الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

ارتدادات التصعيد الروسي الأوكراني على البيئة الأمنية للبحر الأسود

  • مشاركة :
post-title
آثار الهجوم الأوكراني على ميناء نوفوروسيسك

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

على وقع الهجمات الأوكرانية المتتالية منذ 4 أغسطس 2023، على الأصول اللوجستية والعسكرية البحرية الروسية، تحول البحر الأسود لساحة مواجهة مشتعلة، بإعلان كييف يوم السبت 5 أغسطس الجاري، أن موانئ "نوفوروسيسك وتامان وسوتشي وجيليندجيك وأنابا وتوابسي" تقع في نطاق استهداف قواتها البحرية، ردًا على انسحاب روسيا من اتفاق الحبوب وضرب موانئ أوكرانيا لمنع تصدير الحبوب بدون اتفاق.

ومثل إعلان انسحاب روسيا من صفقة الحبوب ورفضها تمديد الاتفاق في 19 يوليو الماضي في ظل العقوبات المفروضة على نظامها المصرفي وصادراتها الزراعية، تهديدًا بتصعيد الصراع في البحر الأسود، وهو الذي لم يتوقف منذ سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم في 2014.

وأحدث الإعلان عن الانسحاب تأثيرات فورية في سوق الحبوب العالمي الذي شهد ارتفاعات متتالية مع فقدان عشرات الأطنان جراء القصف، بالتوازي مع تصاعد الهجمات الأوكرانية على جسر كيرتش الرابط بين البر الرئيسي الروسي وشبه جزيرة القرم 17 يوليو 2023، في سياق الكشف عن سلاح الزوارق المسيرة للبحرية الأوكرانية، تزامنًا مع استمرار جهود الهجوم المضاد (رغم تعثره) في فصل الجبهتين الشرقية والجنوبية واستعادة التواجد في بحر آزوف شرقي القرم.

مظاهر التصعيد

فضلًا عن القيمة الرمزية التي تحتلها في روسيا، مثلت السيطرة على شبه جزيرة القرم ميزة استراتيجية لموسكو في تأكيد النفوذ بالبحر الأسود، وازدادت أهميةً مع اندلاع الحرب في 24 فبراير 2022، في إطار استراتيجية تطويق توسع حلف الناتو عبر إفقاد أوكرانيا إطلالتها الواسعة على البحر الأسود.

وتغيرت تكتيكات كييف وموسكو في البحر الأسود في سياق بعد وقف اتفاق الحبوب، واتجاه كلا الطرفين لحرمان الطرف الآخر من مزايا الإبحار الآمن وتسيير شحنات الحبوب والنفط عبر البحر الأسود دون اتفاق، بالتوازي مع تصعيد حدة المواجهات البحرية، وهو ما يمكن الإشارة إليه على النحو التالي:

(*) تعزيز المواجهات البحرية: خلال الاحتفال الروسي بيوم البحرية نهاية يوليو 2023، كشفت موسكو عن إضافة 30 قطعة جديدة للأساطيل البحرية، خاصة أساطيل الشمال والبلطيق والبحر الأسود، في ظل الخسائر التي مُني بها أسطول البحر الأسود بتدمير السفينة الرئيسية للأسطول وهي الطراد الصاروخي "موسكوفا" في 14 أبريل 2022 قبالة سواحل أوديسا، لتخلفها فرقاطة الأدميرال ماكاروف، والتي استهدفتها كييف في مايو 2022 بصاروخ "نبتون" المضاد للسفن، وفي 29 أكتوبر 2022 استهدفتها مسيرة بحرية أوكرانية مفخخة في مقر الأسطول الروسي.

وعززت كييف من نمط استهداف القدرات البحرية الروسية في شبه جزيرة القرم من خلال استهداف مقر أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول بشبه جزيرة القرم، واستهداف جسر كيرتش الرابط بين القرم والبر الرئيسي الروسي، وزادت تلك الهجمات مع تعثر تقدم الهجوم الأوكراني المضاد باتجاه زابوريجيا، ما فتح ساحة مواجهة موازية للهجوم الأوكراني المضاد على الجبهة الجنوبية عبر وضع موانئ "نوفوروسيسك وتامان وسوتشي وجيليندجيك وأنابا وتوابسي" في مجال هجومها المضاد لوقوعها ضمن نطاق الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا أو المنشآت الروسية التي تستخدم في دعم العمليات العسكرية بأوكرانيا، ويمثل ذلك التحول في سير المواجهات التفافًا من كييف لتحقيق الهدف الرئيسي للهجوم المضاد في الجبهة الجنوبية وهو قطع رأس الجسر البري وتقويض السيطرة الروسية على بحر آزوف، إلى جانب تقويض التهديد الروسي للموانئ الأوكرانية في أوديسا وميكولاييف، والتي تمثل شريانًا اقتصاديًا حيويًا لأوكرانيا وورقة ضغط في معادلة الأمن الغذائي العالمي.

ففي خضم الهجوم الروسي، دارت المواجهات الأعنف في المجال البحري بين مقر أسطول البحر الأسود الروسي في سيفاستوبول وجزيرة الأفعى الأوكرانية الاستراتيجية القريبة من سواحل رومانيا الدولة العضو في حلف الناتو، حتى أعلنت كييف استعادتها ورفع العلم الأوكراني عليها في 7 يوليو 2022.

زورق أوكراني مسير-شبكة "سي إن إن"

وفي نهاية يوليو الماضي كشفت شبكة "سي إن إن" الأمريكية من أحد القواعد البحرية عن مسيرة عائمة أوكرانية "زورق مسير" تزن 1 طن وبطول 5 كم وبمدى يصل إلى 800 كم وبسرعة قصوى 80 كم/ساعة، بحمولة متفجرات تفوق 300 كجم، كانت رأس الحربة في عمليات كييف البحرية منذ أكتوبر 2022، باستهداف جسر كيرتش في محاولة لقطع اتصال الجيش الروسي في شبه جزيرة القرم بإمداداته اللوجستية من البر الرئيسي.

(*) تصاعد احتمالات الصدام الجوي: في 14 مارس 2023، زادت المخاوف من الاشتباك الجوي بين القوات الجوفضائية الروسية وطائرات حلف الناتو، على وقع إلقاء مقاتلة روسية من طراز "سوخوي-27" وقودًا على طائرة مسيرة من طراز "إم كيو-9" تابعة للقيادة الأوروبية "يوكوم"، أدت لإسقاط المسيرة، وفي 5 أغسطس الجاري أعلنت الدفاع الروسية اعتراض مسيرة أمريكية من ذات النوع.

وعلى الرغم من هدوء حدة الاعتراضات الجوية المتبادلة فوق البحر الأسود، إلا أن المواجهات اشتدت في ظل الحرب على وقع دوريات الشرطة الجوية التابعة لحلف شمال الأطلسي "الناتو" ووكالة الحدود الأوروبية في أجواء البحر الأسود، وهو ما تعتبره روسيا على الجانب الآخر انخراطًا غربيًا مباشرًا في الصراع عبر تزويد أوكرانيا بالدعم المعلوماتي وقيادة المعارك العسكرية، حيث اعترضت مقاتلتين من طراز "سوخوي-27" ثلاث طائرات عسكرية بريطانية في 26 يونيو الماضي شملت طائرة استطلاع وحرب إلكترونية من طراز "آر سي-135" ومقاتلتين من طراز "تايفون".

مخاطر مزدوجة

يمثل محيط البحر الأسود بيئة جيواستراتيجية بالغة التعقيد نظرًا لاعتباره شريانًا حيويًا للأمن الغذائي العالمي وتجارة الحبوب لكل من روسيا وأوكرانيا إجمالًا بنحو 30% من صادرات الحبوب عالميًا، فضلًا عن كونه الممر الرئيسي لروسيا باتجاه المياه الدافئة.

كما يعد البحر الأسود نقطة الانتقال الحيوية بين مناطق جنوب القوقاز (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان) وشرق المتوسط والشرق الأوسط، مما يفسر تصاعد المواجهات ليس فقط بين روسيا وأوكرانيا، بل بين روسيا من جهة والقوى الغربية من جهة أخرى، فيما يطرح خطر تصاعد المواجهات عدة تهديدات:

(#) ضرب إمدادات الطاقة والغذاء: عكس تعليق اتفاق الحبوب رغبة روسية في إخراج أوكرانيا من سوق الحبوب العالمي، ومن ثم تقليص هامش المناورة الأوكرانية في سياق معادلة السلام التي طرحها الرئيس فلودومير زيلينسكي، مقابل تعزيز دور روسيا بتقديم الحبوب إلى الدول النامية والفقيرة بأسعار تفضيلية وتقديم حصص مجانية لبعض الدول الأكثر تضررًا من اتفاق الحبوب. ومنذ الإعلان الروسي في 17 يوليو الماضي بالانسحاب من صفقة الحبوب تصاعدت الهجمات على الموانئ الأوكرانية لتصدير الحبوب (أوديسا وتشورنومورسك وبيفديني) وعلى رأسها ميناء أوديسا الذي تعرضت منشآته للقصف بصفة مستمر منذ 11 يوليو الماضي.

واستهدفت روسيا ميناء إسماعيل الداخلي على نهر الدانوب مطلع أغسطس الجاري في مسعى لقطع الطريق على المسارات البديلة للحبوب الأوكرانية للأسواق الدولية عبر رومانيا، وبلغت الحصيلة الإجمالية للحبوب التي دمرها القصف الروسي منذ الانسحاب من اتفاق الحبوب 180 ألف طن متري حسبما نقلت وكالة "رويترز" عن وزارة الخارجية الأوكرانية يوم الاثنين 7 أغسطس الجاري.

وفي المقابل، استهدفت أوكرانيا ناقلة نفط روسية يوم السبت 5 أغسطس الجاري، في دلالة على جدية التهديدات الأوكرانية بقطع آمال في إيجاد بيئة آمنة لصادرات الطاقة، إلى جانب وقف تصدير الأمونيا الروسية عبر خط "تولياتي-أوديسا" الذي تعرض في 5 يونيو الماضي لتفجير في منطقة خاركيف، واتهمت وزارة الدفاع الروسية "مجموعة تخريبية أوكرانية" بتفجيره.

ويمكن أن يسهم ذلك في تعميق الحضور العسكري للولايات المتحدة وحلف الناتو في الجبهة الجنوبية الشرقية وبصفة خاصة رومانيا التي تتخوف من امتداد الأزمة لأراضيها على خلفية قصف ميناء إسماعيل القريب من أراضيها.

الرئيس التركي أردوغان-أرشيفية

(#) تعزيز الانكشاف التركي: يمثل تصاعد العدائيات بالبحر الأسود عبئًا إضافيًا على تركيا التي تتولى مسؤولية خفض التصعيد، بحكم سيطرتها على مضيق البسفور وبموجب اتفاقية مونترو 1936 التي تمنحها حق منع وتقييد دخول السفن والقطع العسكرية في ظل الحرب الدائرة.

ويخلق ذلك تحديًا مزدوجًا من قبل روسيا والحلفاء الغربيين بضرورة اتخاذ موقف أكثر فاعلية في إعادة روسيا إلى اتفاق الحبوب، وهو ما يرتبط في رؤية موسكو وكذلك أنقرة بتحقيق مطالب روسيا في إعادة ربط بنكها الزراعي بنظام سويفت وإعادة تصدير الأمونيا وفتح الأسواق العالمية أمام الحبوب والأسمدة الروسية. كما يسهم في تعزيز محتمل للضغوط الغربية باتجاه إدخال قطع حربية غربية في حالة الضرورة لتعزيز أمن الحلفاء.

وإجمالًا؛ يمثل التصعيد الروسي الأوكراني في ساحة البحر الأسود تهديدًا لسلاسل التوريد العالمية في مجالات الطاقة والغذاء في ظل ظرف اقتصادي عالمي حرج، كما يدفع المطالبات الأمنية لدول البحر الأسود إلى المقدمة في ظل توسيع محتمل للمواجهات باتجاه موانئ جنوب غربي أوكرانيا قد يكون تجاوزًا للخط الأحمر في منع تفاقم الصراع. كما يظهر مدى انكشاف تركيا على الصراع في البحر الأسود في ظل علاقاتها الشائكة بكل من روسيا من جهة وحلفائها الغربيين من جهة أخرى مع اعتبارها طرفًا محايدًا تنطوي خياراته بين المعسكرين على محدودية خطيرة.