الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

رسائل اجتماع باريس في الذكرى الثانية للحرب الروسية الأوكرانية

  • مشاركة :
post-title
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

جاءت دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لعقد اجتماع عمل في باريس للقادة الأوروبيين 26 فبراير 2024، وصفه الإليزيه بالاستثنائي، تزامنًا مع الذكرى الثانية للحرب الروسية الأوكرانية، وبدء العام الثالث لها، وهدف إلى توفير الفرصة للنظر في الوسائل المتاحة لتعزيز تعاون الأطراف الأوروبية في دعم أوكرانيا، بمشاركة ما يقرب من 20 رئيس دولة وحكومة أوروبية، فضلًا عن عدد من الوزراء الغربيين الآخرين.

ووفقًا لبيان الإليزيه، فإن الاجتماع، الذي عقد بعد عامين من بدء الحرب الروسية الأوكرانية يلتئم في لحظة مفصلية، وفي ظل مخاوف بشأن مستقبل الحرب، وهدفه تعبئة الوسائل الممكنة، لدعم أوكرانيا بشكل أكثر فاعلية، ومن أجل إظهار وحدة الغربيين، واستعدادهم للعمل على دعم أوكرانيا، وحتى لا يراهن الرئيس الروسي بوتين على استنزاف طاقات الدول الأوروبية خلال عامين من الحرب.

دوافع متعددة

تتنوع الدوافع التي أسهمت في دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمجموعة من الرؤساء ورؤساء الوزراء الأوروبيين لهذا الاجتماع، ويمكن إبراز أهمها في التالي:

(*) دور ريادي لماكرون: تهدف باريس من استضافة الاجتماع إلى إظهار الدور الريادي للرئيس إيمانويل ماكرون في دعم أوكرانيا، بعد ترديد مزاعم بضعف الدعم الفرنسي لأوكرانيا وتردد ماكرون ما بين تبني الدعوة لمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، أو تقديم دعم عسكري مباشر لكييف، لذلك حرصت باريس على توجيه رسالة مفادها أن مشاركة غربية بهذه الكثافة والتنوع في فعاليات الاجتماع، الذي جرى التحضير له في مدة زمنية قصيرة، تعكس الدور الريادي لماكرون في الأزمة الروسية الأوكرانية، إذ ضم الاجتماع 4 رؤساء دول لفنلندا ورومانيا وبولندا وليتوانيا، و15 رئيس حكومة أبرزهم المستشار الألماني أولاف شولتس ورؤساء حكومات إيطاليا وإسبانيا والنرويج والبرتغال والدانمارك.

وفي حين جاء تمثيل بريطانيا والسويد وكندا بوزراء خارجية، فإن تمثيل الولايات المتحدة جاء بمساعدة وزير الخارجية، ليعكس الخلافات الأمريكية الفرنسية المكتومة بشأن أوكرانيا.

(*) النزعة الاستقلالية لفرنسا: يسعى الرئيس الفرنسي منذ وصوله إلى سدة الحكم لتعزيز الاستقلالية لفرنسا داخل المنظومة الغربية، ومحاولة لعب دور مؤثر أوروبيًا وعالميًا بعيدًا عن الوصاية الأمريكية على أوروبا باعتبارها الضامن الرئيسي لأمن القارة العجوز، لذلك جاءت دعوة ماكرون إلى تشكيل جيش أوروبي مستقل لحماية الأمن الأوروبى والدفاع عن القارة ضد مصادر التهديدات الداخلية والخارجية، لا سيما بعد تصريحه الشهير بأن حلف الناتو يعاني موتًا دماغيًا.

وتأتى ذكرى الحرب الروسية الأوكرانية في عامها الثاني، لتجد موقفًا فرنسيًا حاسمًا إزاء دعم أوكرانيا عسكريًا بعد تعهد باريس بإمداد كييف بمساعدات خلال عام 2024 تُقدر بثلاثة مليارات دولار، إذ تحرص فرنسا على التأكيد بأن مصير هذه الحرب سيكون حاسمًا بالنسبة لمصالح أوروبا وأمنها وللقيم التي تتبناها.

(*) طمأنة الرأي العام الأوروبي: يهدف الاجتماع في أحد جوانبه إلى طمأنة الرأي العام الأوروبي الذي يميل معظمه للاعتقاد بقدرة روسيا على الانتصار في تلك الحرب، ويعزز من ذلك التوجه النجاحات التي حققتها روسيا مؤخرًا في أوكرانيا بعد سيطرتها على مدينة أفدييفكا الاستراتيجية بمنطقة دونباس، فضلًا عن عدم فاعلية العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا التي نجحت في تنويع شراكاتها وروابطها الاقتصادىة مع دول الاقتصادات الراسخة، وفي مقدمتها الصين والهند وهو الأمر الذي أدى إلى تحسن ملحوظ في مؤشرات نمو الاقتصاد الروسي مقارنة بالاقتصادات الغربية الكبرى.

كما كان لتهديدات قادة روس باستخدام السلاح النووي في تلك الحرب تأثيره على الرأى العام الأوروبي الذي يشعر بالقلق من مثل تلك التصريحات، وربما شكل ذلك الهاجس إحدى رسائل انعقاد هذا الاجتماع بأن أوروبا قادرة على حماية أمنها ومنها الأمن السيبراني، واصطفافها خلف دعم أوكرانيا التي يعتبرونها خط الدفاع الأمامي عن قيمهم وأمنهم. وهو الأمر الذي عبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال المؤتمر الصحفي، الذي عقده مع نظيره الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، في باريس، 17 فبراير 2024، وعقب توقيع الاتفاقية الأمنية بين الجانبين بأن "نظام الكرملين اعتدى قبل عامين على أوكرانيا، وهي دولة أوروبية، وهو نظام كثف اعتداءاته على أوروبا على صعيد التضليل الإعلامي والسيبراني"، مضيفًا أن "روسيا فلاديمير بوتين باتت لاعبًا لزعزعة استقرار العالم" على حد تعبير الرئيس الفرنسي.

جهود فرنسية:

تتماشى دعوة ماكرون لاجتماع العمل الاستثنائي للقادة الأوروبيين مع تنوع الجهود الفرنسية الداعمة لأوكرانيا منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، التي يمكن الإشارة إلى أهم مساراتها في التالي:

(&) وساطة ماكرون: يعد ماكرون من أكثر القادة الغربيين الذين دعوا للحفاظ على مسارات مفتوحة للحوار، وكذلك التعامل بشكل خاص مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ زار روسيا في 7 فبراير 2022 وأجرى محادثات معه في الفترة التي سبقت بدء العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، كما أجرى ماكرون العديد من الاتصالات الهاتفية مع الرئيس بوتين بهدف الحل السلمي للأزمة من خلال المفاوضات بين الجانبين، غير أن تلك الجهود لم تسفر عن أي تقدم على المسار التفاوضي بين روسيا وأوكرانيا، في ظل النجاحات التي حققتها روسيا على الأرض بأوكرانيا.

(&) توقيع الاتفاقية الأمنية بين باريس وكييف: جاء توقيع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الأوكراني زيلينسكي، خلال زيارته إلى فرنسا على اتفاقية أمنية، 17 فبراير 2024، لتعزيز الشراكة الأمنية بين باريس وكييف، وحدد الاتفاق إطار عمل للمساعدات الإنسانية والمالية طويلة الأجل، بالإضافة إلى دعم إعادة الإعمار والمساعدات العسكرية، وأشار الرئيس ماكرون إلى تصميم بلاده للوقوف إلى جانب أوكرانيا من أجل إفشال الهجوم الروسي، لا سيما وأن الاتفاقية نصت على التزامات فرنسا إزاء أوكرانيا للسنوات العشر المقبلة، وتعد الدولة الأوروبية الثالثة التي توقع مثل هذه الاتفاقية بعد كل من بريطانيا وألمانيا رغبة في صمود أوكرانيا أمام الدب الروسي.

(&) المساعدات الفرنسية لأوكرانيا: تشير بيانات قصر الإليزيه قبيل عقد الاجتماع إلى أن فرنسا قدمت ما يقرب من 300 مليون يورو من المساعدات الإنسانية، و3.8 مليار يورو من المساعدات المالية خلال العامين الماضيين، كما التزمت بتقديم ما قيمته 3 مليارات يورو من المساعدات العسكرية الإضافية للعام الحالي 2024. وبلغت المساعدات الأوروبية لأوكرانيا منذ عام 2022 نحو 88 مليار يورو، كما أقر الأوروبيون مطلع فبراير 2024 مساعدات تُقدر بـ50 مليار يورو حتى عام 2027.

مجمل القول يشكل اجتماع العمل الاستثنائي الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وما عكسه من تمثيل أوروبي رفيع المستوى الرغبة الفرنسية في تعزيز الصورة الذهنية لماكرون ولفرنسا باعتبارها المدافع الرئيسي عن الأمن الأوروبي، ويبدو أن الخلافات الأمريكية الفرنسية انعكست على التمثيل الأمريكي بالمؤتمر ليكون بمساعدة لوزير الخارجية، ويرتبط الاجتماع بسعي ماكرون للحفاظ على الاستقلال الفرنسي عن الهيمنة الأمريكية، في حين ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن أوروبا لا تزال غير قادرة على مواجهة تهديدات أمنها بعيدًا عن المظلة الأمريكية، وربما كانت الحرب الروسية الأوكرانية واستدراج بوتين لهذا المستنقع أحد ترتيبات واشنطن كي يظل الأمن الأوروبي رهنًا بالقرار الأمريكي.