أعلنت موسكو إسقاط طائرتين مسيرتين فوق مقر الحكم في روسيا الاتحادية يوم الأربعاء 3 مايو 2023، في تطور خطير يلقي بظلاله على الأزمة الروسية الأوكرانية، والتفاعلات الروسية والغربية على الساحة الدولية بأكملها، إذ اتهم المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، السلطات الأوكرانية بقيادة الرئيس فولودومير زيلينسكي بالوقوف خلف الهجوم بإيعاز من الولايات المتحدة، رغم نفي كل من كييف وواشنطن وقوفهما خلف الهجوم.
وينذر هجوم الكرملين ومحاولة اغتيال الرئيس فلاديمير بوتين حسب رواية السلطات الروسية بتصعيد خطير في مسار الأزمة باستهداف الرموز والقيادات السياسية في ظل إصرار الطرفين على تحقيق أهدافه العسكرية وتضاؤل نافذة الوصول لتسوية سلمية عبر الوساطة الصينية. وليبقى السؤال؛ ما ارتدادات هجوم الكرملين على الصعيدين الأوكراني والدولي؟
روايتان متضاربتان
قدمت كل من روسيا وأوكرانيا تفسيرين مختلفين حول مسؤولية تنفيذ الهجوم على النحو التالي:
(*) الرواية الروسية: حملت الرواية الروسية اتهامًا مباشرًا لكييف بتنفيذ الهجوم، بعلم وتوجيه الولايات المتحدة، وتُرجع موسكو تنفيذ العملية إلى عملاء بالداخل من الجالية الأوكرانية. وتستند تلك الرواية إلى تكرار الهجمات التي استهدفت قادة العملية العسكرية على المستويين السياسي والعسكري ومنها محاولة اغتيال رئيس الأركان الروسي فاليري جراسيموف، فضلًا عن الهجمات بالداخل الروسي التي استهدفت مدونين عسكريين وكتاب سياسيين ومفكرين مؤيدين للعملية العسكرية الروسية وعلى رأسهم محاولة اغتيال المفكر أليكسندر دوجين بتفخيخ سيارته والتي أودت بحياة ابنته الصحفية داريا دوجينا.
(*) الرواية الأوكرانية: حرصت أوكرانيا منذ البداية على نفي صلتها بالهجوم، في الوقت الذي توجه فيه الرئيس فولوديمير زيلينسكي في جولة خارجية تخللتها زيارته لمقر محكمة العدل الدولية في لاهاي معربًا عن رغبته في رؤية محاكمة القيادة الروسية على "جرائم الحرب". وذكرت كييف وواشنطن فرضية أن يكون مدبرًا من قبل معارضي بوتين بالداخل وستعمل القيادة الروسية على الاستفادة منه في تنفيذ هجوم واسع.
مشهد ملتبس
حمل توقيت الهجوم على الكرملين دلالات رمزية مهمة فهي تتزامن مع إعداد روسيا لاحتفالات عيد النصر وما سيرافقها من تحركات في المسرح الأوكراني، وبروز الخلاف بين مجموعة فاجنر وقيادة وزارة الدفاع الروسية في أعقاب تهديد مؤسس المجموعة يفجيني بريجوجين بالانسحاب من باخموت بحلول 10 مايو 2023 بسبب نقص الذخائر وارتفاع التكلفة البشرية التي تكبدتها قواته في المدينة الاستراتيجية، تزامنًا مع ما كشفت عنه الولايات المتحدة من سقوط 20 ألف قتيل في صفوف القوات الروسية منذ ديسمبر الماضي وحتى أول مايو الجاري، نصفهم من قوات فاجنر.
وعلى الرغم من اجتماع مجلس الأمن الروسي يوم الجمعة 5 مايو 2023، إلا أن موقفًا بشأن الرد الروسي على الهجوم لم يصدر، بينما توعد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 5 مايو 2023، بإجراءات ملموسة.
(&) تطوير العملية العسكرية: ويندرج تحت ذلك التحول المرتقب مجموعة واسعة من الخيارات من بينها توسيع نطاق العمليات أو تنفيذ ضربات جراحية باستخدام أسلحة دمار شامل أو تعزيز الضربات الانتقامية ضد البنية التحتية الحيوية أو استهداف القيادات الأوكرانية.
على الرغم من ترجيح بعض المحللين إمكانية إعلان روسيا الحرب على أوكرانيا ردًا على استهداف الكرملين، إلا أن التحركات الميدانية تظهر موقفًا ملتبسًا على الجانب الروسي، منها رصد صور الأقمار الصناعية تحصينات روسية على طول خط الجبهة في شرق وجنوب أوكرانيا استعدادًا لصد هجوم أوكراني مضاد، والخلافات العلنية بين مجموعة فاجنر شبه العسكرية ووزارة الدفاع الروسية على خلفية اتهام مؤسس المجموعة بريجوجين لوزير الدفاع سيرجي شويجو ورئيس الأركان فاليري جراسيموف بتعمد إبطاء وتيرة تسليم الذخائر لإفشال جهود المجموعة في السيطرة على مدينة باخموت بعد 9 أشهر من القتال وسط خسائر بشرية كبيرة.
وبالنظر للمكانة الرمزية والتاريخية للكرملين باعتباره القلعة الحصينة ورمز السيادة منذ العهد السوفييتي فإن رد الفعل الروسي سيكون متناسبًا مع طبيعة الهجوم مثل محاولة استهداف القيادات السياسية والعسكرية الأوكرانية وعلى رأسهم الرئيس زيلينسكي ووزير الدفاع ورئيس المخابرات العسكرية المتهم الرئيسي بالإشراف على هجوم الكرملين، وهو ما ذهبت إليه وسائل الإعلام الروسية، حيث دعا أحد ضيوف الإعلامي فلاديمير سولوفيوف على قناة "روسيا-1" لقطع رأس الرئيس الأوكراني استنادًا إلى نصوص دينية مرتبطة بالتوراة ومتعلقة بالحرب بين النبي داوود وجالوت، في ظل ما تواجهه روسيا من "حرب" يقودها 50 دولة داعمة لكييف، كما شبه سولوفيوف الهجوم على الكرملين بهجمات تنظيم القاعدة الإرهابي على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001.
وعلى صعيد تطوير الهجمات ضد المنشآت الحيوية بدأت روسيا بالفعل في تكثيف الهجمات بالصواريخ الفرط صوتية والطائرات المسيرة على العاصمة الأوكرانية ومحيطها، إلا أن امتلاك أوكرانيا منظومات دفاعية غربية أسهم في الحد من قدرات روسيا الاستراتيجية، حيث تصدت منظومة صواريخ باتريوت لصاروخ كينجال الفرط صوتي.
(&) الهجوم الأوكراني المضاد: تكتسب الرواية الروسية حول هجوم الكرملين زخمًا في ضوء إعداد كييف لإطلاق هجومها المضاد بهدف استعادة السيطرة على كامل الأقاليم الأربعة التي ضمتها روسيا، خاصة وأن موسكو لم تسارع بالإعلان عن الهجوم فور وقوعه في ساعة مبكرة من فجر الأربعاء 3 مايو 2023.
ويترافق الهجوم مع اتساع نطاق الهجمات الأوكرانية على الإمدادات النفطية واللوجستية على الحدود الروسية الأوكرانية بهدف شل القدرات العسكرية الروسية لشن هجوم مستقبلي واسع النطاق وتشتيت جهودها في الدفاع عن الأراضي التي تسيطر عليها، ومن تلك الهجمات استهداف خزان للوقود في مدينة سيفاستوبول بشبه جزيرة القرم في 29 أبريل و1 مايو الجاري قبيل الهجوم. واستهدفت طائرة مسيرة يوم الخميس 4 مايو 2023، مصفاة إلسكي النفطية في إقليم كراسنودار جنوب روسيا، كما أفاد حاكم منطقة بلجورود الحدودية مع أوكرانيا بتضرر خط كهرباء وغاز بقرية سبوداريوشينو يغذي المدينة جراء قصف أوكراني مساء السبت 6 مايو، تزامنًا مع هجوم بأكثر من 10 مسيرات باتجاه سيفاستوبول قال حاكم المدينة إن قواته نجحت في التصدي له دون تضرر أي من مرافق البنية التحتية فيها.
وعلى الرغم من المخاوف بتصعيد الصراع، إلا أن الهجوم على الكرملين يحمل دلالة رمزية مهمة تعطي إشارة للحلفاء الغربيين أن كييف قادرة على الصمود في وجه روسيا الاتحادية مع ثبات معادلة عدم الانجرار لأزمة نووية، ومن ثم قادرة على تنفيذ الهجوم المضاد وتحقيق أهدافه في حالة الوفاء بالتزامات حلفائها بتقديم الدعم العسكري المطلوب وفي المقدمة منه تزويدها بمقاتلات إف-16.
(&) تداعي التفاهمات الغربية الروسية: يحمل الهجوم في طياته تحذيرًا بتصعيد الصراع إلى ما هو أبعد من الجغرافيا الأوكرانية، ما يهدد بانهيار التفاهمات بين روسيا والولايات المتحدة، فيما يسود التوتر مجمل العلاقات الثنائية والقضايا الدولية.
ومن المحتمل أن ينعكس التوتر بين أمريكا والغرب عمومًا وروسيا في ثلاثة مسارات أولها؛ اشتعال المواجهات الباردة في مناطق تقاسم النفوذ مثل المواجهات الجوية فوق البحر الأسود، وثانيها؛ تعزيز القدرات الهجومية لكلا الجانبين في بحر البلطيق والقطب الشمالي خاصة في ظل انهيار التنسيق إثر طرد روسيا من عضوية مجلس القطب الشمالي تزامنًا مع رئاستها الدورية. وثالث تلك المسارات هو عمليات التخريب للبنية التحتية الحيوية لكلا الطرفين مثل خطوط الطاقة والكابلات البحرية.
وعلى صعيد العلاقات الروسية الأمريكية فإنها تواجه أسوأ أزماتها على الإطلاق في ظل الاتصالات المحدودة بين البلدين والتي قادت لمواجهات خطيرة فوق البحر الأسود وتعليق روسيا للعمل باتفاقية نيو ستارت للحد من الأسلحة الهجومية، في ظل اتجاه كلا الجانبين لفك الارتباط الكامل في المصالح الاقتصادية والتجارية والمصرفية وتقليص الاتصالات الدبلوماسية والاستخباراتية، خاصة في ظل اتهام موسكو لواشنطن بالانخراط في هجوم الكرملين ومن ثم التخطيط لاغتيال الرئيس بوتين.
وختامًا؛ يمثل الهجوم على الكرملين سابقة خطيرة في مسار الأزمة الروسية الأوكرانية تحمل امتداداتها في مجمل السياسة الخارجية والدفاعية الروسية في الفترة المقبلة والتي تلوح بالخيار النووي كملاذ أخير لبلورة حل نهائي للأزمة ووضع حد لدعم كييف، فيما يتحول الخيار النووي من عتبة للتصعيد إلى خط أحمر هلامي تتضاءل أهميته كوسيلة للردع مع تجاوز كافة الأطراف له. إن أخطر ما يوجه المشهد الأوكراني خفوت دعوات التهدئة أمام استحقاقات الداخل والمتمثلة في تنامي نفوذ التوجهات القومية المتطرفة وبزوغ محتمل لحرب اغتيالات تهدد بنسف الجهود الدولية للوساطة بين روسيا وأوكرانيا من جهة والجهد الدولي الداعم لبناء تفاهمات روسية أمريكية حول إعادة الالتزامات باتفاقية نيو ستارت وضبط الصراع في أوكرانيا.