تركت الحرب الروسية الأوكرانية إرثًا ثقيلًا للمجتمع الدولي وشعوب العالم أجمع، في مواجهة أزمات نقص الغذاء واضطراب سلاسل إمداد الطاقة والتداعيات الاقتصادية الناجمة عنها، إلا أن آثارها على القارة الأوروبية لم تكن أقل وقعًا نتيجة الشعور المتزايد بانعدام الأمن للدول المنخرطة في الأزمة أو الداعمة لأحد طرفيها، وعادت أوروبا إلى واجهة الصراع الجيوسياسي الدولي ليخفت زمن الرفاهية والوفرة، الذي ساد قرابة 74 عامًا عقب حربين عالميتين طاحنتين خلّفت ملايين القتلى على امتداد الميدان الأوروبي، وتبرز معالم ذلك التأثير فيما تعانيه القارة من أزمات اقتصادية يتزامن معها رفع ميزانيات الدفاع.
فاتورة الإنفاق الدفاعي:
تجاوز حجم مبيعات الأسلحة عالميًا في 2022 مستوى الـ2,1 تريليون دولار كنتيجة حتمية للحرب الروسية الأوكرانية، التي أسهمت في زيادة ميزانيات التسليح للقوى المنخرطة فيها على النحو التالي:
(*) ميزانية الدفاع الروسية: رفعت روسيا ميزانية الدفاع لعام 2023 مرة ونصف المرة عن ميزانية العام الماضي. وحسب موقع "جلوبال فاير باور" بلغ إجمالي الإنفاق الدفاعي الروسي 82 مليار دولار، مع تعهد بتوسيع ترسانة روسيا من الأسلحة المتطورة والصواريخ الفرط صوتية وتحديث الثالوث النووي. لكن تقييم الخبير الاقتصادي الروسي بوريس جرزوفيسكي في مركز ويلسون بأن إجمالي الإنفاق العسكري الروسي (المباشر وغير المباشر) خلال الحرب الروسية الأوكرانية يتجاوز 9 تريليونات روبل (119 مليار دولار تقريبًا)، حسب مجلة نيوز وييك، بما يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ 2,14 تريليون دولار وفق بيانات صندوق النقد الدولي. وتتركز أهم بنود الإنفاق الدفاعي في دعم الجيش الروسي في التزود بالذخائر والقذائف المدفعية تحت إشراف اللجنة العسكرية الصناعية التي برزت أهميتها أخيرًا في ضوء تعيين الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف في منصب النائب الأول لرئيس اللجنة نهاية العام الماضي، وتواجه تحديًا رئيسيًا في تعزيز قدرة الصناعات الدفاعية في التكيف مع العقوبات تقنيًا وماليًا، نتيجة اعتماد الجيش على الرقائق والمكونات التكنولوجية المدنية الأقل تطورًا، حسب وسائل الإعلام الغربية. ذكرت وكالة "تاس" للأنباء أن روسيا قد تسجل عجزًا في موازنتها للعام 2023، بمعدل 3 إلى 3,3% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، بقيمة تتراوح بين 60,7، و67,4 مليار دولار (4,5، و5 تريليونات روبل).
(*) القوى الغربية: بحسب وكالة الدفاع الأوروبية، ارتفع إجمالي الإنفاق الدفاعي الأوروبي إلى 214 مليار يورو خلال العام الماضي، بمعدل 1,5% من إجمالي الناتج المحلي الوطني في 26 دولة. وفقًا لإحصائيات حلف الناتو (بيان صحفي 27 يونيو 2022) لم تحقق سوى 8 دول أوروبية (بخلاف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة) من دول الحلف معدل 2% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، منها 7 دول شهدت تحولًا ملحوظًا في مستويات التسليح بين عامي 2014 إلى 2022، بينما حافظت المملكة المتحدة على نفس مستوى الإنفاق الدفاعي، فيما رفعت اليونان مستوى إنفاقها من 2,2% في 2014، إلى مستوى 3,76% خلال العام الماضي. بينما حققت 21 دولة (إلى جانب الولايات المتحدة وتركيا وبريطانيا) ما يزيد على معيار الناتو في الإنفاق على التسليح بمعدل 20% من إجمالي الإنفاق الدفاعي.
(*) أوكرانيا: حصلت أوكرانيا على إجمالي دعم عسكري يقترب من مستوى 50 مليار دولار، منها الولايات المتحدة التي تجاوز إجمالي دعمها العسكري لأوكرانيا 29,8 مليار دولار في الفترة من 24 فبراير 2022، وحتى 20 فبراير 2023، من إجمالي 30,4 مليار تعهدت بها، حسب بيان لوزارة الدفاع الأمريكية، في إطار إعلان واشنطن تقديم الحزمة الـ32 من المساعدات الأمنية لأوكرانيا بقيمة 460 مليون دولار. شملت حسب البيان تقديم أكثر من 1600 منظومة صواريخ ستينجر للدفاع الجوي المحمولة على الكتف، و8500 من منظومة جافلين المضادة للدروع، و54 ألف منظومة وذخائر أخرى مضادة للدروع، وأكثر من 700 مسيرة تكتيكية من طراز سويتش بليد، و160 مدفع هاوتزر عيار 155 مم، وأكثر من 100 مركبة مدرعة برادلي (109 قتال، و4 فرق دعم نيراني)، و76 دبابة (31 دبابة أبرامز إم1 إيه1، و45 دبابة تي 72)، وعشرات المنظومات الرادارية متعددة المهام وأنظمة تأمين الاتصالات التكتيكية ومنظومتي صواريخ هاربون للدفاع الساحلي والذخائر والصواريخ الموجهة ومنظومات التصدي لهجمات الطائرات المسيرة.
وبحسب تقرير مصور لصحيفة "ذا هيل" الأمريكية فإن إجمالي الدعم الأمريكي المقدم لأوكرانيا بلغ نحو 77,5 مليار دولار، وهو ما يزيد على نصف حجم الإنفاق الأمريكي في أفغانستان الذي بلغ خلال عشرين عامًا نحو 110 مليارات دولار، ونحو ثلث الإنفاق على غزو العراق التي بلغت 237,5 مليار دولار حسب بيانات برنامج تكاليف الحروب بمعهد كيل للاقتصاد العالمي في ألمانيا.
مبيعات قياسية:
تأثرت خارطة توزيع مبيعات التسليح خلال العام الماضي بالحرب الروسية الأوكرانية، حسب بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي في تقرير التسليح عن عام 2021، والمحدث بتاريخ 5 ديسمبر 2022، إذ بلغ إجمالي مبيعات الأسلحة مستوى 592 مليار دولار، بنسبة زيادة 7,6% عن العام السابق الذي بلغ مستوى 550 مليار دولار.
وعلى صعيد التوزيع الجغرافي لترتيب أكبر 100 شركة صناعات دفاعية ومبيعات الأسلحة العالمية، جاءت الولايات المتحدة في المقام الأول بعدد 40 شركة حققت مبيعات بقيمة 299 مليار دولار، مسجلة تراجعًا بنسبة 0,9% عن العام الماضي.
يليها أوروبا بعدد 27 شركة بقيمة 122 مليار دولار، تصدرتها صناعة السفن الحربية على حساب الصناعات الدفاعية الجوية، مدفوعة بنمو مبيعات كل من إيطاليا وفرنسا بنسبة 15% لكل منهما، وألمانيا بنسبة 5,6%، وحققت أوروبا معدل نمو إجمالي بلغ 4,2%. وجاءت آسيا ثالثًا بعدد 21 شركة بقيمة مبيعات إجمالية 136 مليار دولار، حافظت فيها الصين على الصدارة بعدد 8 شركات وقيمة مبيعات بنحو 109 مليار دولار، وبزيادة بلغت 6,3% سنويًا، يليها روسيا بعدد 6 شركات وبمبيعات بلغت 17,8 مليار دولار، بنسبة زيادة طفيفة 0,4%، فيما حققت 4 شركات من كوريا الجنوبية مبيعات 7,2 مليار دولار بنسبة زيادة بلغت 3,6%، مدفوعة بعقود تسليح بولندا التي شملت دبابات كيه 2 ومدافع كيه 9 وطائرات إف إيه 50.
انعكاسات جوهرية:
رغم أهمية العنصر البشري في خوض المعارك، إلا أن فاتورة الخسائر البشرية الباهظة للحروب الاستنزافية طويلة الأمد وصعوبة تعويض أي خلل حرج في القوة البشرية بوقت قصير، وعلى ذات الدرجة من التأهيل العسكري خاصة في حروب المدن ومعارك الكر والفر، فضلًا عن التكاليف اللوجستية والغذائية للجنود، تبرز الأنظمة العسكرية غير مأهولة جوية كانت أو برية أو بحرية تحقق مجموعة مهام من الاستطلاع إلى أعمال القصف والتفخيخ، والارتكان إلى الوسائل التكنولوجية في توجيهها والوصول إلى المعلومات ومراقبة نقاط تجمع قوات العدو ومخازن الذخائر.
(*) صناعة الأسلحة: تتكيف صناعة الأسلحة مع التطورات الجارية على الساحة الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، وهو ما تجلى في وجود حركة اندماج واستحواذ بعض الكيانات الكبرى على شركات أخرى تأثرت مبيعاتها من تداعيات جائحة كورونا التي كانت أحد المقدمات لأزمة سلاسل الإمداد التي تفاقمت مع الحرب الروسية الأوكرانية. كما برزت الحاجة إلى الأسلحة الفتاكة الموجهة عن بُعد لدمج الأنظمة المسيّرة (غير المأهولة) والمعتمدة على الذكاء الاصطناعي في عمليات تأمين المسرح البحري على امتداد منطقة الشرق الأوسط، التي برزت في المنطقة مع تدشين القيادة المركزية الأمريكية القوة 39 البرية، وقوة المهام 59 البحرية، والقوة 99 الجوية.
(*) التكتيكات العسكرية: أكدت الحرب الروسية الأوكرانية صعوبات خوض المعارك المباشرة على مساحات واسعة، خاصة إذا ساد الغموض حول الأهداف الكبرى للحرب، ففي ظل تدخل روسيا في شرق أوكرانيا دعمًا للانفصاليين في لوجانسك ودونيتسك بإقليم دونباس، إلا أن الجيش الروسي بقوة قوامها 150 ألف جندي وسّع نطاق عملياته لمهاجمة محور العاصمة الأوكرانية انطلاقًا من الحدود البيلاروسية، مما اعتبر مؤشرًا حينها على رغبة موسكو في إسقاط نظام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قبل أن تنسحب القوات الروسية باتجاه الشرق بالتركيز على تأمين غطاء حيوي يؤمّن مكتسباتها العسكرية باتجاه شرق وجنوب أوكرانيا لتأمين حصول شبه جزيرة القرم على حصتها من المياه، وتعزيز ارتباطها بالعمق الروسي، بجانب قطع صلة أوكرانيا بالبحر. إلا أن الجيش الروسي اعتمد أخيرًا في تأمين نجاحاته على الأرض بتنفيذ هجمات بعيدة بالاعتماد على الطائرات المسيّرة والصواريخ والقصف المدفعي لأهداف يغلب عليها الصفة المدنية كالبنية التحتية للطاقة والمنشآت الحيوية في ظل تريث الطرفين في إطلاق هجوم روسي أو أوكراني مضاد قد يكون حاسمًا في مسار الحرب.
وتأسيسًا على ما سبق؛ ظهرت الحرب الروسية الأوكرانية كأبرز مثال على الحروب الهجينة، إذ شهدت تكثيفًا لاستغلال الموارد الطبيعية والأصول المدنية امتدت إلى الجبهات الداخلية للقوى المنخرطة في الصراع، وهو ما ألقى بظلاله على سير المعارك التي اتسمت بتطورها البطيء لتحقيق النصر. كما تضخمت موازنات الدفاع لدول الصراع وهو ما أدى إلى انخفاض مستويات الشعور بالأمان في المناطق الأعلى في مستوى مشتريات الأسلحة المتقدمة. ومثلت الحرب كذلك فرصة للدول الأخرى لمراجعة تكتيكاتها العسكرية ومواءمة قدراتها العسكرية مع إمكاناتها الاقتصادية في مواجهة التهديدات العسكرية المحتملة لتعويض عدم التكافؤ في القوى النيرانية، كما عززت من أهمية البحث والتطوير لأنظمة التسليح غير المأهولة لتقليص فاتورة الخسائر البشرية المتوقعة.