في ظل ما أثبتته الأنظمة المُسيرة من فاعلية في ساحات المعارك على مستويات طائرات الاستطلاع والاشتباك والطائرات المتفجرة، يتزايد الاهتمام العالمي بتطوير المُسيرات البحرية، والممثلة في المراكب الصغيرة ذاتية القيادة، في أعمال مراقبة السواحل وتأمين الممرات البحرية الحيوية، إلا أن توجهًا صاعدًا لتطوير غواصات مُسيرة عاملة تحت سطح قد يغير طبيعة التهديدات البحرية على المستويين الأمني والعسكري.
مؤشرات الاهتمام:
ألقت الأزمة الروسية-الأوكرانية والتوترات في بحر البلطيق، الضوء على أهمية الغواصات المُسيرة ودورها المحتمل في مواجهة تهديدات بحرية غير نمطية، على غرار أنشطة التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة، ويظهر تزايد الاهتمام باقتنائها وتوسيع مشاركتها في القوات البحرية، على النحو التالي:
(*) الأزمة الأوكرانية: اشتعلت أجواء بحر البلطيق على خلفية الأزمة الروسية-الأوكرانية، مع استهداف خطي "نورد ستريم" الناقلين للغاز الروسي إلى أوروبا، حيث اتهمت الرئاسة الروسية في أول نوفمبر الجاري رسميًا المملكة المتحدة بالتخطيط والإشراف على تفجير الخطين.
وتستند موسكو لما أعلنته لندن في أغسطس الماضي، من تدريب عناصر الجيش الأوكراني على استخدام مسيرات بحرية، بهدف رصد الألغام البحرية حتى عمق 100 متر، كما أعلنت البحرية الملكية تزويد نظيرتها الأوكرانية بستة مُسيرات تحت الماء، لمواجهة الألغام البحرية التي تعترض سفن الحبوب.
وفي ذات السياق، قال الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في 5 نوفمبر 2022، إن بلاده ستشكل أسطول من المُسيرات البحرية، لحماية المناطق المياه الأوكرانية.
(*) رقمنة مياه الشرق الأوسط: في ضوء التهديدات الإيرانية المتزايدة على حركة الملاحة البحرية والهجمات ضد ناقلات النفط في المنطقة، وأنشطة تهريب الأسلحة، أعلنت الولايات المتحدة تأسيس قوة مهام مشتركة (القوة 59) في سبتمبر 2021، التي تتبع قيادة الأسطول الخامس في البحرين، وتعتمد على تكامل الأنظمة المُسيرة الجوية (الطائرات) والبحرية السطحية والغاطسة، بهدف تحقيق الردع والمواجهة الإقليمية الفعالة للتهديدات البحرية المشتركة الممتدة من مياه الخليج شرقًا حتى البحر الأحمر غربًا.
(*) غواصات "القسام": نقلت وسائل إعلام عبرية عن الجيش الإسرائيلي تصديه لغواصة يتم التحكم بها عن بعد، تتبع "كتائب القسام"، انطلقت من سواحل غزة لاستهداف منشأة غاز قبالة سواحل أسدود، في مايو 2021.
سباق دولي:
يبرز تنافس دولي على تطوير الأنظمة البحرية المُسيرة العاملة في كبريات القوات البحرية في العالم، والتي بدأت في الظهور على الساحة قبل 10 أعوام، وهي على النحو التالي:
(*) الولايات المتحدة: تنخرط شركات الصناعات الدفاعية الأمريكية، وعلى رأسها "بوينج" و"لوكهيد مارتن" في تطوير الطوربيدات المُسيرة وتعزيز أنظمة القيادة والتوجيه الذاتية بها، لتتواجد في أعماق البحر لأطول فترة ممكنة.
وتمتلك "لوكهيد"، الغواصة مارلين التي تنطلق من سفن السطح، وتستخدم لأغراض تجارية وعسكرية، في أعمال المسح البحري والاستطلاع، ولديها القدرة على العمل في مجموعات، والاشتباك مع القطع والأغراض البحرية المعادية، حسب موقع الشركة.
كما تعمل شركة "بوينج" على تطوير مُسيرة "أوركا" التي كشفت عنها في مايو الماضي، والتي من المخطط أن تُستخدم في زرع الألغام البحرية، وأنشطة الحرب الإلكترونية ومكافحة الغواصات والسفن الحربية.
(*) روسيا: وفي مقدمة الأنظمة البحرية المسيرة، يأتي طوربيد "بوسيدون" أو ما يعرف بـ"طوربيد يوم القيامة"، الذي يبلغ مداه 10 آلاف كم وسرعته 200 كم /ساعة، والقادر على حمل رأس حربي نووي بقدرة تدميرية هائلة، تبلغ 100 ميجا طن، حسب وسائل الإعلام الروسية الرسمية.
واستعرضت روسيا قدرات الطوربيد المُسير العامل على غواصتي "بيلجورود" و"خاباروفسك" النوويتين (بواقع ستة طوربيدات لكل غواصة)، في خضم الأزمة الروسية الأوكرانية، وبحسب الجانب الروسي فإن الطوربيد "بوسيدون" قادر على استهداف وتدمير حاملات الطائرات والغواصات وسفن السطح، كما يمكن أن تهدد مدنًا ساحلية بأكملها، عبر إحداث موجات تسونامي ضخمة بارتفاع يصل إلى 500 متر.
(*) الصين: أظهرت الصين الشعبية طموحها للهيمنة على المياه الزرقاء في بحري الصين الشرقي والجنوبي والمحيطين الهندي والهادئ مستقبلًا خلال معرض الصين الدولي للطيران والفضاء، في نسخته الرابعة عشر بمدينة تشوهاي جنوب البلاد، في الفترة من 8 إلى 13 نوفمبر الجاري، حيث كشفت عن نموذجها للغواصة المُسيرة هايشين 6000 (Haishen 6000).
كما أعلنت صحيفة جنوب الصين الصباحية، في أغسطس الماضي، أن فريقًا بحثيًا من شرق الصين يعكف على تطوير غواصة مُسيرة يمكنها الطيران، وتنفيذ مجموعة متنوعة من المهام المدنية التجارية والعسكرية.
تهديدات محتملة:
لا يزال تطوير الأنظمة البحرية المُسيرة عمومًا والغاطسة على وجه الخصوص، في مراحله الأولى، لكن المؤشرات الأولية تظهر انخراطًا متزايدًا في تطوير تلك الأسلحة على غرار الطائرات المسيرة التي باتت أكثر استقلالية في عمليات الإطلاق والتوجيه، وفيما يلي أبرز التطورات المحتملة في استخدامات المسيرات البحرية الغاطسة، من واقع التهديدات الناشئة عن استخدامها:
(&) عمليات التخريب: قد يدفع التطور في مدى وعمق عمليات الغواصات المسيرة إلى الاعتماد عليها في تهديد المصالح الاقتصادية والجيوسياسية للخصوم والأعداء في البيئة البحرية، مثل منصات النفط والغاز البحرية، أنابيب نقل الغاز، والكابلات البحرية للاتصالات والإنترنت، أو استهداف المصالح المتحركة، مثل ناقلات النفط والسفن التجارية.
(&) التهديدات غير المتماثلة: من المحتمل أن يؤدى توفر تلك التقنية إلى استخدامها في أنشطة التنظيمات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة، عبر استخدام تلك الغواصات في نقل الأسلحة أو تهريب المخدرات واستهداف البنية التحتية العسكرية، مثل القواعد البحرية للدولة المستهدَفة.
(&) مواجهات البحار والمحيطات: يستهدف تطوير غواصات مُسيرة بالأساس مراقبة بيئة التهديدات البحرية والمساهمة في التصدي للألغام البحرية واستطلاع الأنشطة العدائية، إلا أن وجود أنظمة مُسيرة قادرة على حمل رؤوس نووية يهدد بتوسيع نطاق استخدامها وتعميق مداها العملياتي لمكافحة الغواصات، خاصة في البحار المفتوحة والمحيطات أو خطوط التماس بين القوى الدولية المتصارعة، مما ينذر بخلق بؤر توتر في منطقة آسيا-المحيط الهادئ، وبحر الشمال وبحر البلطيق ومياه الشرق الأوسط.
وختامًا؛ يمكن القول إن استمرار التوترات الجيوسياسية على المستويين الإقليمي والدولي، يعزز من عسكرة الفضاء البحري العميق، واللجوء إلى تطوير استخدام الغواصات المُسيرة من الأنشطة الدفاعية إلى الهجومية، خاصةً إذا ما أدمجت الدول المطوِّرة لتلك القدرات مع أفرع قواتها المسلحة، وهو ما يلزم معه تعزيز قنوات التواصل العسكرية بين الدول المشاطئة في البيئات البحرية الإقليمية وفي البحار المفتوحة والمحيطات، لتفادي المواجهات البحرية، أو أي عمليات تخريب تستهدف البنية التحتية العالمية في البحار، والتي تهدد الأمن والسلم الدوليين.