خشية تعذر التصديق عليه أمام الجمعية الوطنية، أقر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يوم الخميس 16 مارس 2023، قانون رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا، وسط استمرار الغضب في الشارع الفرنسي، الذي قاد لأعمال شغب ومواجهات بين المتظاهرين والشرطة في محيط البرلمان.
الأوضاع بين السُلطتين، التنفيذية والتشريعية، ليست أقل سوءًا، إذ لوّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال اجتماع مُصغر للحكومة في قصر الإليزيه يوم الأربعاء 15 مارس 2023، بحل الجمعية الوطنية، ما عكس صدامًا محتملًا بين الإليزيه والبرلمان
في مواجهة دعوات المعارضة اليمينية واليسارية، لسحب الثقة من حكومتها، أعلنت إليزابيث بورن، تحملها وحكومتها المسؤولية تجاه القانون، فيما كانت قد حذرت عقب انتخابات الجمعية الوطنية في يونيو الماضي، من أن تشكيل البرلمان يُمثل خطرًا على البلاد، فهل اقتربت فرنسا من السيناريو الذي حذرت منه "بورن"؟
خيار صعب:
أمام محدودية الخيارات والرفض الحزبي والنقابي الواسع، والذي ترجمه تظاهر عشرات الآلاف من الفرنسيين في شوارع باريس وغيرها من المدن الرئيسية، واندلاع أعمال شغب في ساحة الكونكورد، مررت حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون مشروع قانون التقاعد، دون اللجوء للجمعية الوطنية؛ استنادًا إلى المادة 49-3، بعد فشل اجتماعات الأربعاء والخميس التي جرت بقصر الإليزيه مع قادة الكتل النيابية، ويمكن معرفة أبعاد الأزمة على النحو التالي:
(*) البعد المالي: تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في إعادة تفكير الزعماء الأوروبيين، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي، في أوجه الإنفاق الحكومي، خاصة تلك التي تمس نموذج البلاد الاجتماعي، والذي يُخصص نحو 14,5% من حجم الناتج المحلي الإجمالي في مصارف المعاشات، ما يُوحي إلى أعباء إضافية ناتجة عن التحول الديمغرافي في البلاد، مع ارتفاع نسبة المسنين، مقارنة بالانخفاض في معدل المواليد، وتأثرت قوة العمل في فرنسا باختلال التوازن بين أصحاب المعاشات والعاملين من مستوى 4 أفراد عاملين مقابل كل متقاعد في ستينيات القرن الماضي، إلى 1,7 في 2020، وبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" من المحتمل أن يصل المعدل إلى 1,5 خلال العقد المقبل. في وقت تسعى فيه باريس لرفع ميزانية الدفاع؛ لتصل إلى 400 مليار يورو في الفترة من 2024 إلى 2030، بزيادة عن الميزانية السابقة والتي بلغت 295 مليار يورو.
(*) البعد السياسي الاجتماعي: نتيجة لسياسات الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي كان خبيرًا مصرفيًا سابقًا وسياسيًا محسوبًا على تيار الوسط، عمل "ماكرون" بثبات على تقديم إصلاحات تميل قليلًا باتجاه اليمين، لجهة إصلاح النظام الراهن، عبر زيادة أسعار الوقود وفرض الضرائب على وقود الديزل؛ مما أثار حفيظة مجموعة من النشطاء عرفت باسم حركة السترات الصفراء في نوفمبر 2018 اعتبرت سياسة الحكومة موجهة لخدمة الأغنياء. وتصاعدت الحركة الاحتجاجية مرة أخرى منذ 19 يناير الماضي، وسط حضور واسع للنقابات العمالية الثماني الكبرى، وعلى رأسها "الكونفدرالية العامة للشغل CGT"، مع الحديث عن مشروع قانون رفع سن التقاعد، إلا أن الموجات المتتالية من المظاهرات والإضرابات أظهرت اتساع الانقسامات في صفوف الشارع الفرنسي.
مشهد سياسي مضطرب: جاءت الاحتجاجات الأخيرة في سياقي نيابي وحزبي مختلف، انسحبت فيه أغلبية تحالف "معًا" الحاكم من مستوى 350 مقعدًا في انتخابات الجمعية الوطنية في 2017، إلى 245 مقعدًا فقط في انتخابات يونيو الماضي، بينما يحتاج "ماكرون" لتأمين أغلبية مطلقة بعدد 289 مقعدًا من إجمالي 577.
وأسهم تراجع شعبيته وتأييده في الشارع، في تحالفه التكتيكي مع اليسار في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية في أبريل الماضي، قبل أن تتوجه أحزاب اليسار (الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي) تحت قيادة، جان لوك ميلنشون (بأكثر من 131 مقعدًا) لإعادة تنظيم صفوفها لمواجهة مشروع الرئيس، وسط حضور قوي من اليمين الشعبوي بقيادة، مارين لوبان، الزعيمة السابقة لحزب التجمع الوطني وزعيمة كتلته النيابية البالغة 89 مقعدًا، والتي نجحت في تشكيل الكتلة النيابية للحزب لأول مرة منذ 1986.
وعكس لجوء الرئيس الفرنسي لتجاوز البرلمان وتمرير قانون رفع سن التقاعد، انقسام أقرب الخصوم في التيار اليميني المحافظ من حزب الجمهوريين (الذي حصد 64 مقعدًا) بشأن مشروع القانون، إذ كان من المفترض أن يؤمن إلى جانب تحالف "معًا" الأغلبية اللازمة لتمرير المشروع بالجمعية الوطنية، بعدما أقره مجلس الشيوخ بأغلبية مريحة.
سيناريوهات محدودة:
ثمة تخوفات من ارتفاع حدة الاحتجاجات بوتيرة هي الأعنف منذ احتجاجات 1968، على خلفية أعمال الشغب التي سادت عشرات المدن الفرنسية، عقب تمرير قانون التقاعد، إثر اعتقال نحو 200 شخص في أحداث شغب الخميس، والتخطيط لمظاهرات مماثلة يوم الخميس المقبل 23 مارس، وسط اتجاه المعارضة للقضاء؛ مما يُعرقل مؤقتًا من أثر القانون.
(#) توسيع الحكومة: وحينها سيسعى الرئيس الفرنسي للحفاظ على هامش المناورة أمام أحزاب المعارضة في أقصى اليمين وأقصى اليسار، وربما توسيع الحكومة بضم حزب الجمهوريين الذي سيتحول إلى الكتلة الراجحة في الصراع نحو الأغلبية المطلقة، على أمل أن يُسهم ذلك في تمرير الإصلاحات والحفاظ على استقرار رئاسته خلال السنوات الأربع المتبقية، وإنهاء المظاهرات التي تناقصت أعداد المشاركين فيها بصورة ملحوظة، فيما حافظت على وتيرة انتشار جغرافي واسع.
(#) حل البرلمان: ويُعد الخيار الأصعب، في ظل تراجع شعبية الرئيس وتصاعد الغضب تجاه سياساته الاجتماعية، والتي سيعني معها ذلك تشكيل جمعية وطنية جديدة بأغلبية يسارية مدعومة من النقابات، قد تفرض ميلنشون رئيسًا للوزراء وفي تلك الحالة سيتعين على الرئيس الفرنسي التفاهم والتوافق مع رئيس الوزراء في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، أو المخاطرة بالدخول في دوامة عدم الاستقرار السياسي، مع تزايد حظوظ اليمين الشعبوي على الجانب الآخر.
وختامًا؛تُعزز براجماتية الرئيس الفرنسي من احتمالية تقديمه بعض التنازلات لصالح حزب الجمهوريين؛ لإنقاذ خطته الإصلاحية واستعادة السيطرة على الجمعية الوطنية، بدلًا من إعادة التفاوض على كامل الخطة والمعاناة من تأزم سياسي واضطرابات اجتماعية على مدار السنوات الأربع المتبقية، لكنه في الوقت ذاته غير مُستعد لمراجعة أو إعادة النظر في رفع سن التقاعد. وتؤشر الأزمة الراهنة على بروز تحول جوهري في النظام السياسي الفرنسي، يتلخص في ضعف سُلطة الرئيس أمام الجمعية الوطنية واتساع للفجوة، محتمل أن يتزايد بين التيارات السياسية والاجتماعية، على وقع أزمات التضخم والتراجع الديمغرافي والتوترات الجيوسياسية التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية.