي (الخميس 13 يوليو 2023) بحضور رؤساء وزراء السويد أولف كريسترسون، والنرويج يوناس جاهر ستوره، والدنمارك ميتا فريدريكسون، وأيسلندا كاترين كوبسدوتير.

كان اللافت أن يفصل موعد انعقاد القمة الثالثة بين الولايات المتحدة ودول الشمال عن آخر قمة للمجموعة 7 سنوات، حيث اجتمع قادة الدول الست في واشنطن 2016، في حين كانت أول قمة بستوكهولم 2013، ما يشير إلى تحولات البيئة الأمنية في المنطقة على وقع الحرب الروسية الأوكرانية واتساع مخاوف دول المنطقة من روسيا بعدما عدلت كل من فنلندا والسويد سياساتها الخارجية والدفاعية وانضوتا تحت مظلة حلف شمال الأطلسي.

توافق قادة البلدان الست على الاستمرار في دعم أوكرانيا، وتقدير الالتزام الأمريكي بأمن دول الشمال وبمنظومتي الأمن الأوروبي والعابر للأطلسي، فضلًا عن تعميق التعاون الدفاعي والتكنولوجي في مجالات أمن الطاقة ومرونة سلاسل الإمداد واتصالات الجيل الخامس والسادس والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والأمن السيبراني وغيرها من التكنولوجيات الناشئة.

وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل دلالات انعقاد القمة بعد انقطاع دام 7 سنوات في ضوء تحولات البيئة الأمنية في المنطقة الأورو-أطلسية.

مصالح استراتيجية:

تحمل القمة إشارة لافتة لاهتمام الولايات المتحدة بدعم التكامل بين دول الشمال تحت مظلة حلف الناتو، بانضمام فنلندا، وقرب الانضمام الكامل للسويد، في ضوء توسع نطاق المواجهة بين روسيا والقوى الغربية، لكن انضمام السويد يمثل المتغير الجوهري، الذي يمنح دول الحلف أفضلية في مسارح عمليات الجبهتين الشمالية والشرقية، في ظل توحد دول الشمال على النحو التالي:

(*) إحكام السيطرة على البلطيق: على امتداد جبهات الحلف الشمالية والشرقية تبدو السويد الشريك الأكثر أهمية، فهي محور القوة المركزي في محيطها الإقليمي بشبه الجزيرة الإسكندنافية، فمن ناحية تعد الحلقة المفقودة في منطقة بحر البلطيق، إذ بانضمامها يصبح البلطيق بحرًا للحلفاء في مواجهة أسطول البلطيق وجيب كالينينجراد الروسيين. كما تعد قاعدة الإمداد الرئيسية المحتملة في خطط الدفاع عن دول البلطيق وفنلندا في أقصى الشمال الشرقي، إذ تمتلك الأخيرة أطول حدود برية مع روسيا.

جغرافيا السويد تعزز الوحدة الجيوستراتيجية "الأورو-أطلسية"-المجلس الأطلسي

وتمتلك السويد جزرًا حاكمة من أهمها جزيرة جوتلاند التي تقع على بُعد 135 ميلًا من ليتوانيا، مقارنة بنحو 185 ميلًا عن العاصمة السويدية ستوكهولم، حسب المجلس الأطلسي، وتمتلك خط إمداد رئيسي مع باقي دول أوروبا من خلال جسر أوريسوند جنوبًا.

(*) الضغط على الموارد الاستراتيجية الروسية شرقًا: يعجّل الانضمام الفعلي للسويد في "الناتو" بفتح جبهات جديدة بين القوى الغربية وروسيا، فخلافًا للتعاون القائم بين دول الحلف والسويد على صعيد التدريبات العسكرية المشتركة، إلا أن انضمام ستوكهولم سيعزز من قدرة الحلف على نشر قوات وقدرات استراتيجية في الأراضي السويدية أو الفنلندية بما يعرّض أسطول الشمال وقدراته النووية في شبه جزيرة كولا والمجمع الصناعي العسكري في أرخانجيلسك جنوبي كولا، لمرمى أسلحة الحلف، وهو ما يلاقي على الجانب الآخر تعزيزات روسية بإنشاء فيلق الشمال في جمهورية كاريليا.

(*) عزل روسيا في القطب الشمالي: اتفقت قمة القادة في هلسنكي على حماية القطب الشمالي وتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة، فضلًا عن تقليل الاعتماد الاستراتيجي الحرج (على الدول غير الحليفة) في إشارة إلى الروابط الاقتصادية التي تستخدم للتأثير على سياسات الدول، بيد أن البيان لم يتطرق إلى التعاون مع روسيا في هذه المنطقة الحيوية والواعدة بموارد الطاقة رغم المخاوف المتزايدة من حجم البنية التحتية العسكرية ومزدوجة الاستخدام الموجودة في القطب الشمالي، فضلًا عما أحدثته الحرب من تعليق لأعمال مجلس القطب الشمالي في مارس 2022 الذي يضم الدول الستة إلى جانب كندا وروسيا، نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، قبل أن يعيد دول المجلس التعاون في بعض المشاريع في يونيو 2022 دون اشتراك روسيا التي كانت تتولى رئاسة المجلس، حتى مايو الماضي.

صراع الشمال المؤجل:

أسهمت ظروف الحرب الروسية الأوكرانية وتعقيدات مشهد التغير المناخي العالمي وانحسار الجليد في منطقة القطب الشمالي، فضلًا عن الترويج لطرق التجارة العابر للقطب الشمالي في إعادة تموضع الولايات المتحدة بالقطب الشمالي، خاصة باكتمال اصطفاف الحلفاء في مواجهة روسيا في منطقة القطب الشمالي، في ظل مساعي موسكو للهيمنة على موارد القطب والسيطرة على موارده.

ودللت قمة حلف الناتو في فيلنيوس يوليو الجاري، على أهمية تعزيز دور الحلف في ثلاث جبهات أساسية تمثل نقاط ضعف محتملة في حال اندلاع مواجهة مع روسيا، من بينها منطقة القطب الشمالي التي تشهد حضورًا روسيًا كبيرًا وبنية تحتية أكثر كفاءة من نظرائها في الدول الغربية السبع، ويمكن استعراض ذلك على النحو التالي:

(&) البنية التحتية المدنية: تتجاوز أصول روسيا العاملة في منطقة القطب من كاسحات الجليد 57 قطعة، إجمالي عدد الكاسحات العاملة لدى لحلف الناتو 52 قطعة من بينها 5 كاسحات للسويد التي تنتظر المصادقة التركية المجرية على عضويتها، إلى جانب كاسحتين للصين.

ويعبر اللجوء المتزايد لتعزيز أساطيل كاسحات الجليد عن تنافس محموم على استكشاف المجال القطبي في إطار حرب الموارد الجارية بين الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، في ظل احتواء المنطقة القطبية على نحو 13% من إجمالي الاحتياطي العالمي غير المؤكد من النفط، و30% من الغاز الطبيعي، إلى جانب العديد من العناصر الأرضية النادرة والمعادن مثل اليورانيوم والذهب والألماس والنحاس والنيكل.

وتتبنى روسيا تطوير الطريق البحر الشمالي المار عبر حدودها بالقطب الشمالي كأقصر طريق رابط بين أوروبا وآسيا، حيث يختصر مسافة الشحن من 37 إلى 22 يومًا، بينما تتبنى الولايات المتحدة وباقي دول القطب، الممر الشمالي الغربي والذي يختصر زمن الشحن بين أمريكا وآسيا من 43 إلى 32 يومًا فقط.

القواعد العسكرية لروسيا والناتو في القطب الشمالي-وكالة رويترز

(&) البنية التحتية العسكرية: تنتشر نحو 24 قاعدة جوية وبرية وبحرية روسية فعالة أو مغلقة أو منشآت مدنية يمكن تحويلها للاستخدام العسكري على امتداد إطلالة البلاد على منطقة القطب الشمالي من أقصى الشرق بالقرب من ألاسكا إلى أقصى الغرب مع النرويج وفنلندا.

وعلى صعيد التدريبات العسكرية تجري القوات الروسية تجارب اختبارات الردع النووي في تلك المنطقة، حيث تقع أقرب نقطة انتشار عسكري أمريكي في قاعدة ثول الجوية بجرينلاند. وأشارت وكالة "رويترز" للأنباء إلى إطلاق روسيا صاروخ زيركون الفرط صوتي فبراير 2022، في المنطقة الواقعة بين البر الرئيسي للنرويج وأرخبيل سفالبارد، بعد شهر من تضرر خط كابلات الألياف الضوئية الرابط بين الأرخبيل والبر الرئيسي.

وعلى وقع انهيار التعاون بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، وقع جهاز الأمن الفيدرالي الروسي اتفاقًا مع خفر السواحل الصيني أواخر أبريل 2023 بمدينة مورمانسك للتعاون في مجال إنفاذ القانون البحري بمنطقة القطب الشمالي.

(&) حضور الصين: بينما ساد التفاهم حول الحقوق السيادية لدول القطب الشمالي الثمانية قبل الحرب الروسية الأوكرانية خلافًا لثلاثة عشر دولة بصفة مراقب في مجلس القطب، إلى الحد الذي وصل لاستنكار دول المنطقة إعلان الصين أنها دولة شبه قطبية وإطلاقها طريق الحرير القطبي في 2018.

طريقي الشمال والشمال الغربي التجاريين في القطب الشمالي-وكالة رويترز

لكن القطيعة التي خلّفتها الحرب بين روسيا والدول الغربية من ناحية ووقف مشروعات بكين في المناطق القطبية الغربية ومنها جرينلاند الدنماركية من ناحية أخرى، عززت من موقف الصين في قطاعات الطاقة والبنية التحتية في الجانب الروسي والذي يمثل نحو 40% من القطب الشمالي. ووفق صحيفة هاي نورث التابعة لجامعة نورد النرويجية تبلغ استثمارات الصين في القطب الشمالي 90 مليار دولار بقطاعات الطاقة والمعادن والبنية التحتية، أغلبها في روسيا، كما أن شركة كوسكو الصينية هي أبرز مشغل أجنبي لطريق الشمال البحري بإجمالي 100 رحلة بحرية منذ 2013.

(&) المنطقة الرمادية: المتغير الآخر، هو تصاعد التوترات في نطاق أرخبيل "سفالبارد Svalbard" بالتسمية النرويجية أو "سبيتسبرجن" كما تطلق عليه روسيا، الذي يخضع، وفق معاهدة دولية موُقعة في باريس عام 1920، لسيادة النرويج، مع حق مواطني نحو 46 دولة موقعة أو منضمة لاحقًا في الإقامة والصيد واستغلال الموارد الطبيعية وإجراء الأبحاث، ونتيجة لذلك يتواجد ما بين 2900 إلى 3000 نسمة أغلبهم من الجنسيتين النرويجية والروسية، حيث تنشط موسكو في استخراج الفحم بمنطقة بارنتسبورج عبر شركة حكومية "تراست أركتيكوجل Trust Arktikugol".

ونتيجة لتصاعد التوترات زادت النرويج من إجراءاتها الأمنية في الأرخبيل الذي تمارس عليه سيادة محدودة لتمنع عبور إمدادات غذائية من روسيا إلى مواطنيها في يونيو 2022 عبر معبر "ستورسكوج" البري الوحيد الرابط بين البلدين. وفي المقابل ذكرت وسائل إعلام نرويجية احتفاء مجموعة من المواطنين الروس بذكرى يوم النصر في 9 مايو الماضي في موكب يشبه العروض العسكرية، بقيادة دبلوماسي روسي (القنصل العام في سفالبارد أندريه تشميريلو) ونحو 50 سيارة وعدد من الشاحنات والمعدات بجانب طائرة مروحية مدنية من طراز "مي-8"، في مدينة بيرنتسبورج التي يقطنها مواطنون روس وأوكرانيين وهي ثاني أكبر مدينة بعد لونجييربين.

وإجمالًا؛ يشكل اجتماع دول الشمال المرتقب تحت مظلة حلف الناتو تعزيزًا لوحدته الجيوستراتيجية بما يمنح الحلف قدرة أكبر على إرسال قوات وإمدادات لوجستية لأي من جبهتيه الشمالية والشرقية، وفي ظل ميل التوازن في القطب الشمالي لصالح روسيا بحكم مساحتها وجاهزية بنيتها التحتية بصورة أفضل للرد على أي تهديد محتمل من القوى الغربية، وعلى الجانب الآخر يمثل الحضور أو الاستدعاء المحتمل للصين التي تعرف نفسها كدولة شبه قطبية، وتسعى للاضطلاع بدور عبر دعم روسيا بالتدريبات المشتركة والتوسع في بناء وتأهيل البنية التحتية للطاقة والنقل اللوجيستي في القطب الشمالي.

كما يبرز النزوع التدريجي لعسكرة التفاعلات في منطقة القطب الشمالي بفعل عوامل تغير المناخ في ظل ارتفاع درجة الحرارة بالمنطقة بنحو 6 أضعاف المعدل العالمي وتحولها المحتمل لطرق تجارة ثابتة ومنتظمة طوال العام، فضلًا عن التوترات المحتمل في إقليم سفالبارد الذي يحتوي مخزون العالم الآمن من بذور الحبوب وأبحاث المناخ، في ظل التركيبة الديمغرافية المتعددة والتشكيك المحتمل بسيادة النرويج على تلك المنطقة، قد تتحول معها طبيعة التفاعلات إلى مزيد من القواعد والانتشار العسكري وتحويل سفالبارد إلى محور النزاع ونقطة الوثوب المحتملة بين الحلفاء الغربيين من جهة، وروسيا الاتحادية والصين من جهة أخرى.