الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

إلى أين يصل مستوى التصعيد بين بيلاروسيا وأوكرانيا؟

  • مشاركة :
post-title
الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

يعود التوتر بين أوكرانيا وبيلاروسيا مع استمرار الحشود العسكرية على جانبي الحدود، إذ أعلنت الاستخبارات الأوكرانية، الأحد 26 أغسطس 2024، رصد حشود عسكرية على الحدود البيلاروسية تشمل عناصر مجموعة فاجنر العسكرية والقوات الخاصة البيلاروسية ودعت مينسك لسحب قواتها، وسط أجواء متوتر على خلفية إعلان الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، منتصف أغسطس الجاري، حشد ثلث قوات بلاده على الحدود مع أوكرانيا واتهامه للأخيرة بنشر 120 ألف جندي.

ويظهر التصعيد الراهن والمصاحب للتوغل الأوكراني في مقاطعة كورسك الروسية التداعيات الأمنية على بيلاروسيا، في إطار موقعها الجغرافي كدولة حبيسة انحازت إلى روسيا في الحرب الراهنة وسمحت لقوات موسكو باستخدام أراضيها ضمن الحرب الروسية الأوكرانية، التي انطلقت 24 فبراير 2022، وهو ما عزز التوتر بين مينسك وكييف وأثر على العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين.

وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول هذا التحليل أبعاد التوتر الحالي بين بيلاروسيا وأوكرانيا وتداعيات التوغل على مستوى الاستفزازات بين البلدين ومحددات موقف مينسك للتعامل مع احتمالات توسع المواجهة بين روسيا والغرب.

توتر متصاعد

يعود تضرر العلاقات بين بيلاروسيا والقوى الغربية إلى إعادة انتخاب الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، لولاية سادسة عام 2020، واتهام الولايات المتحدة والدول الأوروبية لسلطات مينسك بتزوير الانتخابات، وسط مظاهرات واحتجاجات في الشارع البيلاروسي، ومع توسع مظلة العقوبات الغربية على بيلاروسيا وغلق الموانئ الأوروبية أمام السلع البيلاروسية، بات الطريق إلى موسكو حتميًا في ظل الدعم الأمني والاقتصادي الروسي.

ومع بداية التوغل الأوكراني في كورسك 6 أغسطس 2024، تطور الموقف البيلاروسي من الانتقاد إلى التحذير والدعوة لمفاوضات وتسوية سياسية بين روسيا وأوكرانيا وصولًا للموقف الحالي، ويمكن توضيح ملامح التصعيد بين البلدين على النحو التالي:

(*) دعوة لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية: رغم الموقف المتصاعد على الحدود البيلاروسية الأوكرانية، دعا لوكاشينكو في 15 أغسطس الجاري، خلال مقابلة مع محطة إذاعية روسية لإنهاء "المشاجرة"، مؤكدًا أن استمرار القتال لا يخدم أوكرانيا أو روسيا أو بيلاروسيا متهمًا الغرب بتأجيج الصراع.

التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا

(*) اتهامات وتحذيرات متبادلة: بعد يوم واحد من الدعوة لإنهاء الحرب، ألمح فيكتور خرينين، وزير الدفاع البيلاروسي، 16 أغسطس 2024، أن احتمال نشوب "استفزاز بالأسلحة" على الحدود الأوكرانية واردًا بقوة، واتهم الرئيس لوكاشينكو، 18 أغسطس، كييف باختراق أجواء بلاده بالمسيرات بصورة متكررة، وقال إن أوكرانيا تحشد نحو 120 ألف مقاتل على طول الحدود بين البلدين، معلنًا حشد نحو ثلث الجيش البيلاروسي على الحدود ومحذرًا قوات كييف من اختراق أراضي بلاده.

ومع استمرار حالة التصعيد، واتهام بيلاروسيا بإرسال معدات عسكرية للجيش الروسي لصد توغل كورسك، وجهت السلطات الأوكرانية، الأحد 25 أغسطس 2024، تحذيرًا شديد اللهجة لسلطات مينسك، وطالب بيان الخارجية بسحب قواتها ووقف الأعمال غير الودية في مقاطعة جوميل على الحدود البيلاروسية الأوكرانية لتجنيب بلادهم "أخطاء كارثية تحت ضغط موسكو"، وأضاف البيان أن اختراق الحدود الأوكرانية يجعل الأرتال والقواعد العسكرية وطرق الإمداد أهدافًا مشروعة للقوات المسلحة الأوكرانية.

حجم قوات الجيشين الأوكراني والبيلاروسي

(*) علاقات فاترة: التوتر المتصاعد على الحدود ليس الأول من نوعه بين البلدين في سياق تغير البيئة الأمنية بالمنطقة عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وفي نهاية يونيو الماضي شهدت الحدود بين البلدين حشودًا عسكرية متبادلة، قبل أن يعلن لوكاشينكو، 14 يوليو 2024، سحب القوات المسلحة باستثناء قوات العمليات الخاصة نتيجة توصل المخابرات البيلاروسية لاستنتاجات بأن كييف سحبت قوات من مناطق حساسة على الحدود، كما أعلنت مينسك 22 ديسمبر 2022، سقوط صاروخ إس-300 أوكراني في أراضيها وتدهورت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين بصورة ملحوظة في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، إذ تراجع حجم التجارة من مستوى 6.9 مليار دولار في عام 2021 إلى 1.6 مليار دولار في 2022، قبل أن يسجل نحو 13.8 مليون دولار فقط عام 2023.

حسابات التصعيد

أسهمت التوترات الجيوسياسية مع الغرب منذ عام 2020 في إبراز مكانة بيلاروسيا الاستراتيجية في الصراع الروسي الغربي، إذ تعد تلك الدولة الحبيسة رأس الجسر البري باتجاه الجناح الشرقي لحلف الناتو والدعامة الرئيسية للدفاع عن جيب كالينينجراد الروسي ومحاصرة دول البلطيق الثلاث في حال اندلاع المواجهة الكبرى بين روسيا وحلف الناتو.

وتلعب بيلاروسيا دورًا مهمًا في سياق التصعيد الهجين مع الغرب، ففي 2021 تصدرت أزمة المهاجرين غير النظاميين على الحدود البيلاروسية البولندية، نتيجة اتهامات وارسو لمينسك بالسعي لإغراق الاتحاد الأوروبي بالمهاجرين وكنتاج للأزمة الكبرى بين بيلاروسيا والغرب في أعقاب أزمة 2020.

وفي ضوء ذلك يمكن قراءة سياقات التصعيد ومحددات الموقف البيلاروسي من تصاعد الحرب الروسية الأوكرانية وتحولها لحرب كبرى مع الغرب على النحو التالي:

(&) تحصين الجبهة الداخلية: رغم أن العقيدة العسكرية المحدثة التي أعلنت عنها وزارة الدفاع البيلاروسية، منتصف يناير 2024 وأقرها البرلمان أبريل 2024، لا تزال مبهمة البنود، إلا أنها تؤكد الطبيعة الدفاعية والمسالمة لجمهورية بيلاروسيا واستعدادها للدفاع عن أراضيها ضد أي تدخل في شئونها الداخلية أو أي عدوان بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك الأسلحة النووية التكتيكية، حسب وكالة بيلتا الرسمية ووكالة تاس الروسية.

ورغم التوترات بين البلدين، إلا أن كييف تحافظ على علاقاتها نسبيًا مع مينسك، إذ تظل العلاقات الفاترة بين الجانبين مهمة وضرورية رغم وجود علاقات مع معارضين ومجموعات مسلحة بيلاروسية تقاتل بجوار القوات الأوكرانية، إلا أن التواصل على المستوى الأمني يعزز من موقع مينسك كممر للمدنيين الراغبين في مغادرة مناطق الشرق الخاضعة للسيطرة الروسية إلى مناطق الغرب الأوكراني، وكقناة اتصال لتبادل الرسائل بين موسكو وكييف، بينما قد تدفع حالة عدم اليقين الأوكراني والغربي بشأن دعم المعارضين على غرار الثورة البرتقالية في أوكرانيا للتماهي التام بين بيلاروسيا وروسيا وهو ما يعزز مكاسب الأخيرة بالانتقال إلى دولة الاتحاد.

(&) تعزيز التضامن مع روسيا: يأتي التصعيد على الحدود بالتزامن مع التوغل الأوكراني باتجاه كورسك الروسية، ضمن جهود تشتيت المجهود الحربي الأوكراني على عدة جبهات وتأكيد الاستعداد لاستخدام السلاح النووي التكتيكي الذي تسلمته من روسيا دون فرض تكاليف عسكرية إضافية على مينسك تدفعها للانخراط المباشر في الحرب. ونقل موقع روسيا اليوم عن رئيس قسم المعلومات في هيئة الأركان البيلاروسية أرتيوم بوتورين، 21 يناير 2024، أن العقيدة العسكرية الجديدة تتضمن بندًا يعتبر الهجوم على أي دولة حليفة "يعتبر هجومًا على الجمهورية البيلاروسية".

(&) تعزيز التحالفات: رغم استطلاعات الرأي الغربية التي تشير لرفض قطاعات من الشعب البيلاروسي للحرب الروسية الأوكرانية فضلًا عن رفض الانخراط المباشر فيها على الصعيد الرسمي والشعبي، إلا أن مينسك تفضل إعادة التوازن في علاقاتها الخارجية بمواكبة التغيرات في البيئة الاستراتيجية الأوراسية، وأن انعدام التوازن في العلاقات مع روسيا التي تستحوذ على على ثلثي حجم التجارة الخارجية للبلاد يدفعها للانخراط في التكتلات الإقليمية الآسيوية وتعزيز علاقاتها مع الصين والهند من البوابة الروسية.

واكتسبت روسيا البيضاء حوافز ودعمًا ماليًا واقتصاديًا روسيًا عقب الحرب، إذ بلغت قيمة دعم قطاع النفط والغاز عام 2022 نحو 15 مليار دولار، وبينما لا يزال الدعم الدبلوماسي الروسي مهمًا على كل الأصعدة وبصفة خاصة على الصعيد الدولي من خلال استبدال التعاون مع الاتحاد الأوروبي بالانفتاح على الكتل والمؤسسات الإقليمية الجديدة، التي تقودها روسيا والصين مثل الانضمام لمنظمة شنجهاي للتعاون لتعزيز التعاون الاقتصادي والأمني على آسيا، والتطلع للانضمام إلى منظمة "بريكس".

(&) التحوط الاستراتيجي: تحظى الصين بأهمية متزايدة في استراتيجية الحفاظ على نوع من التوازن في العلاقات مع كل من موسكو من جهة والغرب من جهة أخرى، فمن ناحية تستحوذ على 10% من التجارة الخارجية البيلاروسية، كما تولي بكين أهمية بتعميق العلاقات الاستراتيجية مع مينسك باعتبارها بوابة للبضائع الصينية إلى أوروبا، وهو ما عكسه اهتمام بكين بتطوير منطقة جريت ستون الصناعية بقيمة 3 مليارات دولار، وتوقيع البلدين اتفاقية توقيع البلدين اتفاقية التجارة في الخدمات الأولى من نوعها بين الصين وإحدى دول الاتحاد الأوراسي، خلال زيارة رئيس مجلس الدولة لي تشيانج إلى العاصمة البيلاروسية، 22 أغسطس 2024.

وفي تجلٍ لذلك التوجه عقدت الصين وبيلاروسيا، يوليو 2024، تدريبات عسكرية لمكافحة الإرهاب استمرت 11 يومًا في مدينة بريست جنوب غرب بيلاروسيا على بعد 2.8 كم من الحدود مع بولندا، في خضم التوترات بين بكين وواشنطن بالتوازي مع انعقاد قمة حلف الناتو في العاصمة الأمريكية وتبني التحالف العسكري الغربي تعميق التعاون والتدريبات العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

وإجمالًا؛ تنطلق سياسة بيلاروسيا الخارجية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية من حقيقة مفادها أن اللجوء لاستخدام القوة بات مسيطرًا على التفاعلات الدولية، وأن سياسات الأطراف خاصة في الغرب باتت أكثر عدائية تجاه مينسك بعد انحيازها لروسيا، ما يدفعها للتحوط بشأن التوجهات المعادية للسلطات البيلاروسية، كما تدفعها لإيجاد توازن جديد في علاقاتها مع روسيا وكبح جماح التصعيد عبر تعميق الشراكات مع القوى الآسيوية وعلى رأسها الصين. ويبدو أن تصعيد التوتر بين كييف ومينسك لا يخدم أي من الطرفين رغم غياب الثقة بين سلطات البلدين، إلا أن الرغبة في حرمان أعداء كل طرف الاستفادة من التصعيد يدفعهما لاحتواء الاستفزازات.