مع مقتل الشاب الفرنسي من أصول جزائرية، "نائل" ذي الـ17 ربيعًا في 27 يونيو الماضي على يد ضابط شرطة بعد رفضه الامتثال لأوامره، سارعت التيارات اليسارية بإدانة الحادثة، داعية إلى التعبئة لتحقيق العدالة، وهو الأمر الذي دعا تيار اليمين المتشدد إلى اتهام التيارات اليسارية بمحاولة استغلال الواقعة لتحقيق مكاسب سياسية حزبية على حساب المصلحة الوطنية، لا سيَّما أن دعوات الاحتجاج صحبتها أعمال سلب ونهب وتخريب، أدت إلى توقع البعض أنها قد تكون بوادر لـ"حرب أهلية"، خصوصًا أن الواقعة طرقت الباب لفتح النقاش حول التمييز والعنصرية تجاه سكان الضواحي الذين يعانون من الفقر وتدني مستويات المعيشة.
يُجيب هذا التحليل على التساؤلات المتعلقة بموقف اليسار من حالة التصعيد التي تلت مقتل الشاب نائل، وحدود هذا الدور، وأشكال الدعم الذي يتلقاه المحتجون من اليسار.
مواقف متشددة:
ينقسم التيار اليساري في فرنسا إلى قسمين، هما التيار اليساري الراديكالي الذي يتزعمه جان لوك ميلانشون، زعيم اتحاد اليسار الجديد (Nupes)، والذي يضم حزب ميلانشون "فرنسا الأبية" والاشتراكي والبيئة، والحاصل على 131 مقعدًا في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وفق ما أعلنته لجنة الانتخابات التابعة لوزارة الداخلية، والمرشح الرئاسي الحاصل في انتخابات 2017 على 19.50% من إجمالي الأصوات، ويطالب اليساريون الراديكاليون بإصلاحات اجتماعية واقتصادية جذرية ورفض السياسات الليبرالية التي يتهمون ماكرون بتبنيها، بالإضافة إلى تيار اليسار الأكثر اعتدالًا مثل حزب الخضر الذي يدعو إلى إجراء إصلاحات تدريجية ضمن النظام القائم. ويشارك التيار اليساري بشكلٍ عام في الاحتجاجات الجارية بفرنسا سواءً بشكلٍ منظم أو بمبادرات فردية وجماعية من أعضائه. ويُركز في دعوته بشكلٍ عام على مطالبات لتحقيق العدالة، بلوغ الحقيقة، وفرض الرقابة الخارجية على الشرطة، ومحاربة العنصرية.
ويُتهم اليسار الفرنسي باستغلال ظواهر العنف الحضري التي تشهدها فرنسا أخيرًا، وذلك للحفاظ على شعبيتهم في الشارع خصوصًا مناطق الضواحي التي يحظى فيها التيار اليساري بشعبية كبيرة، فهو لا يرغب في إدانة مشاهد العنف بقسوة حتى لا يعطي الشعور بالعزلة عن الطبقة العاملة. ويرى اليمينيون وأنصار الجمهورية أن أقصى اليسار لم يراعِ المصلحة الوطنية لفرنسا في الأحداث الأخيرة.
جدير بالذكر أن مواقف زعيم حزب فرنسا الأبية بدت الأكثر تشددًا على الإطلاق؛ إذ إنه يعمل على كسب الشعبية والثقة من الطبقات الجماهيرية المختلفة عبر مشاركته في جميع الحركات الاحتجاجية التي شهدتها فرنسا أخيرًا، مثل مظاهرات السترات الصفراء، واحتجاجات العمال الرافضة لتمرير قانون مد سن التقاعد، وهو ما يُمكن تفسيره على أنه تجهيز للانتخابات الرئاسية 2027، ويدعم ذلك طموحه أثناء خوض تحالفه الانتخابات التشريعية الأخيرة؛ إذ أعلن عن رغبته في تشكيل الحكومة، وهو الأمر الذي لم يتحقق.
أنماط الدعم:
نبرز فيما يلي أنماط الدعم في سياسات اليسار الفرنسي تجاه أحداث العنف الحضري التي تلت مقتل الشاب نائل:
(*) تجنب الشجب والإدانة: اُتهم تيار اليسار الفرنسي بدعمه للمحتجين عبر تجنب الشجب والإدانة بشكلٍ صريح لأعمال العنف التي تخللت الاحتجاجات ودعوات التعبئة التي حشدوا أنصارهم لها، وقد ألقى ميلانشون في كلمة له في 30 يونيو 2023 اللوم على السُلطات في تصاعد الأحداث في عددٍ من المدن الفرنسية. ودعا ميلانشون إلى ضرورة إدانة التصعيد الأمني، باعتباره أداة قد تؤدي إلى كارثة. وخاطب ميلانشون المحتجين، ودعاهم إلى سلمية الاحتجاجات والحفاظ على مؤسسات الدولة واحترام الملكية الخاصة والعامة؛ إذ قال: "المدرسة، يجب ألا نلمسها، المكتبة، صالة الألعاب الرياضية، كل ذلك يخصنا جميعًا، وهو مصلحتنا المشتركة"، وتجنب ميلانشون في دعوته الإدانة بشكلٍ صريح للأحداث التي شهدتها فرنسا في الأيام القليلة الماضية، وكذلك لم يُضمن في دعوته لنبذ العنف ضد مؤسسات ومرافق أخرى كالبلديَّات وأقسام الشرطة ووسائل المواصلات العامة، وهو ما لاقى استهجانًا من العديد من التيارات السياسية في فرنسا حتى بعض قوى اليسار التي ركزت في مطالبها بأهمية تحقيق العدالة وإدانة العنف.
(*) التعبئة والحشد: وفقًا لتقرير لصحيفة Le Monde الفرنسية، والمنشور في 30 يونيو 2023، شاركت غالبية تيارات اليسار بشقيه الراديكالي والمعتدل في تنظيم المسيرة البيضاء؛ من أجل العدالة لنائل في 29 يونيو للضغط على السُلطات الفرنسية بإجراء تعديلات جذرية في نظام الشرطة ومعالجة أسباب العنصرية وإلغاء "قانون كازينوف" والذي يتيح للشرطة التعامل مع مَن يرفض الامتثال لأوامرها، ويُهدد أمن القوات.
وسمحت حادثة الشاب نائل لتيارات اليسار بالتنديد، والحديث عن عنف الشرطة الفرنسية، وأساليب النضال ضد العنصرية. وجدير بالذكر أن المسيرة شاركت فيها والدة نائل، وهي تقف على شاحنة مرتدية قميصًا مكتوبًا عليه العدالة لنائل. وأكد فابيان روسل، زعيم الحزب الشيوعي على أهمية التعبئة الهادئة والسلمية من أجل الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة.
(*) وسائل التواصل الاجتماعي: رغم الانتقادات التي توجهها السُلطات الفرنسية للاحتجاجات وسوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لها، يبرز استخدام المعارضة اليسارية لوسائل التواصل الاجتماعي، مثل تويتر وسناب شات وتيك توك لإبراز دعمها للاحتجاجات مثل ما يقوم به ميلانشون على سبيل المثال على صفحته على تويتر. وقد وجهت السُلطات الفرنسية اللوم لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ اتهمتهم بالترويج للعنف ودعمه. وقال وزير العدل الفرنسي، إيريك دوبوند موريتي، إن السُلطات ستعمل على البحث عن هوية مروجي العنف والشغب على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي الوقت الذي يعتز فيه المراهقون من المحتجين بمشاركتهم في الأحداث بنشر مقاطع تصويرية على وسائل التواصل الاجتماعي، طلبت السلطات الفرنسية من المنصات إزالة المحتوى الذي يساعد في تأجيج أعمال الشغب. وتتهم السلطات الفرنسية خوارزميَّات التواصل الاجتماعي بتأجيج الأوضاع. وفي هذا الصدد، اعتبر ماكرون في اجتماع الأزمة الذي عقده في قصر الإليزيه في 30 يونيو الماضي أن منصات وشبكات التواصل الاجتماعي لها دور كبير في تحريك الأحداث الأخيرة، وأعلن أنه سيتخذ عدة إجراءات تجاهها، بما يدعم تنظيم سحب المحتوى الأكثر حساسية. ومن جانبه، طالب زعيم الحزب الشيوعي، "فابيان" بإغلاق وسائل التواصل الاجتماعي في البلاد لحين انتهاء الاضطرابات.
اتهامات متلاحقة:
دائمًا ما يُتهم اليسار في فرنسا باستغلال الاحتجاجات الاجتماعية والعمالية لاكتساب الجماهيرية والزخم الشعبي لتحقيق مكاسب انتخابية. وفي هذا السياق، استغل المشرع اليساري إيريك كوكريل، من تحالف اليسار (Nupes) حادث مقتل الشاب نائل إلى مطالبة السلطات بتقديم مزيد من المساعدات للمناطق والضواحي ذات الدخل المنخفض، وقال عبر تويتر: "نحن بحاجة إلى ردود سياسية واجتماعية، بدءًا من النظر في كيفية استخدام الشرطة للنار ضد شباب الضواحي على مدى عقود".
وقد لاقى موقف اليسار الفرنسي بعدم إدانة العنف في الاحتجاجات بشكلٍ جلي وصريح، انتقادات واسعة من داعمي الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون واليمينيين مثل مارين لوبان، المرشحة الرئاسية السابقة، وزعيمة "التجمع الوطني" التي رفضت مواقف اليسار، واعتبرت أن الأحداث تقوض قيم الجمهورية وذلك في مقطع فيديو منشور على حسابها على تطبيق تويتر. من ناحيته، اتهم زعيم الجمهوريين، إريك سيوتي، تيارات أقصى اليسار بتحمل مسؤولية الشغب وتهديد الوحدة الوطنية للدولة.
ومن المتوقع أن يستفيد تيار اليمين المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبان، من هذه الأحداث خاصة أن الشارع الفرنسي بوجهٍ عام يرفض حالة العنف والتمرد التي تعيشها فرنسا منذ مقتل الشاب نائل؛ بسبب أعمال السرقة والنهب التي تخللت الاحتجاجات وأدت إلى خسائر اقتصادية فادحة؛ إذ يُشبه تقرير لموقع (France info) الأضرار التي نتجت عن أحداث العنف الحضري الذي شهدته بعض ضواحي فرنسا بأحداث الشغب التي وقعت في عام 2005، وكلَّفت الاقتصاد الفرنسي خسائر وصلت إلى 204 ملايين يورو وقتها. واعتبر عدد من أصحاب المتاجر الفرنسية المتضررة في تقرير للموقع نفسه أن أعمال الشغب قضت على تجارتهم وزادت من البطالة والمعاناة في هذه المناطق.
في الختام،بدا صوت اليسار في الأزمة التي تلت مقتل الشاب نائل منقسمًا وغير متناغم. ففي الوقت الذي ترى فيه مارين توندولييه، زعيمة حزب الخضر أنه لا سلام من دون عدالة، ويُشبه زعيم حزب فرنسا الأبية "ميلانشون"، ما يحدث بالانتفاضة وليس الشغب. يعتبر زعيم الحزب الشيوعي، فابيان روسيل، الذي يُمثل حزبه بـ 22 نائبًا في الجمعية الوطنية منَّ يدافع عن مثيري الشغب بالبعد عن قيم اليسار، التي تدعو بالأساس للدفاع عن الملكيات العامة وليس نهبها أو التعدي عليها. من جانبه، استنكر جان كريستوف كامباديليس، الرئيس السابق للحزب الاشتراكي، موقف ميلانشون، رافضًا أن يكون اليسار ظهيرًا سياسيًا لمثيري الشغب. وترى التحليلات أن هناك احتمالات ظهور مزيد من الانقسامات في صفوف اليسار متوقعة جدًا، خاصة مع اقتراب إجراء الانتخابات الأوروبية في يونيو 2024.