أدلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال مؤتمره الصحفي الأول مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بتصريحات مثيرة للجدل حول إعادة إعمار قطاع غزة. فقد اقترح ترامب أن تتولى الولايات المتحدة السيطرة على غزة، مع تشجيع سكانها على التهجير إلى دول تستقبلهم، بحجة الدمار الواسع الذي يجعل المنطقة غير صالحة للسكن. ووصف ترامب غزة بأنها "موقع هدم"، وأن إعادة إعمارها قد يستغرق ما بين 10 إلى 15 عامًا، مع تصور مزعوم بتحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" بعد إعادة الإعمار تحت إشراف أمريكي وتحويلها إلى ملكية أمريكية طويل الأمد.
وتعكس تصريحات ترامب على هذا النحو، رؤية أمريكية تتجاهل الثوابت السياسية والتاريخية للقضية الفلسطينية، وبدلاً من أن تسهم في حل النزاع، قد تؤدي إلى تفاقم التوترات وتعقيد الأوضاع على المستويين الفلسطيني – الإسرائيلي، والإقليمي. فتصريحات ترامب، تعكس مقاربة غير تقليدية لحل معضلة غزة لصالح إسرائيل على الطريقة الأمريكية، وتثير العديد من التساؤلات حول أهم دلالاتها وتأثيرها على مستقبل كل من القضية الفلسطينية، واستقرار الشرق الأوسط خاصة دول الجوار الفلسطيني
دلالات خطيرة:
تحمل تصريحات ترامب أمس بشأن كيفية إعادة إعمار غزة، دلالات عديدة خطيرة على القضية الفلسطينية. ويأتي في مقدمة هذه الدلالات ما يلي:
(*) الموافقة الأمريكية الصريحة على إعادة التوطين القسري: يُنظر إلى اقتراح ترامب بنقل سكان غزة إلى دول أخرى على أنه شكل من أشكال التهجير القسري، مما يعيد إلى الأذهان ذكرى "النكبة" عام 1948، وقد يثير رفضًا واسعًا من الفلسطينيين والعرب والمجتمع الدولي.
(*) التجاهل الأمريكي للحقوق الفلسطينية: تُعتبر هذه التصريحات تجاهلاً تعسفيًا لحق الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير، وقد تؤدي إلى تعقيد الجهود المبذولة لتحقيق حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية.
(*) الامتناع الأمريكي عن القيام بدور الوسيط في عملية السلام: قد تؤدي هذه المقترحات إلى زيادة التوتر وتعطيل مساعي السلام، خاصة إذا تم تنفيذها دون توافق دولي أو موافقة فلسطينية. فمن شأن مثل هذه التصريحات أن تزيد من توتر الأوضاع وتُبعد فرص التوصل إلى اتفاق سلام حقيقي، حيث تُظهر انحيازًا أمريكيًا واضحًا للموقف الإسرائيلي وتُقلل من فرص دوره في الوساطة المحايدة.
تأثيرات سلبية محتملة:
تحمل تصريحات ترامب محل اهتمام هذا التحليل، العديد من التأثيرات السلبية المحتملة على الدول المجاورة لفلسطين:
(*) المزيد من الضغوط الأمريكية على الدول المستهدفة من قبل ترامب بشأن استقبال اللاجئين الفلسطينيين: تتضمن هذه التصريحات المزيد من ممارسة الضغوط الأمريكية على بعض الدول لقبول أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما سبق أن رفضته كل من مصر والأردن بسبب المخاوف من تصفية القضية الفلسطينية، فضلا عن التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجه الدولتين.
(*) زعزعة الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط بشكل متزايد: قد تؤدي مثل هذه التصريحات إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، حيث يمكن أن تثير توترات سياسية واجتماعية في الدول المستقبلة للاجئين الفلسطينيين كما يطالب ترامب عبر تلك التصريحات.
(*) التأثير على العلاقات الإقليمية بين دول الشرق الأوسط: قد تؤثر هذه التصريحات على مساعي التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، مثل السعودية التي قد ترى في الخطط التي تتضمنها تصريحات ترامب، تهديدًا للاستقرار الإقليمي، وتجاوزًا للمبادرة العربية للسلام.
الجدير بالذكر هنا، وصف صحيفة "واشنطن بوست"، لخطط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسيطرة على قطاع غزة وإعادة إعماره تحت قيادة واشنطن، بأنها ستكون مكلفة ومحفوفة بالمخاطر، وستثير تداعيات سياسية خطيرة قد تصل إلى حد الدمار. كذلك قُوبلت هذه التصريحات بانتقادات واسعة من قبل قادة دوليين ومنظمات حقوقية عالمية، الذين وصفوها بأنها خطط للتطهير العرقي لأهل غزة وانتهاك للقانون الدولي.
أهداف إسرائيلية
تلبى تصريحات ترامب التطلعات الإسرائيلية لتحقيق عدة أهداف مباشرة؛ تتمثل فيما يلي:
(*) تعزيز الأمن الإسرائيلي: تقضى دعوة ترامب لتهجير سكان غزة قسرًا بدعوى أنها لم تعد صالحة للعيش فيها، فعليًا على التهديد الأمني الذي تشكله فصائل المقاومة الفلسطينية؛ خاصة حماس، على إسرائيل. فتهجير السكان من قطاع عزة، سيخلق منطقة عازلة خالية من أي تهديد مباشر لأمن إسرائيل.
(*) إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لإقليم الشرق الأوسط: يتطلب تطبيق حديث نتنياهو حول الشرق الأوسط الجديد وتغيير خريطة هذا الإقليم، تحويل غزة إلى منطقة غير مأهولة أو إعادة إعمارها تحت إشراف أمريكي كملكية أمريكية وفقًا لتصريح ترامب. وهو الأمر الذي من شأن استحالة قيام دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة كوحدة جغرافية متصلة. وبالتالي تمكن إسرائيل من التخلص من واحدة من أكبر العقبات في طريق تطبيع علاقاتها مع الدول العربية، وهو إقامة هذه الدولة دون الحاجة للتنازل عن أي من مواقفها تجاه الفلسطينيين.
(*) تخلص إسرائيل من عبء قطاع غزة أمنيًا وسياسيًا: يشكل قطاع غزة عبئًا أمنيًا وسياسيًا، لإسرائيل وقد تُمهد تصريحات ترامب لحل نهائي لمشكلة غزة من وجهة نظر إسرائيلية. وبالتالي تخفيف الضغوط والانتقادات الدولية لإسرائيل فيما يخص الحصار والاعتداءات العسكرية المتكررة وغير المجدية والتي تلقي بعدم يقين في إنهائها بوقف إطلاق نار مستدام.
مصالح أمريكية متنوعة
يسعى ترامب من تصريحاته أمس بشأن غزة وإعادة إعمارها، إلى تحقيق أهداف ومصالح أمريكية أوسع؛ تتمثل فيما يلي:
(*) تعزيز النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط: يعكس اقتراح ترامب أن تتولى الولايات المتحدة السيطرة على غزة، رغبته في زيادة النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية. وهو الأمر الذي من شأنه أن يوفر لواشنطن ورقة ضغط إضافية في مواجهة خصومها في المنطقة، وفي مقدمتهم كل من إيران وروسيا.
(*) فتح المجال أمام الشركات الأمريكية للاستثمار في فرص اقتصادية جديدة: تحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" – كما صرح ترامب- يفتح الباب أمام استثمارات أمريكية ضخمة في البنية التحتية والعقارات، مما قد يدر أرباحًا هائلة لشركات أمريكية قريبة من دائرة ترامب الاقتصادية.
(*) تحقيق مصالح ترامب الانتخابية عبر حشد دعم اللوبي الإسرائيلي لصالح الحزب الجمهوري: فقد تكون تصريحات ترامب حول إعادة إعمار عزة، جزءًا من استراتيجيته الانتخابية التي تستهدف كسب دعم جماعات الضغط الإسرائيلية المؤثرة داخل الولايات المتحدة، مثل اللوبي الإسرائيلي (AIPAC)، خاصة مع اقتراب الانتخابات المقررة ففي نوفمبر 2025، حيث سيتم إجراء الانتخابات المحلية في بعض الولايات والمقاطعات. وفي نوفمبر 2026، سيتم انتخابات التجديد النصفي لمجلسي النواب والشيوخ، فمن شأن نتائج هذه السياسات التأثير على قدرة ترامب على تنفيذ سياساته.
أهداف أمريكية خفية
قد يستهدف ترامب من تصريحاته أمس بشأن عزة وإعادة إعمارها، أهداف خفية غير معلنة مثل:
(*) تحويل ترامب للأنظار عن قضايا داخلية في الولايات المتحدة الأمريكية: مثل هذه التصريحات المثيرة قد تكون وسيلة لتحويل انتباه الرأي العام الأمريكي عن قضايا داخلية حساسة في الولايات المتحدة، سواء كانت اقتصادية أو قانونية (كالمحاكمات التي يواجهها ترامب).
(*) اختبار ترامب لردود الفعل الإقليمية: قد تكون هذه التصريحات اختبارًا لمعرفة مدى استعداد الدول العربية للتعاون في سيناريوهات مشابهة أو للضغط على حلفاء واشنطن لتقديم تنازلات. فترامب معروف باستخدامه لتكتيك التصريحات المتطرفة لقياس ردود الفعل الدولية.
(*) تعطيل المبادرات الإقليمية البديلة لحل الصراع العربي الإسرائيلي: قد تهدف هذه التصريحات لإفشال أي مبادرات سلام إقليمية لا تكون الولايات المتحدة طرفًا فيها، خاصة تلك التي قد تقودها أطراف أخرى مثل الاتحاد الأوروبي أو روسيا.
في النهاية، يمكن القول إن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول السيطرة الأمريكية على قطاع غزة بحجة طول المدة اللازمة لإعادة إعماره لتتجاوز من وجهة نظره أكثر من عقد من الزمان، تمثل "وعد بلفور جديد" من اليمين الأمريكي لليمين الإسرائيلي المتطرف بالسيطرة الكاملة على فلسطين. فقد وعد الجانب الأمريكي وكأنه يملك غزة بالفعل، الكيان الإسرائيلي المحتل بأنه سيتولى بشكل مباشر مسؤولية قطاع عزة.
فهذه التصريحات تخدم مجموعة من الأهداف التي قد تتنوع بين تحقيق مصالح إسرائيلية مباشرة، وتعزيز مصالح أمريكية أوسع، وربما أهداف أمريكية خفية تتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. فمن شأن هذه التصريحات في حالة تحقيقها بالفعل، وقوع تأثيرات عديدة على القضية الفلسطينية وعلى دول الجوار الفلسطيني خاصة مصر والأردن. كما تضر بعملية إعادة إعمار غزة التي تواجه تحديات عديدة، سواء من حيث التمويل أو الزمن المطلوب لها خاصة مع استمرار الأخطار والتعقيدات السياسية المحيطة بالمنطقة.