مراهنًا على قدرة الحياة الحزبية بكل أطيافها على إقصاء اليمين المتطرف، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 10 يونيو 2024 إلى حل الجمعية الوطنية والتوجه لانتخابات مبكرة يومي 30 يونيو و7 يوليو 2024، وذلك على وقع التقدم الكبير الذي حققه حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان وجوردان بارديلا في انتخابات البرلمان الأوروبي، التي حصد خلالها 30 مقعدًا من إجمالي 81 مقعد فرنسي ببرلمان التكتل، بنسبة 30.4%، وبنسبة 51% من إجمالي المقاعد التي حصل عليها "حزب الهوية والديمقراطية" الكتلة الأوروبية لتيار أقصى اليمين، بواقع 58 مقعدًا، مما شكل خسارة كبيرة للرئيس الفرنسي الذي حظي حزبه "النهضة" بـ13 مقعدًا بنسبة 14.6%.
وشهد عصر "ماكرون" العديد من التقلبات والاضطرابات في السياسات الداخلية، والتي ظهرت في أزمات "السترات الصفراء" و"قانون التقاعد"، وبرزت على السطح أزمات الهجرة والهوية في البر الرئيسي وأقاليم ما وراء البحار، وهي التحولات التي ساعدت في رفع أسهم اليمين المتطرف ودفعته إلى قلب المعترك السياسي بعدما كانت "الجبهة الوطنية" بزعامة مؤسسها جان ماري لوبان المنبوذة، وعلى هامش العملية السياسية، بينما بات الحزب بمسماه وقيادته الجديدتين كتلة مهمة ومؤثرة في البرلمانين الفرنسي والأوروبي، يتطلع رئيسه جوردان بارديلا لتولي رئاسة الحكومة، التي تمثل ثاني أهم منصب في البلاد ويتمتع رئيسها بصلاحيات واسعة في مجالات الاقتصاد والأمن في النظام السياسي الفرنسي شبه الرئاسي.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي انعكاسات دعوة الرئيس الفرنسي على مشهد التحالفات الانتخابية واتجاهات التصويت المتوقعة في الانتخابات المبكرة.
حراك متصاعد
أحدثت دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون لانتخابات مبكرة نهاية يونيو الجاري زلزالًا في المشهد السياسي الفرنسي على وقع النتائج الصادمة نسبيًا للنخبة الحاكمة في باريس وكذلك في بروكسل، رغم أنها جاءت مطابقة لاستطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات خاصة في البلدين الرئيسيين بالتكتل الأوروبي فرنسا وألمانيا، ولعل المؤشر الأبرز على تلك التغييرات أن سياسات القيادة الفرنسية ساهمت في عزلة الحزب الحاكم في ضوء التصادم مع معسكر اليسار، كما سعت لاستقطاب جانب من جمهور اليمين من خلال حملته لمكافحة "الانفصالية" وتصريحاته بشأن الإسلام، وهو ما ظهر في المخاوف العميقة على السِلْم الأهلي في البلد الذي يمتلك أكبر جاليتين مسلمة ويهودية في أوروبا عقب اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، ما قاد لبحث كل الأطراف عن التغيير، وهو ما يمكن النظر إليه في سياق الحراك الآتي:
(*) تحالف يميني أقرب من أي وقت مضى: أعلنت زعيمة "التجمع الوطني" مارين لوبان، يوم الجمعة 14 يونيو 2024، نيتها تشكيل حكومة وحدة وطنية في حال فوز حزبها بانتخابات الجمعية الوطنية، واعتبرت في وقت سابق دعوة رئيس حزب الجمهوريين إريك سيوتي في 11 يونيو الجاري للتحالف مع حزبها اليمني المتطرف في الانتخابات المقبلة نهاية لنحو 40 عامًا من "التهميش الزائف"، قبل أن يؤدي ذلك الموقف المنفرد للإطاحة به من رئاسة الحزب وقرار المكتب السياسي للحزب بطرده، رغم رفع دعوى قضائية ضد القرار انتهت لصالح "سيوتي" برفض قرار إقالته.
ومع انحياز عائلة لوبان لتحالفها السياسي العائلي ممثلًا في التجمع خلف "الجبهة الوطنية"، اتخذت ماريون ماريشال حفيدة مؤسس "الجبهة" جان ماري لوبان الانحياز لـ"التجمع" ووجهت بالتصويت له في الانتخابات الأوروبية مما قاد زعيم حزبها "الاسترداد" ومرشح الانتخابات الرئاسية السابق إريك زمور لطردها من الحزب، وبالتالي من المحتمل أن يخوض التجمع الوطني الانتخابات المقبلة منفردًا، في ضوء حرب تكسير العظام لتوسيع كتلة "التجمع الوطني" والذي قد يأتي على حساب حزب الاسترداد.
(*) تحالف انتخابي يساري: سارعت أحزاب اليسار ممثلة في أحزاب (الشيوعي والاشتراكي وفرنسا الأبية والخضر) بإعلان تشكيل "الجبهة الشعبية الجديدة" كمظلة انتخابية تتولى تقديم 577 مرشحًا في إطار الإعلان عن برنامج عمل مشترك يوم الجمعة 14 يونيو 2024، للاتفاق على أولويات المرحلة المقبلة حال الفوز بالانتخابات ولتذويب الخلافات بين أطراف التحالف الناشئ، وعلى رأسها تبني إدانة حماس واعتبارها منظمة إرهابية، مع الدعوة للتوجه إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية القائمة، على أساس قرارات الشرعية الدولية، مع فرض حظر تسليح على إسرائيل، كما يتبنى البرنامج الدفاع عن سيادة وحرية الشعب الأوكراني وتوفير شحنات أسلحة لكييف.
(*) حسابات معقدة لتحالف ماكرون: في أول نداء للشعب الفرنسي عقب الدعوة للانتخابات المبكرة، دعا الرئيس إيمانويل ماكرون، يوم الأربعاء 12 يونيو 2024، للتحالف مع السياسيين المعتدلين من اليمين واليسار لإبعاد شبح سيطرة اليمين المتطرف على الجمعية الوطنية، وبالتالي اختيار جوردان بارديلا رئيسًا للحكومة المقبلة، وهو ما يدفع لمحاولة إحياء ما يسميه بالقوس الجمهوري، إذ يحتاج تحالف الرئيس للحصول على أغلبية 289 من إجمالي 577 نائبًا لاختيار الحكومة منفردًا، ويظهر أحدث استطلاع للرأي أجرته آريس إنتراكتيف-تولون، صدر في 10 يونيو الجاري، أن نوايا التصويت تصب في صالح التجمع الوطني، إذ من المتوقع حصوله على ما بين 235 إلى 265 مقعدًا بنسبة تقارب 45%، يليه تحالف ماكرون بين 125 إلى 155 مقعدًا بنسبة 26.9%، نزولًا من 250 مقعدًا في المجلس المنحل، بينما جاء نصيب أحزاب اليسار مجتمعة بما يتراوح بين 115 إلى 145 مقعدًا بنسبة 25%.
وفي ظل حالة الاستقطاب الحادة في الشارع الفرنسي والصعود الواضح لتياري أقصى اليمين وأقصى اليسار واللعب على المتناقضات الاجتماعية والاقتصادية، فإن المعادلة تتجه لنهاية عهد انفراد ماكرون وتياره الوسطي بالسلطة في فرنسا، في ظل حراك طرفي المعادلة لعدم التعاون مع ماكرون، والتطلع لتشكيل تحالفات أيديولوجية قائمة على قضايا رئيسية لكل معسكر تتعارض في مجملها مع أجندة الرئيس على صعيد ملفات الهجرة واللجوء والتعامل مع سكان ضواحي العاصمة من الأقليات وأبناء المهاجرين بالنسبة لليمين المتطرف، وقضايا زيادة الضرائب على الأغنياء ورفع الحد الأدنى للأجور والعودة بسن التقاعد إلى 62 عامًا بالنسبة لليسار.
مساران محتملان
تأكيدًا على ما سبق؛ يظهر أن تقدم اليمين المتطرف في الانتخابات لا يزال التحدي الأبرز للرئيس الفرنسي، وأن الرهان على استمرار الإحجام عن تأييده شعبيًا وحزبيًا لن ينجح في معالجة تدهور شعبية ماكرون ومعارضة سياساته الداخلية على نطاق واسع من فئات المجتمع وكذلك النقابات العمالية المؤثرة في المشهد العام.
ويمكن تفصيل المسارات المحتملة لنتائج الانتخابات على النحو الآتي:
(&) سلطة تنفيذية برأسين: وهو المسار الأكثر ترجيحًا، وفيه ينجح أي من المعسكرين المعارضين بالاستحواذ على الأغلبية النيابية أو نجحت في نسج تحالفات سياسية داخل الجمعية الوطنية، مما يفرض على الرئيس تسمية رئيس وزراء يحظى بدعم تلك الأغلبية، إلا أن ذلك السيناريو يتوقف على نتيجة الصراع داخل حزب الجمهوريين، والذي من الممكن أن يلعب دور صانع الملوك في ترجيح كفة تحالف ماكرون أو اليمين المتطرف لتشكيل حكومة ائتلافية، كما يتوقف على الجانب الآخر على مدى تماسك "الجبهة الشعبية الجديدة" وتفاهماتها في تنفيذ البرنامج المشترك وكيفية اختيار المرشح لمنصب رئيس الوزراء في حال الفوز بالانتخابات.
(&) انتصار ماكرون: وفيه تنجح المناورة السياسية للرئيس الفرنسي في تفكيك حالة التحالفات المناهضة لحزب النهضة الحاكم، وتشكيل حكومة ائتلافية مع أحزاب مثل الجمهوريين أو الحزب الاشتراكي فيما يسمى بـ"القوس الجمهوري"، وبالتالي قلب الطاولة على اليمين المتطرف ووقف زحفه نحو قصر الإليزيه في انتخابات 2027. ويتطلب تحقيق ذلك السيناريو التراجع عن كثير من السياسات التي اتخذتها حكومة ماكرون ضد الطبقة العاملة في حالة التحالف مع أحزاب يسار الوسط، واتخاذ موقف أكثر وضوحًا تجاه قضايا الهجرة.
وإجمالًا؛ يمكن القول إن أوراق المشهد السياسي لا تزال تميل تجاه حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، في ظل صعود قيادة شبابية من أوساط مجتمعات ضواحي العاصمة الفرنسية، والتي تتأثر توجهاتها بالمخاوف من حركة الهجرة المستمرة وصعود الأقليات باتجاه تلك المناطق تحديدًا، وبالتالي بات تقبُّل أجندة اليمين المتطرف في الشارع الفرنسي جزءًا من حالة ضعف القيادة السياسية الراهنة وتدهور شعبيتها فضلًا عن رفضها التفاوض الجاد مع أطراف ذلك المشهد وتهميشهم.
وعلى الرغم من تميز فرنسا بنظامها شبه الرئاسي والذي يضمن استقرارها مقارنة بالنظام البرلماني في أغلب الدول الأوروبية التي تعاني من ظاهرة الحكومات الائتلافية، إلا أن غياب رؤية الرئيس الفرنسي وتغليبه اللجوء لأدواته الدستورية في تمرير القرارات المصيرية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي على بحث التوافق مع المكونات السياسية والنقابية، فرضت حالة من العزلة على فصيله السياسي الوسطي، وعززت حالة الاستقطاب السياسي لصالح أحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهو ما سينعكس في السنوات الثلاث المقبلة، التي قد تشهد حالة من عدم الاستقرار والاضطرابات السياسية.