الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

ما انعكاسات التوغل الأوكراني في كورسك؟

  • مشاركة :
post-title
قوات أوكرانية

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

في مسعى لتحقيق اختراق في ملف مفاوضات السلام وتخفيف الضغط على قواتها في جبهات المواجهة، أعلن قائد الجيش الأوكراني أوليكسندر سيرسكي في 15 أغسطس 2024 السيطرة على مدينة سودجا الاستراتيجية ضمن عملية التوغل المفاجئة التي أطلقتها كييف في صباح الثلاثاء 6 أغسطس الجاري، واعتزمت أوكرانيا تدشين إدارة عسكرية للمناطق التي احتلتها بمقاطعه كورسك وعلى امتداد 56 كم وبعمق 28 كم داخل الحدود الروسية، بإجمالي 92 بلدة وبمساحة 1568 كم2، حتى يوم الاثنين 19 أغسطس 2024، حسب بيانات معهد دراسات الحرب الأمريكي.

وبموازاة الهجوم، الذي نجحت خلاله كييف في الاستيلاء على مساحة تعادل ما سيطرت عليه موسكو في الأشهر السبع الأولى من العام الجاري، واصلت القوات الروسية تقدمها في إقليم دونباس، إذ أعلنت موسكو، الجمعة 16 أغسطس، سيطرتها على بلدة سيرجييفكا التي تبُعد نحو 15 كم عن بوكروفيسك في مقاطعة دونيتسك.

وعلى الرغم من أن استمرار تقدم القوات الأوكرانية يعد تحولًا مفاجئًا وخطيرًا في مسار الحرب، إلا أن المؤشرات المتضاربة لطبيعة الهجوم ودلالاته الرمزية والاستراتيجية للجانبين الروسي والأوكراني وللقوى المنخرطة في دعم موسكو من جهة وكييف من جهة أخرى قد تقود لنتائج غير متوقعة وترسّخ مشهد التحالفات الاستراتيجية للجانبين، وهو ما ينذر بتصعيد الصراع ومفاقمة الاستقطابات الدولية بين الكتلتين المتحاربتين.

مؤشرات التوغل

للوقوف على أبعاد التوغل الأوكراني وما يعنيه من انعكاسات واسعة على ساحة الحرب الروسية الأوكرانية في مجملها، يمكن الاستناد إلى المعطيات التالية:

(*) البُعد العملياتي: استخدمت أوكرانيا أفضل قواتها من عناصر النخبة لتنفيذ التوغل لإشغال القوات الروسية بمعركة استنزاف داخل حدودها، وإجبارها على سحب قوات من خطوط المواجهة في شرق وجنوب أوكرانيا، حيث تشير المصادر الغربية ومنها مجلة "فوربس" إلى مشاركة نحو ثلاثة ألوية في الهجوم، وتشمل اللواءين المدرعين الثاني والعشرين والثامن والثمانين، واللواء الثمانين مظلات (هجوم جوي)، قبل أن ينضم بحلول الخميس 9 أغسطس لواءان مدرعان (لواء 116، ولواء 61) مدعومان بلواء 27 مدفعية صاروخية (المشغل الوحيد لصواريخ هيمارس بالجيش الأوكراني) والمكلف بقطع طرق الإمداد واستهداف التعزيزات العسكرية الروسية.

وتشير التقديرات الأولية إلى أن القوات المشاركة في الهجوم تقارب نصف عدد القوات الأوكرانية المكلفة بالهجوم المضاد الأوكراني صيف 2023، وتقدر بنحو 10 آلاف مقاتل بحد أدنى، بينما تشير البيانات الأوكرانية لأسر ما يزيد على 100 جندي روسي وقوات أحمد الشيشاني، وتُظهر بيانات معهد دراسات الحرب الأمريكي أن روسيا تحتفظ بالعناصر الأفضل تدريبًا في ساحة المعارك بشرق أوكرانيا، وتدفع في المقابل بقوات من مناطق عسكرية مختلفة بنحو 11 كتيبة، وهو ما يعكس استمرار التقدم في دونيتسك، ففيما تشير بيانات معهد دراسات الحرب إلى حجم القوات التي نقلت من خطوط المواجهة في أوكرانيا إلى كورسك بنحو 5 آلاف مقاتل.

وتحصي بيانات الدفاع الروسية، اليوم الثلاثاء 20 أغسطس 2024، مقتل نحو 4130 شخصًا من القوات الأوكرانية المتوغلة واضطلاع سلاح الجو بتنفيذ ضربات مكثفة على القوات الأوكرانية في مقاطعة سومي المحاذية لخطوط التوغل الأوكراني في كورسك.

(*) البُعد السياسي: يتجاوز التوغل الأوكراني حالة عدم اليقين بشأن سياسات واشنطن عقب 20 يناير 2025، والتحولات المحتملة في سياسات الولايات المتحدة تجاه دعم أوكرانيا في حالة عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وتوجه واشنطن الرئيسي إلى آسيا لمواجهة صعود الصين ونفوذها العسكري المتزايد بمنطقة المحيطين عمومًا وهو ما يستدعي من كلا المعسكرين الديمقراطي والجمهوري إعادة النظر في مآلات الصراع الروسي الأوكراني وضرورة التوصل لتسوية واقعية تُنهي الحرب.

وينطبق الأمر ذاته على الدعم الغربي عمومًا لكييف في ظل حالة الاستنزاف التي تعانيها ميزانيات الدول الأوروبية جراء فاتورة الحرب وزيادة فاتورة الطاقة في أعقاب قطع إمدادات الغاز الروسي، إذ خفّضت ألمانيا حجم مساعداتها العسكرية إلى أوكرانيا، في مسودة ميزانية 2025، إلى النصف بواقع 4 مليارات دولار، واتفاق مجموعة السبع على الاستفادة عائدات الأصول الروسية المجمدة في أوروبا بقيمة 50 مليار دولار.

إلى جانب سيطرتها على مدينة سودجا الاستراتيجية، تمتلك كييف أداة ضغط مهمة تجاه الحلفاء الأوروبيين باعتبارها الممر الرئيسي للغاز الروسي بعد تفجير خطي نورد ستريم، وقد أعلنت السلطات الأوكرانية أنها لا تنوي تجديد اتفاق نقل الغاز إلى كل من النمسا والمجر وسلوفاكيا، الذي ينتهي في ديسمبر المقبل، وقد بلغ حجم الاستهلاك الأوروبي للغاز الروسي في 2023 نحو 14.65 مليار متر مكعب عبر سودجا.

خطوط التوغل الأوكراني بكورسك حتى 19 أغسطس 2024-معهد دراسات الحرب الأمريكي

(*) البُعد الداخلي: تشير التقديرات العسكرية إلى خسائر فادحة في الأرواح والمعدات من كلا الطرفين خلال المعارك المستمرة لما يزيد على 900 يوم، تدفع الطرفين للجوء إلى التعبئة العامة، إذ أشارت تقديرات أمريكية رسمية في أغسطس 2023، إلى أن مجمل خسائر الجانبين تجاوزت 500 ألف شخص بين قتل وجريح، حسب "نيويورك تايمز".

وقد أقرت كييف قانونًا جديد للتعبئة في مايو الماضي يخفّض سن التجنيد إلى 25 سنة، لتعبئة نحو 800 ألف مقاتل، بالتوازي مع تجنيد السجناء، وفي ظل صعوبة القتال على جبهة الشرق ونقص المعدات والأفراد، يعزّز اللجوء لهذا التوغل تعبئة المزيد من الشباب الأوكراني للانضمام للمجهود الحربي ورفع الروح المعنوية للشعب الأوكراني.

(*) البُعد الاستراتيجي: يتمثل الهدف الأوكراني من استخدام المناورة لتحقيق اختراق يدعّم الوصول للتوازن المطلوب لكييف من أجل تحسين شروط التفاوض بتفاهم مع القوى الغربية الداعمة وعلى رأسها الولايات المتحدة، وهو ما يُظهر أن الهجوم الحالي يخضع لمحددات في حجم توغل القوات واستخدام الآليات والمعدات الغربية دون قصف العمق الروسي بأسلحة بعيدة المدى، ما من شأنه تحريك الجمود في شرق أوكرانيا مع استمرار التقدم الروسي البطيئ في إقليم دونباس باتجاه مدينة بوكروفيسك.

ويبدو أن الأهداف الأوكرانية من الهجوم المباغت، حسب التصريحات الرسمية إقامة منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي بين البلدين ودعم الموقف التفاوضي المستقبلي لكييف عبر مبدأ "الأرض مقابل الأرض" بما يشمل أهدافًا حيوية مثل محطة كورسك النووية مقابل زابوريجيا، وإجبار روسيا على وقف التقدم وتخفيف الضغط على شرق أوكرانيا عبر سحب عدد من القوات لصد الهجوم على كورسك، فضلًا عن تخفيف القيود الغربية على شن هجمات مماثلة أو استهداف العمق الروسي بصواريخ بعيدة المدى.

انعكاسات محتملة

يمثل استمرار التوغل الأوكراني لنحو 14 يومًا، نجاحًا تكتيكيًا لكييف في إطار المناورة، ولم تتضح انعكاساته الكبرى على ساحة الصراع بين الجانبين في ظل عدم تمكن موسكو من إنهاء التوغل ووقف تقدم القوات الأوكرانية حتى الآن، بينما انخفضت وتيرة التقدم الأوكراني الذي يبدو بطيئًا وحذِرًا مع تطلع قوات كييف لبناء تحصينات تعزّز قدرتها على الحفاظ على تلك المواقع، وثني القوات الروسية عن المزيد من التقدم في جبهة دونيتسك.

ويظهر من تلك الشواهد أن مفاجأة التوغل الأوكراني تحمل دلالة رمزية أن كييف بحاجة لتحقيق اختراقات في خط المواجهة عبر اتباع تكتيك المناورة وتنفيذ عشرات العمليات المماثلة، نظرًا لفشل "الحرب الموضعية" التي اتبعها الجانبان واستنزفت القدرات البشرية لكليهما سعيًا لتحقيق تقدم ميداني محدود (إذ تقدمت القوات الروسية بمتوسط 2 كم2 يوميًا منذ منتصف فبراير للسيطرة على بوكروفيسك).

(&) فتح خطوط المواجهة: يبدو الرهان على أن عامل الوقت لا يخدم أيًا من الطرفين، فاستمرار التوغل الأوكراني بوتيرة بطيئة يعظّم من كلفة الخسائر البشرية للطرف الروسي الذي يسعى لتجنب خيار تنفيذ تعبئة جديدة قد تثير استياء الشارع الروسي وهو أحد أهداف الهجوم الأوكراني، خاصة إذا ما اقترن بعمليات استفزازية واستهداف مصالح حيوية أو منشآت استراتيجية بالعُمق الروسي.

بينما يدعّم توزع جهد وعتاد القوات الأوكرانية على عدد أكبر من الجبهات خطة الجانب الروسي لإنهاك كييف واستنزاف قوات النخبة لديها، فيما تواصل قضم بلدات ومدن دونيتسك، خاصة إذا نجحت في محاصرة وتصفية القوات المتوغلة، وقد استغلت روسيا ذلك التوغل في تصعيد هجماتها الجوية بالعاصمة كييف.

ومع بقاء الوضع الراهن في كورسك تكون الحرب الروسية الأوكرانية مرشحة لمزيد من التصعيد اعتمادًا على الهجمات الخاطفة وقصف المنشآت الحيوية، خاصة إذ ارتأت القيادة الأوكرانية نجاعة مثل تلك الهجمات في وقف التقدم الروسي من جهة وتحفيز الحلفاء الغربيين على دعم استخدام الأسلحة بعيدة المدى داخل العُمق الروسي من جهة أخرى.

(&) تصعيد المواجهة الروسية الأمريكية عالميًا: جاء الهجوم الأوكراني بعد أيام قليلة من تنفيذ أكبر صفقة تبادل سجناء بين روسيا والغرب منذ نهاية الحرب الباردة مطلع أغسطس ليضفي مزيدًا من التوتر في العلاقات الأمريكية الروسية المتدهورة منذ اندلاع الحرب، إلا أنه يعكس على الجانب الآخر أن الاتصالات بين الجانبين على المستوى الاستخباراتي هي آخر أدوات الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي وينبغي أن تستمر تلك الاتصالات لتفادي تصعيد غير محسوب قد يقود لحرب عالمية.

وفي مقابل التفاهم على وضع سقف للتصعيد في الحرب الروسية الأوكرانية، قد تعزّز روسيا تحالفاتها العالمية مع القوى المناهضة للنفوذ الأمريكي في إطار التلويح السابق بدعم وتسليح "أطراف ثالثة" تستهدف المصالح الغربية ردًا على السماح باستهداف العمق الروسي. ومن غير المحتمل في الفترة الراهنة اللجوء لمواجهة مفتوحة يشارك فيها أطراف أخرى مثل بيلاروسيا أو حلف الناتو طالما ظلت وتيرة الحرب بطيئة وظل الردع النووي فعالًا وموثوقًا للجانب الروسي وهو ما لا يتحقق سوى بلجوء الطرفين الأمريكي والروسي لخفض التصعيد وعدم تجاوز الخطوط الحمراء.

وإجمالًا؛ على الرغم من خطورة التوغل الأوكراني وما تمثله من إهانة لروسيا وتهديدًا لسلامتها الإقليمية قد تدفعها لتصعيد المواجهة مع التلويح باستخدام السلاح النووي، إلا أن التحرك الأوكراني يبدو متسقًا مع الخطط الغربية في إطار مساعي إنهاء الحرب والتوصل لتسوية تضمن بقاء أوكرانيا وتعزّز من شروطها التفاوضية في أي محادثات سلام مقبلة بات من الضروري أن تكون روسيا طرفًا أصيلًا فيها. ويتطلب الوضع الراهن التوصل إلى حل مستدام ينهي الصراع بين روسيا وأوكرانيا تفاديًا لأي تصعيد يهدف بالأساس لتحريك الجبهة وقد يؤدي لعواقب وخيمة من شأنها استمرار الحرب وتوسيع نطاقها نتيجة ليأس الطرفين من جدوى مسار السلام، وهو ما لا يخدم أي من طرفيها، وكذلك الداعمين الرئيسيين لكييف وموسكو.