تشكّل المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية التي أجريت في السابع من يوليو 2024 نقطة تحول محورية لمستقبل "الماكرونية" وحدود الاستقرار السياسي في فرنسا، لا سيما بعد إعلان النتائج شبه النهائية للانتخابات النيابية بحصول "الجبهة الشعبية الجديدة" على المركز الأول بإجمالي عدد 182 مقعدًا، فيما جاء تحالف "معًا من أجل الجمهورية" في المركز الثاني بعدد 168، وجاءت مفاجأة الانتخابات، أو ما وصف بـ"الصفعة" في الصحف الفرنسية، بحصول حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف على المركز الثالث والأخير بعدد 143 مقعدًا. وتعكس تلك النتائج عدم قدرة أي من القوى على حيازة الأغلبية المطلقة 289 من أصل 577 مقعدًا إجمالي أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان).
ورغم حصول التحالف الداعم للرئيس ماكرون ولعهده (الذي يضم الأحزاب الثلاثة: تجدد، والحركة الديمقراطية، وهورايزون) على المركز الثاني في الانتخابات، إلا أنه يعد الخاسر الأكبر في الانتخابات، بعد ما تراجع عدد نوابه من 250 في البرلمان السابق إلى نحو 168 مقعدًا، في حين ارتفع عدد المقاعد التي حصل عليها حزب التجمع الوطني اليميني من 88 عضوًا في البرلمان المنحل إلى 143 مقعدًا في البرلمان الجديد.
ويثير هذا الواقع تساؤلًا رئيسيًا حول مستقبل الماكرونية بعد الانتخابات البرلمانية الفرنسية، وغلبة التشرذم على الكتل البرلمانية وحدود تأثير ذلك على مستقبل الاستقرار السياسي في فرنسا.
برامج القوى المتنافسة
تنافس في الانتخابات البرلمانية الفرنسية، القوى الرئيسة المتجذرة في الواقع الفرنسي، التي تسعى لبلورة المشهد السياسي برمته وفق منطلقاتها الفكرية والأيديولوجية. وتتمثل أبرز تلك القوى في التالي:
(*) الجبهة الشعبية الجديدة: تشكلت الجبهة الشعبية من أحزاب (الاشتراكي، الشيوعي، الخضر، وفرنسا الأبية) ودفعت الجبهة في المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية بـ337 مترشحًا، كما أشارت التقديرات إلى التنسيق بين الجبهة والائتلاف الداعم للرئيس ماكرون لسحب المترشحين الذين حلّوا في المرتبة الثالثة وإعطاء فرصة للمترشحين الأقوياء لمواجهة مرشحى حزب التجمع اليميني.
وإذا كانت أحزاب الجبهة اختلفت في مواقفها من القضايا المحلية والدولية، إلا أنها اتفقت على التصدى ومواجهة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، واتفقت على برنامج انتخابي يقوم على عدة ركائز أهمها: مكافحة جميع أشكال العنصرية ومعاداة السامية وكراهية الإسلام، توفير تعليم مجاني والحفاظ على الحرية، وإصلاح المطاعم المدرسية، ودعم قطاع النقل، وإلغاء التأمين ضد البطالة، زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 1600 يورو، والعودة بسن التقاعد إلى 60 سنة بدلًا من 64 حاليًا، زيادة رواتب موظفي الخدمة المدنية بنسبة 10%، تعزيز القوة الشرائية عبر تحديد سقف لأسعار السلع الأساسية من الغذاء اليومي والطاقة والوقود، فرض تدابير إصلاحية على قوانين الضرائب، بناء أماكن إيواء تحسبًا لحالات الطوارئ، إيقاف إنشاء مشاريع الطرق السريعة المضرة بالمناخ، إلغاء قوانين اللجوء والهجرة التي أقرها ماكرون، إنشاء قنوات هجرة آمنة وقانونية، وإنشاء وكالة إنقاذ في البحر والبر.
(*) تحالف معًا من أجل الجمهورية: حصل التحالف الداعم للرئيس إيمانويل ماكرون تحت مسمى "معًا من أجل الجمهورية" على المركز الثاني في الانتخابات البرلمانية، حيث دفع التحالف بـ254 عضوًا للمنافسة في الجولة الثانية من الانتخابات. ويتشكل التحالف من الأحزاب الثلاثة الداعمة للرئيس ماكرون ولعهده وهي: تجدد، والحركة الديمقراطية، وهورايزون. ويتبنى ذلك التحالف قيم الجمهورية الفرنسية التي شكلت هوية فرنسا الأوروبية ودورها العالمي الداعم للديمقراطية والليبرالية وحرية السوق وللمصير الأوروبي المشترك، فضلًا عن التعددية الفكرية والثقافية الفرنسية القادرة على استيعاب كل الروافد الثقافية، وإعطاء الفرص المتكافئة والمتساوية للفرنسيين على الأراضي الفرنسية بصرف النظر عن أصولهم أو معتقداتهم. وقد كرر ماكرون منذ توليه السلطة رغبته في تغيير فرنسا مع توحيد الفرنسيين.
(*) حزب التجمع الوطني اليميني وحلفاؤه: جاء حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في المرتبة الثالثة في مفاجأة عكس ما توقعت استطلاعات الرأي العام التي رشحته للحصول على المركز الأول وتوقع حيازته على الأغلبية أو الاقتراب منها. وقام برنامج الحزب على التخفيف من حدة القضايا الجدلية التي تلقى رفضًا داخل المجتمع الفرنسي مثل الحديث عن إصلاح مؤسسات الاتحاد الأوروبي بدلًا من الانسحاب منه، وخفض المساعدات الفرنسية للاتحاد الأوروبي، فضلًا عن تبني الحزب لترحيل المهاجرين غير الشرعيين، ورفض منح الجنسية الفرنسية لمولود من أبوين مهاجرين بطريقة غير مشروعة للبلاد. وسعى الحزب إلى توظيف الأزمة الاقتصادية التي تمر بها فرنسا لترويج أفكاره اليمينية منها موقفه الصارم من الهجرة، التي يعتبرها أحد مسببات الأزمة الاقتصادية والهوياتية في فرنسا. ودفع الحزب فى المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية بما يقرب 483 مترشحًا على المقاعد المتبقية التي تقدر بـ"501 مقعد فى الجولة الثانية".
سيناريوهان محتملان
تشكل نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية التي جاءت بعد دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة تحديًا للماكرونية التي أصبحت على المحك، الأمر الذي يضعها أمام سيناريوهين لا ثالث لهما.
(&) السيناريو الأول.. نهاية الماكرونية: ويقوم هذا السيناريو على أن الرئيس ماكرون عندما قام بحل البرلمان في 9 يونيو 2024 اعتقد بإمكانية مواجهة التيار اليميني المتطرف على مستوى الداخل الفرنسي بعد فوزه بالمركز الأول على المستوى الأوروبي، لكن نتائج الانتخابات البرلمانية دفعت بالتحالف الداعم للرئيس إلى المرتبة الثانية بعد صعود تحالف أحزاب الجبهة الشعبية الجديدة. وربما يعود ذلك للعديد من الأسباب منها ما يتعلق بالضغوط الاقتصادية بعد ارتفاع معدلات التضخم، والارتفاع الحاد في أسعار الطاقة، وتراجع القوة الشرائية للفرنسيين، فضلًا عن ارتفاع نسبة البطالة إلى ما يقرب من 25% خلال عام 2023، وفرض قانون للتقاعد رفضته معظم القطاعات الداعمة لماكرون ومرره بعيدًا عن البرلمان باستخدام السلطات المخولة له دستوريًا. في مقابل ذلك التراجع بدأ حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف أكثر مرونة بشأن القضايا الجدلية التي تهم الشارع الفرنسي ومنها الحديث عن إصلاح مؤسسات الاتحاد الأوروبي بدلًا من الخروج منه، والمطالبة بأن تكون الأولوية في التوظيف والحصول على الخدمات للفرنسيين وليس للحاصلين على الجنسية الفرنسية.
(&) السيناريو الثاني.. استمرار الماكرونية: تمنح المادة الثامنة من الدستور الفرنسي للرئيس، الحق في تسمية رئيس الوزراء دون معايير معينة، الأمر الذي سيعطي الرئيس إيمانويل ماكرون القدرة على المناورة ما بين الائتلافات التي تشكّل البرلمان وتؤثر على تركيبة عضويته. وإذا كانت نتائج الانتخابات أشارت إلى صعوبة حصول أى من التحالفات على الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة يصبح الرئيس أمام خيارين؛ الأول: أن حصول الجبهة الشعبية الجديدة على المركز الأول في الانتخابات ومع احتمالية تحالفه داخل البرلمان مع تحالف "معًا" يمكن أن يكلف الرئيس ماكرون أحد الشخصيات التي تحظى بتوافق داخل الجبهة لتشكيل الحكومة برغم وجود تمايز برامجى بين الأحزاب المشكلة للجبهة، كما سيصبح في هذه الحالة حزب التجمع اليميني بمثابة المعطل، لتمرير مشروعات القوانين التي تقرر السياسات الاقتصادية والاجتماعية لماكرون في الفترة المتبقية من ولايته حتى 2027. أما الخيار الثاني فيقوم على احتمالية تكليف الرئيس إيمانويل ماكرون لشخصية تكنوقراطية، لتشكيل الحكومة بعيدًا عن تجاذبات الأحزاب والأيديولوجيات المعقدة.
مجمل القول إن الانتخابات البرلمانية الفرنسية وضعت الماكرونية على المحك وأعطت فرصة للتيار اليميني المتطرف لتنظيم صفوفه وزيادة مقاعده برغم حلوله في المرتبة الثالثة بعد قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بحل البرلمان الذي اعتبره قطاعًا معتبرًا من الداعمين للرئيس بأنه لم يكن مطالبًا باتخاذ هذا الموقف، لذلك كشفت اتجاهات التصويت عن تراجع شعبية ماكرون الذي حذّر في 24 يونيو 2024 من اندلاع حرب أهلية في حال وصول اليمين المتطرف أو حزب فرنسا الأبية اليساري المتشدد الذي يتزعمه جان لوك ميلونشون إلى السلطة، وهو التحذير الذي سيجد صداه في تشكيل الحكومة الجديدة، وما إذا كانت فرنسا وماكرونيتها قادرة على مواجهة تشرذم البرلمان وتشكيل حكومة جديدة بعد استنفار الهيئة الناخبة التي نجحت فى وقف صعود اليمين المتطرف وحرمانه من الاقتراب من السلطة، وتعزيز مكانة اليسار الاجتماعي كما حدث في بريطانيا، وصعوده في دول أمريكا اللاتينية التي اعتبر قادتها أن فوز قوى اليسار في فرنسا أضحى نموذجًا ملهمًا على المستوى العالمي.