دعا الرئيس إيمانويل ماكرون، في رسائل نشرتها صحف فرنسية، 10 يوليو 2024، إلى بناء أغلبية صلبة تكون بالضرورة ذات تعددية، لا سيما وأنه لم يفز أحد بها، على أن تبنى هذه الأغلبية حول المبادئ الرئيسية لفرنسا وللقيم الجمهورية الواضحة والمشتركة، وحتى تحسم تلك التسويات بين القوى السياسية الفائزة في الانتخابات، ستواصل الحكومة الحالية ممارسة مسؤولياتها كحكومة تصريف أعمال كما جرت العادة الجمهورية.
وتمثل هذه التصريحات بعد ثلاثة أيام من إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة، مُعضلة لتشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة باعتبارها التحدي الأبرز الذي يواجه الرئيس الفرنسي، بعد أن أخفقت القوى السياسية المتنافسة في الحصول على الأغلبية المطلقة (289 مقعدًا من 577 مقعدًا)، إذ جاء تحالف الجبهة الشعبية الجديدة في المركز الأول بعدد مقاعد نحو 182 مقعدًا، فيما جاء التحالف الداعم للرئيس ماكرون في المرتبة الثانية بعدد مقاعد 168 مقعدًا، وحل حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في المرتبة الثالثة بعدد 143 مقعدًا.
وتماشيًا مع استعداد فرنسا لاستضافة دورة الألعاب الأوليمبية، المقرر انطلاقها 26 يوليو 2024، ولمدة أسبوعين، جاء اتجاه الرئيس ماكرون لتأجيل قبول استقالة رئيس الوزراء الحالي جابرييل أتال، وتأكيده ضرورة استقرار البلاد، وهو الأمر الذي يثير مخاوف الداخل الفرنسي من استمرار أزمة تشكيل الحكومة الجديدة، وأن يصبح البرلمان الفرنسي بتشرذمه وغياب قوى سياسية قادرة على حيازة الأغلبية، مُعطلًا للأداء الرئاسي الفرنسي في ظل تطلع قوى اليسار، لتكليف أحد ممثليهم بتشكيل الحكومة الجديدة بعد صعود الجبهة الشعبية في الانتخابات، ونجاحها في وقف زحف اليمين المتطرف نحو السلطة.
عوامل متعددة
تتنوع العوامل التي تمثل تحديات قائمة أمام تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة، بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة، ويمكن إبراز أهمها في التالي:
(*) تشرذم البرلمان: يشكل تشرذم وتفتيت البرلمان ما بين القوى السياسية التي فازت في الانتخابات أحد التحديات الرئيسية التي تواجه تشكيل الحكومة، فبعد النجاح الذي حققته الجبهة الشعبية الجديدة بمكوناتها الرئيسية في الانتخابات بحصولها على المركز الأول بعدد 182 مقعدًا وبزيادة تقدر بـ47 مقعدًا عما حققه اليسار في البرلمان المنحل بما جعلها الفائز الأكبر في تلك الانتخابات، مقارنة بخسارة التحالف الداعم للرئيس الذي جاء في المرتبة الثانية لما يقرب من 95 مقعدًا، عما حصل عليه في البرلمان السابق، إذ حصل في انتخابات 2024 على 168 مقعدًا فقط.
ودفع هذا الواقع جان لوك ميلانشون، رئيس حزب فرنسا الأبية، الذي نجح في أن تكون له مجموعته النيابية الأكبر داخل اليسار، لمطالبة الرئيس ماكرون بتعيين رئيس وزراء من تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، وتأكيده أن على الرئيس واجب اختيار قائد من هذا التحالف الذي حصد أكبر عدد من المقاعد لتشكيل الحكومة، وهو ما ترفضه قوى سياسية منضمة لتحالف معًا الداعم للرئيس ماكرون.
وأشار رئيس الحزب الاشتراكي أوليفيه فور، إلى أنه يتعين على الجبهة خلال أسبوع تقديم مرشح لرئاسة الحكومة من خلال التوافق أو التصويت، وطالبت زعيمة الخضر مارين تونديلييه، الرئيس الفرنسي بأن يدعو الجبهة لترشيح اسم.
(*) الاختلافات الأيديولوجية: تشكل الاختلافات الأيديولوجية والمنطلقات الفكرية داخل القوى السياسية التي تحالفت للوصول إلى البرلمان أحد التحديات التي تواجه تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة، ففي حين تشكل تحالف الجبهة الشعبية من أحزاب تختلف فيما بينها من الناحية الفكرية والأيديولوجية إذ تشكلت من أحزاب: الخضر، والاشتراكي، والشيوعي، وفرنسا الأبية. وتتبنى تلك الأحزاب مقاربات مختلفة لمواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في الداخل الفرنسي، كما أنها أيضًا تتبنى مقاربات مختلفة لدور فرنسا الخارجي، صحيح أنها اتفقت على هدف رئيسي، خلال الانتخابات البرلمانية المبكرة، وهو منع وصول اليمين المتطرف من حيازة الأغلبية البرلمانية أو الاقتراب منها، إلا أن التمايز الأيديولوجي والفكري سيظل عائقًا أمام تمرير مشروعات القوانين داخل البرلمان بما يجعله غير قادر على القيام بوظائفه الأساسية في التشريع والرقابة وتحوله لمؤسسة معطلة وغير فاعلة ربما تدفع ماكرون لاستخدام صلاحياته لتمرير القوانين، كما حدث في قانون التقاعد أو حل البرلمان بشرط مرور عام على تشكيله وفقًا للدستور الفرنسي.
هذا الاختلاف بين المعسكرين عبرا عنه بوجود اختلافات جوهرية بين المطالب والبرامج سواء فيما يخص الشأن الداخلي مثل مستقبل قانون تعديل سن التقاعد، أو تجميد قانون الهجرة، ورفع الحد الأدنى للأجور، وإعادة فرض ضريبة الثروة، أو ما يخص سياسة فرنسا الخارجية فيما يتعلق بالموقف من الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب غزة، إذ يدعو اليسار إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية من دون تأخير.
(*) مخاوف ماكرون: يتجسد التحدي الذي يعزز من مخاوف الرئيس إيمانويل ماكرون في كيفية إيجاد توازن بين الحفاظ على سلطته وتشكيل حكومة قادرة على العمل في ظل برلمان يغلب عليه التشرذم والتفتت، لذلك حذر ماكرون، 24 يونيو 2024، من اندلاع حرب أهلية في حال وصول اليمين المتطرف أو حزب فرنسا الأبية اليساري المتشدد الذي يتزعمه جان لوك ميلونشون إلى السلطة.
يضاف إلى ذلك أن نتائج الانتخابات البرلمانية الثلاثة، التي أجريت في عهده شهدت تراجعًا خطيًا عكست تراجع شعبيته وقوته الحزبية وتراجع سيطرته على البرلمان، في عام 2017 استحوذت كتلته النيابية على 350 نائبًا بما مكنها من حيازة الأغلبية المطلقة، وتراجعت تلك الكتلة في انتخابات 2022، لتصل 249 نائبًا تمثل الأكثرية النسبية، لتهبط في الانتخابات المبكرة 2024 إلى 168 نائبًا ليفقد الأكثرية النسبية بما يدفعه لضرورة التحالف مع قوى اليسار.
سيناريوهات متعددة
هناك العديد من السيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة، وهي:
(&) السيناريو الأول حكومة ائتلافية: يقوم هذا السيناريو على اتجاه التيار الداعم للرئيس ماكرون إلى التحالف مع الجبهة الشعبية الجديدةـ التي حازت على المركز الأول في الانتخابات، هذا السيناريو يجد مقومات تشكيله في التنسيق بين الجانبين لسحب المرشحين الذين حصلوا على المركز الثالث في انتخابات المرحلة الثانية من الانتخابات، لإفساح المجال أمام المرشحين الأقوياء سواء من تحالف ماكرون أو الجبهة، لمواجهة مرشحي اليمين المتطرف، ونجح ذلك التنسيق في إعطاء اليمين صفعة قوية كما وصفتها الصحف الفرنسية حالت دون حصوله على المركز الأول، وتوقعت غالبية استطلاعات الرأي العام، لذلك أعلن رئيس الحزب الاشتراكي أوليفيه فور، أنه مستعد لتولي هذا المنصب، واعتبره البعض الشخصية الوحيدة التي يمكنها طمأنة الفرنسيين.
لكن سيناريو تشكيل الحكومة الائتلافية يواجه تحديًا رئيسيًا هو وجود حزب فرنسا الأبية، ضمن حزب الجبهة الشعبية الجديدة والرافض للائتلاف في حكومة جديدة مع التحالف الداعم للرئيس الذي يرفض أيضًا توجهات الحزب اليسارية المتطرفة.
(&) السيناريو الثاني حكومة أقلية: يقوم هذا السيناريو على أن تحالف "معًا من أجل الجمهورية" وبرغم تراجع عدد مقاعده مقارنة بعددها في البرلمان المنحل، إلا أنه يمتلك نواة صلبة داخل البرلمان تمكنه من التحالف مع القوى المنسجمة مع رؤيته إزاء العديد من القضايا على المستويين الداخلي والخارجي وفي مقدمة تلك القوى الاشتراكيين والجمهوريين، لذلك يسعى ماكرون إلى إحداث انشقاق داخل الجبهة الشعبية الجديدة بإبعاد الاشتراكيين والخضر عن حزب فرنسا الأبية، ومحاولة إقناعهم للدخول في تحالفه الذي أخفق في الحصول على أغلبية وأضحى بمثابة أقلية ليصبح غالبية أعضاء الحكومة من معسكره.
هذا السيناريو ربما يكون الأضعف في ظل رفض بعض القوى الداعمة لتحالف الرئيس للاتجاه نحو التحالف مع أحزاب من الجبهة الشعبية، في ظل التمايز الأيديولوجى والبرامجي فيما بينهما.
(&) السيناريو الثالث تشكيل حكومة كفاءات: يقوم هذا السيناريو على صعوبة تشكيل حكومة من قوى تتبنى توجهات متضادة، فضلًا عن غياب الخبرات التاريخية لتشكيل حكومات ائتلافية فرنسية، كما يحدث في نماذج أوروبية بدول مثل إسبانيا وبلجيكا وإيطاليا، وهو ما يدفع ماكرون لتكليف رئيس وزراء تكنوقراط ليشكل حكومة بعيدة عن التجاذبات الأيديولوجية المعقدة التي تحول دون تشكيل حكومة ترضي كل الأطراف.
مجمل القول إن تنافس القوى السياسية الفائزة في الانتخابات البرلمانية الفرنسية المبكرة في ظل إعادة بناء المشهد السياسي بشكل جذري، يجعل من تشكيل الحكومة معضلة تواجه الرئيس ماكرون وتدفعه إلى ضرورة التعاون مع قوى اليسار لتجاوز تجميد المشهد السياسي وتأثيره على الواقع الاقتصادي الفرنسي بتعقيداته ومشكلاته المتزايدة، لا سيما فيما يخص الاستثمارات الخارجية، وبما يحول دون العودة إلى الشارع لحسم الخلافات السياسية.