الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

تأثير توجهات ترامب على مستقبل قيم النظام الدولي

  • مشاركة :
post-title
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

جاءت توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ بدء ولايته الثانية في العشرين من يناير 2025، منها الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، واتفاق باريس للمناخ، وسحب الدعم الأمريكي لوكالة الأونروا، والاتجاه نحو زيادة الرسوم الجمركية على صادرات دول بعينها، ومعاقبة موظفين وقضاة بالمحكمة الجنائية الدولية، والتهديد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واقتراحه بتهجير الفلسطينيين من غزة، لتثير العديد من التساؤلات حول تأثير تلك التوجهات على مستقبل تفاعلات النظام الدولي وقيمه، وما إذا كانت تلك التوجهات ستسهم في تقويض فرص الاستقرار الدولي، وتدفع نحو المزيد من الانقسام والتشرذم، في ظل اتجاهه نحو تقويض فرص السلام العالمي، وتجاهل أدوار المؤسسات الدولية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

جدل مستمر

تُشكل توجهات ترامب منذ توليه مقاليد السلطة في الولايات المتحدة لولاية رئاسية ثانية اتجاهًا نحو تقويض أسس وقيم النظام الدولي، الذي تشكل منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، ديسمبر 1991، ودفع بالولايات المتحدة لتكون القطب المهيمن على تفاعلات ذلك النظام حتى بروز الأزمة الاقتصادية العالمية، التي اندلعت عام 2008، ليثور الحديث عن تعددية قطبية من الناحية الاقتصادية للصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والهند. وأحادية قطبية من الناحية السياسية للولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العسكرية الأكبر في العالم والأعلى من حيث الناتج المحلي الإجمالي.

وتثير تلك التوجهات تساؤلًا حول تأثير ممارسات ترامب على مستقبل الهيمنة الأمريكية، وما إذا كانت تلك الممارسات ستسرع من وتيرة التحول إلى نظام متعدد الأقطاب أم أنها ستحافظ على تلك الهيمنة، وإن ظلت من الناحية السياسية والعسكرية، وإجمالًا فقد تعددت الأطروحات النظرية وتزايد الجدل بشأن أيهما أنسب لتحقيق الاستقرار العالمي المنشود بين نموذجين رئيسيين هما:

(*) النموذج أحادي القطبية: يقوم نظام الأحادية القطبية الذي مارسته الولايات المتحدة منذ إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، عام 1991، عن ميلاد نظام عالمي جديد أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. وترتكز المنظومة القيمية على الحرية كقيمة مركزية لتلك الأحادية، وهي الحرية في شقيها السياسي والاقتصادي، وهو ما سيكفل وفق مُنظّري هذا الاتجاه استدامة السلام وضمان الأمن والاستقرار العالميين لمدد أطول، اقتناعًا بأن ذلك القطب سيتحرك بيسر وسهولة، ليفرض قيمه ويرسي دعائم نظمه الأمنية والسياسية والاقتصادية.

وجسد ذلك المعنى ما طرحه فرانسيس فوكوياما في أطروحته، عام 1992، حول نهاية التاريخ وانتصار الحضارة الغربية، التي يقصد بها أن الديمقراطية الليبرالية وقيمها عن الحرية والفردية والمساواة والعولمة والليبرالية الاقتصادية تشكل ذروة التطور الأيديولوجي للمجتمعات، وأن انتصار الحضارة الغربية بقيمها السياسية والاقتصادية والثقافية، هو الأمر الذي يجب أن يدركه الجميع، غير أن مراجعة الممارسات الأمريكية تعكس إخفاقًا في ترجمة تلك القيم على أرض الواقع سواء ما يتعلق منها بالداخل الأمريكي، وما يعانيه من انقسامات حادة بين مكونات المجتمع الأمريكي ذاته، وصعود للتيارات اليمينية التي تطالب بترحيل اللاجئين والمهاجرين أو على مستوى توجهات ترامب الخارجية، التي كانت لها تأثيراتها المباشرة على الحلفاء والخصوم معًا.

(*) النموذج متعدد الأقطاب: في مقابل النظام الأحادي القطبية يطرح المنظرون النظام متعدد الأقطاب ويعتبرونه الأكثر تعبيرًا عن عدالة النظام الدولي، إذ يتم توزيع القوة الكونية بين عدة أطراف لديها مقومات القطب من الناحية الاقتصادية والثقافية والعسكرية. ووفقًا لمنظري هذا النموذج فإنه يحقق نوعًا من التوازن الدولي، ويحول دون احتكار الهيمنة والنفوذ بواسطة دولة منفردة بمستقبل العالم. وربما يشكل اتفاق قادة الصين وروسيا والهند على ضرورة التحول نحو نظام متعدد الأقطاب. وهو ما أكده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، 19 سبتمبر 2024، أن دول تجمع بريكس عازمة على إنشاء نظام عالمي ديمقراطي ومتعدد الأقطاب.

تأثيرات محتملة

إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يرفع شعار "أمريكا أولًا" ليسعى من خلاله إلى استعادة هيمنة الولايات المتحدة على تفاعلات النظام الدولي، إلا أن توجهاته تعكس تقويضًا لركائز وقيم النظام الدولي، وهو ما يمكن إبرازه على النحو التالي:

(&) انتهاك مبدأ السيادة الوطنية: تُشكل السيادة الوطنية أحد مرتكزات الدولة الوطنية ومظهر من مظاهر استقلالها الوطني، وبالتالي فإن استقرار النظام الدولي يرتبط في أحد جوانبه بالحفاظ على سيادة الدول ومنع انتهاكها والتصدي لمحاولات النيل من تلك السيادة، هذا الواقع ربما يتنافى مع توجهات ترامب منذ مجيئه إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية والأمثلة على ذلك متعددة نذكر منها: استخدام خريطة تظهر فيها كندا كجزء من الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الولاية رقم 51، ومطالبته بإعادة السيطرة على إدارة قناة بنما، وكذلك مطالبته بشراء جزيرة جرينلاند من الدنمارك.

(&) تقويض ركائز العولمة: تُشكل العولمة أحد تجليات الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، من خلال نشر أنماط الثقافة الأمريكية، إلا أن اتجاه ترامب نحو اتخاذ الإجراءات الحمائية يمثل تقويضًا لركائز العولمة التي تقوم على حرية انتقال الأفراد والبضائع بين الدول دون قيود، إذ اتخذ قرارًا بفرض رسوم جمركية على الوارادات من المكسيك وكندا مع تجميد التنفيذ لمدة شهر، كما هدد بفرض رسوم جمركية على دول الاتحاد الأوروبي إذا لم تقم بزيادة مشترياتها من الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك قراره بفرض رسوم جمركية على الواردات الصينية بنسبة 10%، بما جعل الصين تعلن في 6 فبراير 2025، أنها ستتقدم بشكوى ضد الولايات المتحدة الأمريكية أمام منظمة التجارة العالمية، كما أعلنت فرض رسوم جمركية، بنسبة 15% على وارداتها من الفحم والغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة دخلت حيز التنفيذ أمس الاثنين.

(&) تغييب قواعد القانون الدولي: يمثل احترام قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني أحد مقومات وكفاءة النظام الدولي وفاعليته، إلا أن اقتراح ترامب الذي لاقى رفضًا عربيًا ودوليًا بتهجير الفلسطينيين من غزة يمثل انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي، الذي يحظر أي نقل قسري أو ترحيل للسكان من الأراضي المحتلة، كما يشكل إصدار ترامب قرارًا تنفيذيًا يفتح الباب أمام فرض عقوبات على قضاة وكبار موظفي المحكمة الجنائية الدولية تقويضًا لفرص العدالة الدولية، وهو الإجراء الذي اتخذه ترامب منتقدًا إصدارها أوامر اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، الأمر الذي دفع 79 دولة وهي الدول التي تشكل ثلثي أعضاء المحكمة بإعلان في بيان مشترك، دعمها للمحكمة الجنائية الدولية، وحذّرت من سياسة الإفلات من العقاب، وإضعاف سيادة القانون الدولي، واستقلالية المحكمة.

(&) الاستقطاب الدولي: تُشكل توجهات ترامب إزاء الخصوم والحلفاء تغذية للاستقطاب الدولي، فتهديده بالانسحاب من حلف الناتو، ومطالبة الدول الأعضاء في الحلف بزيادة نسبة إنفاقها العسكري إلى 2% من ناتجها الإجمالي، والانسحاب من اتفاقية باريس للتغيرات المناخية وما سيمثله ذلك من تحديات بيئية عالمية تواجه كل الدول وتحتاج للتعاون الدولي، وكذلك الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأنروا" باعتبارها أكبر مانح لها، وكذلك صدامه المبكر مع الصين من خلال فرضه رسومًا جمركية على الواردات الصينية، وموقفه من اللاجئين والمهاجرين داخل الولايات المتحدة الأمريكية.

مجمل القول: تؤثر توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على قيم النظام الدولي، وتفاعلاته بما سينعكس بشكل مباشر على الاستقرار الدولي، ويسهم في تغذية الاستقطاب الدولي، وبما قد يؤدي إلى إعادة النظر في طبيعة التحالفات الدولية وإعادة تشكيلها، وهو ما يعني ضرورة التوجه نحو إرساء نظام دولي ترتكز قيمه على احترم حق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام سيادة دوله، وحماية السلم والأمن الدوليين، وإرساء عولمة عادلة ومستدامة، واحترام قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.