في إشارة إلى توجهات روسيا في الفترة القادمة، ذكر الرئيس الروسي في خطابه بمناسبة رأس السنة الميلادية في 31 ديسمبر 2022، أن العام المنصرم "شهد أحداثًا حاسمة" ترسي أسس "الاستقلال الحقيقي" لبلاده، مضيفًا أن الحق التاريخي والأخلاقي (في الحرب الروسية الأوكرانية التي يعتبرها الكرملين حربًا غربية ضد روسيا) إلى جانب موسكو التي تحارب دفاعًا عن شعبها في أراضيها التاريخية، في دلالة على التمسك بضم الأقاليم الأربعة في شرق أوكرانيا إلى روسيا الاتحادية.
ومنذ انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية، اتخذت موسكو منحى متسارعًا باتجاه فرض تحولات في شكل النظام الدولي، اعتمادًا على فضاءاتها التاريخية وأدواتها السياسية والعسكرية كقوة دولية تكافح للبقاء في قمة الهرم الدولي، تحت غطاء "العالم الروسي" لخدمة ذلك الغرض، ليبقى التساؤل؛ إلى أين تتجه السياسة الخارجية الروسية في العام الجديد؟
ركائز السياسة الروسية:
اكتسبت خطابات الرئيس فلاديمير بوتين (خاصة منذ خطاب 21 فبراير 2022 للاعتراف بضم إقليمي دونيتسك ولوجانسك المعلنين من جانب واحد، وحتى خطاب رأس السنة الميلادية) صبغة تاريخية أساسها عودة بلاده للعب دورها كقطب دولي على غرار روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي، وبث روح جديدة في سياسته الخارجية اعتمادًا على الركائز التالية:
(*) استعادة التاريخ: يستند الخطاب الروسي بصفة أساسية إلى فرض سياج آمن في محيطها الأوراسي، من آسيا الوسطى والقوقاز وشرق أوروبا، تحت غطاء "العالم الروسي" الذي أكدت عليه في وثيقة جديدة للسياسة الخارجية في 5 سبتمبر الماضي بعنوان "السياسة الإنسانية"، التي تدعم تدخل موسكو للدفاع عن الناطقين باللغة الروسية. كما أكدت الوثيقة على تقوية تحالفات روسيا مع "الدول السلافية" ومجمل دول الفضاء السوفيتي السابق، وبصفة خاصة في بيلاروسيا ودول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، والذي تعتبره فناءها الخلفي ويبدأ منها أمنها القومي. وتدلل موسكو على مهمتها "التاريخية" بالإشارة للطبيعة العالمية للأزمة الأوكرانية ورغبة "الغرب الجماعي" في تدمير روسيا، حسب تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف.
(*) تحالف القيم: تسعى روسيا لبناء تكتل دولي جديد على أساس واسع يتجاوز الأبعاد القومية والدينية إلى المشتركات الإنسانية التقليدية، وعلى هذا الأساس اختارت تطوير العلاقات مع الصين والهند ومناطق الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية للاستفادة من مناهضة فرض المعايير الغربية لحقوق الإنسان التي تتجاوز قيم دول وشعوب جنوب الكرة الأرضية.
ملامح السياسة الروسية في 2023:
تستعد روسيا لمواجهة طويلة مع الخصوم في "الغرب الجماعي"، هدفها الأساسي استعادة توازن القوة الروسية وبناء نظام دولي متعدد الأقطاب، وهو ما يعزز الاتجاهات التالية:
(*) تكريس المواجهة مع الغرب: لم تعد المواجهة تقتصر على الولايات المتحدة، وإنما امتدت إلى الجبهة الأوروبية التي تتجه للتخلي عن مصادر الطاقة الروسية بالكامل، بالتوازي مع إعلان موسكو حظر توريد النفط ومشتقاته إلى الدول الملتزمة بالسقف السعري المتبع من مجموعة السبع وأستراليا والاتحاد الأوروبي، ابتداءً من فبراير المقبل. وفي ذلك الاشتباك تراهن موسكو على خيار تفكيك الاتحاد الأوروبي اعتمادًا على روابطها مع الدول الأوروبية المنضمة أو الراغبة في الانضمام للاتحاد ودعمها في مختلف القضايا، وهو ما يظهر في الحرص على إمداد المجر بالطاقة لاعتبارها إحدى أكثر دول القارة تعطشًا لموارد الطاقة الرخيصة والمستدامة، إلى جانب تقوية العلاقات مع صربيا وإبداء الدعم والتضامن معها في الأزمة مع كوسوفو، وهو ما مثل مصدر قلق لدول الاتحاد التي منعت مرور طائرة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف فوق أجوائها خلال زيارته المقررة لصربيا في 6 يونيو 2022. ومن المحتمل أن تكون الأزمة في كوسوفو ثغرة لموسكو لإعادة خلط الأوراق في غرب البلقان مما يفسد خطط بروكسل لضم دول المنطقة، فضلًا عن تحويلها لمصدر لزعزعة توازن وأمن دول التكتل.
لن تكون روسيا في حال أفضل بمنطقة القطب الشمالي، فمع إحباط دورها في الرئاسة الدورية لمجلس القطب الشمالي والتحول المحتمل للمجلس إلى منظمة أطلسية (عقب إتمام عملية انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو)، ستصعد موسكو من تحركاتها في القطب الشمالي لدعم تفوقها اللوجستي والعسكري في المنطقة، وذلك دفاعًا عن موارد المنطقة الضخمة والسيطرة على الممر التجاري في بحر الشمال بالتوازي مع آثار التغير المناخي في انحسار وذوبان الجليد، واهتمام موسكو بتطوير التعاون مع بكين في المنطقة من خلال طريق الحرير الشمالي، وترحيبها المحتمل بلعب الصين دور أكبر في المنطقة (كدولة شبه قطبية) بفعل تغير موقف الدول المشاطئة من الاتحاد الروسي عقب الأزمة الأوكرانية.
(*) تعميق الروابط بالشرق: تفاديًا لخسائرها المتوقعة نتيجة الخروج من سوق الطاقة الأوروبية، ستسعى روسيا لتحصين موازنتها بالتعاون مع الحلفاء في آسيا الوسطى والهند والصين وإيران بما يكفل أولًا: بناء تكامل اقتصادي وتجاري مع دول الجوار بعيدًا عن طائلة العقوبات الغربية من خلال دعم العلاقات عبر رابطة الدول المستقلة ومنظماتها الفرعية. وثانيًا: تعظيم صادراتها من الطاقة ودعم وصولها إلى الأسواق الدولية عبر طرق بديلة مثل ممر شمال-جنوب لنقل البضائع والسلع بين روسيا والهند مرورًا بإيران، والمركز التركي لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا. وثالثًا: توثيق الروابط السياسية والأمنية مع دول الجوار المباشر على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف من خلال منظمة معاهدة الأمن الجماعي لبناء بيئة إقليمية مستقرة وآمنة ومغلقة أمام الخصوم الدوليين، حيث ستسعى موسكو لتسوية نهائية للخلافات الحدودية بين الدول المتنازعة (أرمينيا وأذربيجان، وطاجيكستان وقيرغيزستان).
(*) بناء جبهة دولية جديدة: تطوع روسيا مقوماتها كقوة دولية في تسريع الانتقال إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب عبر شبكة من التفاعلات الدولية تغامر فيها باستخدام القوة وتحويل شرايين الطاقة باتجاه الشرق سعيًا لتغيير موازين القوى، وفي هذا الإطار من المتوقع أن تدفع روسيا إلى جانب الصين لنظام عالمي جديد بتوسيع التكتلات والمنظمات الدولية خارج الإطار الغربي على غرار "تجمع البريكس" ومنظمة شنجهاي للتعاون ودعم آليات التمويل الموازية وتقليص هيمنة الدولار على التعاملات التجارية. كما ستظهر دعمًا سياسيًا وأمنيًا لدول الجنوب العالمي اعتمادًا على الشراكات التاريخية مع الكثير من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية أو استنادًا إلى احتياجات بعض الدول للمساعدات الأمنية في مواجهة محاولات التمرد مثل إفريقيا الوسطى أو مكافحة الأنشطة الإرهابية مثل مالي. ومن المحتمل أن تسعى موسكو للعب دور في تهدئة التوترات بين شركائها الاستراتيجيين، وبصفة خاصة الهند والصين خشية من ارتدادات تصاعد تلك التوترات على تعزيز الحضور الأمريكي ودفع نيودلهي لتحالف الولايات المتحدة الجديد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وختامًا، يمكن القول إن موقف روسيا الساعي لتجنب العزلة الدولية، يستند إلى رغبة العديد من القوى الصاعدة في العودة إلى نظام دولي متعدد الأقطاب يضمن لتلك الدول تعددية الخيارات على الأصعدة الأمنية والاقتصادية ولا يحفز الاستقطاب الدولي بين محاور متنازعة، لكن المحفز الأهم لتلك التحركات ومدى فاعليتها يتوقف على حجم الدعم الدولي لمواقف موسكو خارج الساحة الأوكرانية وليس على قدرات روسيا بذاتها.