أجريت المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية في 30 يونيو 2024، وذلك على خلفية قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بحل الجمعية الوطنية (البرلمان) في 9 يونيو 2024، ودعوته إلى انتخابات تشريعية مبكرة بعد أن فاز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي بحصول قائمة جوردان بارديلا رئيس الحزب على 31,36 % من الأصوات. وهي الانتخابات التي شهدت أيضًا هزيمة ائتلاف ماكرون (معًا) المنتمي لتيار الوسط. وبرر ماكرون خطوة حل البرلمان بالقول "لقد قررت أن أعيد لكم خيار مستقبلنا البرلماني من خلال التصويت، إن صعود اليمين يمثل خطرًا على فرنسا وأوروبا بشكل عام".
واعتبر البعض قرار حل البرلمان الفرنسي برغم عدم وجود ما يلزم ماكرون بذلك، لتصحيح المسار وفق رؤيته بعد نتائج الانتخابات الأوروبية قد يقضى على أغلبية ماكرون في البرلمان، وأنه من الخطوات الأكثر تهورًا في تاريخ الجمهورية الخامسة، والتي بنيت على التوقعات الأكثر عبثية. وهو الأمر الذي كشفت عنه نتائج الانتخابات البرلمانية في مرحلتها الأولي، والتي أدت إلى صعود اليمين المتطرف، واقترابه من الاستحواذ على السلطة التشريعية أو اقتسامها.
نتائج متوقعة
كشفت المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية عن عدد من النتائج لعل أهمها:
(*) تقدم حزب التجمع الوطني: وفقًا للنتائج الرسمية التي أعلنتها وزارة الداخلية في 1 يوليو 2024 حصل حزب التجمع الوطني المنتمي لليمين المتطرف وحلفاؤه على 33 % من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية. وجاء تحالف الجبهة الشعبية الجديدة في المركز الثاني بحصوله على 28 %، فيما حل تحالف الوسط الذي ينتمي إليه الرئيس إيمانويل ماكرون في المرتبة الثالثة بعد حصوله على 20% من الأصوات.
(*) ارتفاع نسبة المشاركة السياسية: شهدت الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية مشاركة مرتفعة وإقبال كبير من الهيئة الناخبة الفرنسية، والتي قدر عددها بـ 49,5 مليون ناخب، فيما يبلغ عدد أعضاء البرلمان 577 يتنافس على تلك المقاعد 4011 مرشحًا، وذلك لولاية مدتها خمس سنوات. وهو ما أظهرته استطلاعات الرأي العام، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسستا إبسوس وإيلاب للتلفزيون الفرنسي أن نسبة المشاركة النهائية في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية تراوحت بين 67,5 و69,5 % بما جعل التقديرات تشير إلى أن إقبال الناخبين الفرنسيين في المرحلة الأولي هو الأعلى منذ عام 1986. وربما يعود ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات إلى عاملين أساسيين: أولهما المشكلات الاقتصادية التي يعاني منه الاقتصاد الفرنسي، فضلًا عن التراجع الاقتصادي لمنطقة اليورو، وتراجع الدور الفرنسي في مناطق النفوذ مثل إفريقيا، والتحديات التي تواجه مكانة فرنسا العالمية، بما جعل الناخبين الفرنسيين يتجهون نحو صناديق الاقتراع بكثافة للتعبير عن تفضيلاتهم الانتخابية سواء على المستوى الداخلي أو المستوى الخارجي، وقد كان للشباب النصيب الأهم لتلك المشاركة فضلًا عن المتقاعدين. أما العامل الثاني فيرتبط بأن إقبال الناخبين على مستوى انتخابات البرلمان الأوروبي وصعود اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية مثل إيطاليا وألمانيا وبلجيكا، وغيرها، أعطى التيار اليميني المتطرف دفعة على مستوى الانتخابات التي تجرى على المستوى الوطني لتلك الدول، وقد كانت المرحلة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية أول صدى لذلك الصعود على المستوى القومي للجماعة الأوروبية.
(*) تنامي المخاوف الأوروبية: تنامت المخاوف الأوروبية من نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، حيث أعربت وزيرة الخارجية الألمانية بيربوك عن قلقها حيال الأداء القوي للقوميين اليمينيين في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية قائلة"" فرنسا لا يمكن لأحد أن يصبح غير مبال عندما يتصدر بشكل كبير حزب يرى أن أوروبا هي المشكلة وليست الحل، وهذا الحزب في بلد هو أقرب شركائنا وأفضل أصدقائنا". كما حذر رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، من أن نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة تعكس اتجاهًا خطيرًا لفرنسا وأوروبا، مشيرًا إلى تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا والنفوذ الروسي داخل هذه الأحزاب في أوروبا. كما عبر رئيس الوزراء الإسباني بيدور سانشيز عن أمله في تعبئة اليسار الفرنسي، وفي أن يعي المجتمع أهمية الاعتماد على سياسات وحكومات تقدمية.
تداعيات محتملة
على خلفية نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، فإن المسارات المحتملة التي سترسم صورة المجلس النيابي الجديد، من المحتمل أن تتجه نحو التالي:
المسار الأول: احتمالية استمرار تقدم حزب التجمع الوطني في المرحلة الثانية من الانتخابات والتي ستجرى في 7 يوليو 2024، ليحصل على الأغلبية المطلقة 289 من أصل 577 عضوًا ـ أو يقترب منها، بما يجعل ماكرون مضطرًا وفقًا للمواءمة السياسية -وبرغم عدم وجود مادة في الدستور الفرنسي تقر ذلك- إلى تكليف رئيس الحزب جوردان بارديلا، بتشكيل حكومة جديدة، بحيث تصبح السلطة التنفيذية في فرنسا برأسين لهما مشروعين مختلفين بين رئيس جمهورية من فريق جعل من أهدافه للوصول إلى سدة الحكم منع صعود اليمين المتطرف في فرنسا، وحكومة من فريق آخر ربما ينتمى عدد من أعضائها ورئيسها المحتمل وفق النتائج النهائية للانتخابات إلى اليمين المتطرف إذ انضم جوردان بارديلا الذى يبلغ من العمر 28 عامًا إلى الحزب اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان عندما كان عمره 16 عامًا، وبعد ذلك اختارته لوبان مرشحًا لحزبها في الانتخابات الأوروبية عام 2019 ، كما انتخبه الأعضاء رئيسًا للحزب في نوفمبر 2022. ويقدم بارديلا نفسه على أنه رئيس وزراء محتمل يستند برنامجه على تعزيز القوة الشرائية للفرنسيين، متعهدًا بخفض ضريبة القيمة المضافة على الطاقة والوقود وإعفاء من تقل أعمارهم عن 30 عامًا من ضريبة الدخل، وينتقده معارضوه بأنه يفتقد إلى الخبرة المهنية نظرًا لدخوله عالم السياسة في سن مبكرة، وأن خططه الاقتصادية غير واقعية ولا تستند إلى خبرات عملية على أرض الواقع. هذا المسار حذر منه كبار السياسيين على المستوى الفرنسي ومنهم الرئيس السابق فرانسوا أولاند الذي ذهب إلى أن الماكرونية السياسية قد انتهت، وعلى المستوى الأوروبي، وصفت صحيفة دير شبيجل الألمانية الواقع الفرنسي بعد نتائج المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية بنهاية عهد ماكرون.
المسار الثاني: يقوم على احتمالية تشكيل ما يسمى الجبهة الجمهورية باعتبارها السبيل الوحيد لمنع حزب التجمع الوطني اليميني من الاستحواذ على السلطة التشريعية في المرحلة الثانية من الانتخابات، وهي الجبهة التي سبق وأن تم تشكيلها من كافة القوى التي تتبني قيم الجمهورية عام 2002 وتمكنت من هزيمة جان ماري لوبان والد مارين لوبان زعيمة الحزب في الانتخابات الرئاسية، لصالح فوز جاك شيراك بنسبة 80 % من الأصوات. لذلك يتوقف تشكيل تلك الجبهة على مدى استجابة ماكرون للنداءات الفرنسية لمواجهة اليمين المتطرف، حيث دعت 220 شخصية سياسية ومن المجتمع المدني الماكرونيين إلى التوقيع على اتفاق مبدئي مسبق للتنازل المتبادل بين جبهة اليسار والائتلاف الماكروني، وتمكين المرشح المتمتع بأكبر فرصة من منافسة مرشحي اليمين المتطرف. كما وجهت مارتين أوبري الوزير السابقة والمنتمية للحزب الاشتراكي ورئيسة بلدية مدينة ليل رسالة إلى الرئيس ماكرون على منصة إكس جاء فيها "السيد الرئيس، أنت غير قادر على رفض مبدأ التنازل الذي سمح لك بالفوز بولايتين رئاسيتين، وإلا فإنك تخاطر عن وعي بتمكين التجمع الوطني من الحصول على الأكثرية المطلقة".
مجمل القول، إن حسم أي من المسارين السابقين يتوقف على مدى توافر السياق الداعم لغلبة أحدهما. وهو ما يعني أن فرنسا في مفترق طرق حقيقي، فإذا تمكن اليمين المتطرف من الفوز في الدورة الثانية من الانتخابات البرلمانية ستكون فرنسا، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية أمام مشهد استحواذ اليمين المتطرف على السلطة التشريعية وخطورة امتداد ذلك إلى المنصب الرئاسي في الانتخابات القادمة 2027. بما سيكون له تداعياته المؤثرة على مفردات المشهد الأوروبي ككل. وهو الأمر الذي يتطلب من النخبة والمجتمع في فرنسا ضرورة حشد وتعبئة الناخبين الداعمين لمرتكزات الجمهورية الفرنسية. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال تحالف ائتلاف الوسط الذي يتكون من الأحزاب الثلاثة تجدد والحركة الديمقراطية وهورايزون والداعمة للرئيس ماكرون مع قوى اليسار الفرنسي، وذلك لقطع الطريق على صعود اليمين المتطرف والحفاظ على ركائز الجمهورية الفرنسية وقيمها، لاسيما وأن النسبة الأكبر من مقاعد البرلمان لازالت شاغرة وسيتم حسمها في المرحلة الثانية من الانتخابات، التي ربما ستضع مستقبل الماكرونية على المحك.