أبرزت الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2022 صعود تيار أقصى اليمين (اليمين الشعبوي) وتوجهاته في الشارع الفرنسي، بعدما حققت مارين لوبان المرتبة الثانية في انتخابات 2017، كما حصلت في جولة الإعادة بانتخابات 2022 على أكثر من 41% من أصوات الناخبين، بالتوازي مع موجات الهجرة واللجوء من شرق وجنوب المتوسط إلى دول الاتحاد الأوروبي منذ اندلاع الأزمة السورية وصولًا لارتدادات الأزمة الليبية على تزايد موجات الهجرة والتي قادت في المقابل لتباين مواقف الدول الأوروبية بشأن اعتماد حصص محددة لكل دولة من المهاجرين.
ولعل حادثة طعن لاجئ سوري لأربعة أطفال لم تتعد أعمارهم 3 سنوات في مدينة آنسي مطلع يونيو 2023، كانت مثالًا على استغلال اليمين الشعبوي لقضية الهجرة واندماج أصحاب الثقافات الأخرى، خاصة العرب المسلمين، في الثقافة الفرنسية واعتبروا أن الحادث جاء بدافع إرهابي على غرار عمليات "الذئاب المنفردة" التي نفذها تنظيم "داعش" الإرهابي في فرنسا وعدد من الدول الأوروبية قبل أن يكشف المهاجم عن هويته كمسيحي سوري.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يسعى التحليل التالي لمعرفة أدوات اليمين الشعبوي للاستفادة من أزمات التعامل مع المهاجرين واللاجئين لتعزيز حظوظه الانتخابية.
الموقف من الاحتجاجات
اتخذ اليمين الشعبوي موقفًا مناهضًا للاحتجاجات في دوافعها وسلوكها، إذ عبر التيار عن إدانة الشاب القتيل فضلًا عن دعم الشرطي، وصولًا إلى استخدام المظاهرات وأحداث الشغب للترويج إلى رؤيته حول "فرض القانون" ببعض الأحياء التي يراها زعماء اليمين خارجة عن سلطة الدولة.
(*) انحياز للشرطة في وجه اليسار: بدت زعيمة اليمين الشعبوي مارين لوبان ورئيس حزب التجمع الوطني جودران بارديلا في موقف الدفاع عن الشرطة وأجهزة الدولة، حيث اعتبرت لوبان أن الحادث يشير لتراجع احترام الشرطة وعدم الالتزام بتعليمات أجهزة إنفاذ القانون. وضمنت تصريحاتها اتهامًا لزعيم اليسار الشعبوي ميلانشون بالمساءلة المنهجية لقوات الشرطة والدعوة للفوضى والعنف تجاه ضباط الشرطة وتدمير السيارات والمنشآت العامة.
(*) الهجوم على سلطة ماكرون: في أول رد فعل مباشر على حادثة مقتل نائل انتقدت مارين لوبان زعيمة الكتلة النيابية لحزب التجمع الوطني الشعبوي والقائد الفعلي للحزب في 28 يونيو 2023، تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون الذي اعتبر الحادثة "غير مبررة"، ودعت لوبان الرئيس الفرنسي لانتظار نتائج التحقيق وترك العدالة لتأخذ مجرها، واصفة تصريحاته بـ"غير المسؤولة".
كما شددت تصريحات لوبان وتغريداتها بتويتر على دعم سلطة الدولة في مواجهة أحداث العنف والشغب والتي لم تخلُ من نقد للرئيس ماكرون والسلطة الفرنسية التي "تتخلى عن كل المبادئ الدستورية بسبب الخوف من المشاغبين"، وطالبت ماكرون في 30 يونيو 2023 بدعوة قادة الأحزاب الممثلة في الجمعية الوطنية (من دون تأخير) إلى الإليزيه للتباحث بشأن الأزمة.
(*) تنظيم الهجرة: استغلت لوبان الشغب في الدعوة لتنظيم استفتاء حول الهجرة وطرد المهاجرين غير الشرعيين، خاصة في جزيرة مايوت (من أقاليم ما وراء البحار) القريبة من جزر القمر ودعت لاتخاذ تدابير انتقامية ضدها (جزر القمر) لإجبارها على استقبال وإعادة المهاجرين غير الشرعيين، منتقدة عملية "ووامبوشو" الأمنية لطرد المهاجرين من الجزيرة، كما انتقدت مشروع قانون الهجرة الذي أعده وزير الداخلية جيرالد دارمانان في ظل ما يمنحه المشروع من تسهيلات للمهاجرين غير الشرعيين تشمل إصدار تصاريح عمل لمدة عام.
(*) مهاجمة سكان الضواحي: عقّب رئيس حزب التجمع الوطني الشاب في 2 يوليو الجاري، على تصريحات رئيسة الوزراء إليزابيث بورن حول اتخاذ إجراءات لصالح سكان الضواحي، معتبرًا أن تلك الإجراءات المحتملة ستكون بمثابة مكافأة "لعنف وشغب اللصوص" من المال العام، على حد تعبيره، وطالب في المقابل باستعادة النظام فيها أولًا.
أجندة اليمين الشعبوي:
يستخدم اليمين الشعبوي في فرنسا عدد من الرمزيات السياسية والآليات التعبوية لجمهور الناخبين في عموم تيارات اليمين بعدما فشل في فرض أجندته بالشارع الفرنسي، وذلك دون التخلي عن جوهر خطابه المتشدد تجاه المهاجرين خاصة من العرب المسلمين، وهي على النحو التالي:
(&) توسيع "الجبهة الوطنية": عملت زعيمة اليمين المتطرف منذ وصولها لقيادة "الجبهة الوطنية" خلفًا لوالدها جان ماري لوبان، في 2011، على تهيئة المناخ لأن يقود الحزب الحياة السياسية في فرنسا وصولًا لتولي السلطة، فبعد فشلها في انتخابات مايو 2017، غيرت مارين لوبان اسم الحزب من "الجبهة الوطنية" إلى حزب "التجمع الوطني" في 2018، في محاولة لتوسيع قاعدة التأييد بالشارع والتحالف مع أحزاب يمينية أخرى، وتغيير الصورة النمطية للحزب من متطرف وعنصري إلى حزب يميني محافظ على قيم "الجمهورية الفرنسية"، منفتح على غيره من الأحزاب وأكثر ارتباطًا بوسائل الإعلام الجماهيري.
ورغم نجاح استراتيجية الحزب في تعزيز عدد مقاعده بالبرلمان إلى نحو 89 مقعدًا من إجمالي 577، إلا أن فشل لوبان في الانتخابات الرئاسية أجبرها على إبداء مرونة في تولي زعامة الكتلة البرلمانية والزعامة الفعلية للحزب، وترك رئاسة الحزب لشخصية شابة لتجديد دماء "التجمع الوطني" وتعزيز وصوله إلى فئات أوسع من جيل الناخبين الشباب، خاصة من سكان ضواحي العاصمة الفرنسية وعلى رأسها "سان دوني" التي ينحدر منها بارديلا، الزعيم الشاب الذي انتخبه الحزب بأغلبية ساحقة (85%) في نوفمبر 2022، بدعم من لوبان.
ويعد بارديلا أحد أقرب حلفاء لوبان في الحزب، ورغم انحداره من أصول غير فرنسية (إيطالية جزائرية)، إلا أنه يظل الداعم الرئيسي للوبان إذا ما قررت خوض الانتخابات المقبلة 2027.
كما أن نشأته في ضاحية عمالية فقيرة ينتشر فيها المهاجرون عززت من معاداته للهجرة، خاصة من الأفارقة وأصحاب البشرة السمراء والعرب المسلمين، إلا أن التحول "الصوري" في التعامل مع المهاجرين يكمن في تجنبهم أو إعطائهم صفة مواطنين درجة ثانية وإعطاء أولوية "للفرنسيين".
(&) أجندة سياسية وتشريعية: ساهمت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مواجهة ما أسماه "الانعزالية الإسلامية" ردًا على حوادث إرهابية يقف وراءها تنظيمات إرهابية وعناصر متشددة في تعزيز أجندة اليمين المتطرف مستفيدًا من توجه الحكومة الفرنسية لإعادة تنظيم العلاقة مع الجاليات العربية الإسلامية في فرنسا وفق قيم الجمهورية. وخلافًا لمساعي مواجهة التطرف، أعلنت لوبان عن مقترحات تشريعية لحظر ارتداء الحجاب في الفضاء العام باعتباره مخالف للحقوق والحريات والمبادئ المنصوص عليها في الدستور.
وخلال حملتها الانتخابية تبنت لوبان ومن خلفها جوردان بارديلا أجندة جديدة لطلبات الهجرة واللجوء، من خلال تعديل دستوري للتحكم في الهجرة عبر تقديم طلبات اللجوء من بلد المهاجر وعدم منح حق اللجوء للمهاجرين غير النظاميين وفرض ترحيلهم، وتقييد منح الجنسية لأبناء أحد الفرنسيين المولود في فرنسا وتقييد إجراءات لم شمل العائلات المهاجرة.
وفي ذات السياق، تبنى الصحفي والمرشح الرئاسي السابق إريك زيمور خلال انتخابات الجولة الأولى للرئاسة 2022 أجندة سياسية معادية للمهاجرين العرب والأفارقة، حيث ذكر في تصريحات سابقة أهمية ابتزاز الزعماء الأفارقة والاستيلاء على منازلهم وممتلكاتهم في بلاده إذا لم يوافقوا على استعادة المهاجرين.
(&) معضلة الاندماج: على الرغم من التعاطف الواضح مع الشاب القتيل نائل، إلا أن اليمين الشعبوي استغل الحادثة في الهجوم على الرئيس إيمانويل ماكرون الذي أبدى تعاطفًا مع القتيل.
وخلال تصريحاته عقب انتخابه رئيسًا جديدًا لحزب التجمع الوطني من خارج عائلة لوبان، يظهر جوردان بارديلا (27 عامًا) اهتمامًا خاصًا بإعادة تعريف أهداف حزبه تجاه الهجرة واللجوء من زاوية الاندماج في المجتمع الفرنسي ومواجهة "النزعة الراديكالية"، وهو يتماشى مع كونه من سكان الضواحي الذين عايشوا فئات من المهاجرين يحتفظون بحد أدنى من ثقافاته وعاداتهم الخاصة، والتي يرتبط بعضها بالزي وهيئة اللبس، ويستدل بارديلا على ذلك بكونه من أصول إيطالية مسيحية لكن عائلته اندمجت في المجتمع الفرنسي وواكبت مبادئ الجمهورية.
كما تتعلق سرديته حول الاندماج بالربط بين الدين والاندماج معتبرًا أن اندماج المسيحيين في فرنسا أكثر سلاسة من الانتماءات والعقائد الأخرى، ووصف بارديلا في فبراير الماضي مدينة تراب من ضواحي العاصمة الفرنسية بـ"الجمهورية الإسلامية".
وإجمالًا؛ يشير المشهد السياسي الفرنسي إلى بروز تكتلي اليمين واليسار الشعبويين على حساب تيارات اليمين ويمين الوسط، ومنها حزب النهضة الحاكم. وبين مد وجزر التوترات التي يثيرها أو يدعمها التكتل اليساري تجاه الحكومة الفرنسية في ملفات التقاعد وقضايا الهجرة واللجوء، إلا أنها تسهم على الجانب الآخر في تحريك المشهد السياسي باتجاه اليمين الشعبوي الذي نجح في مضاعفة حظوظه بالبرلمان ويسعى للتحول إلى قوة رئيسية وقيادة البلاد في انتخابات 2027، عبر اتباع نهج براجماتي يدعم توسيع قاعدته الشعبية وخدمة أجندته القومية المعادية للمهاجرين.