بعد مرور أقل من أسبوعين من بدء ولايته الثانية، دخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في خلافات حادة مع عدة دول، بسبب سياساته ومواقفه التصادمية مع تلك الدول، خصوصًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التجارة، والسيادة الوطنية. فما أبعاد القضايا الخلافية التي أثارها ترامب مع العديد من دول العالم، منذ بدء ولايته الثانية في العشرين من يناير الماضي؟ وهل ترجع جذور هذه الخلافات إلى ولايته الأولى؟ وما رد فعل تلك الدول إزاء سياسات ترامب التصادمية معها؟ وما أهم السيناريوهات لاستمرار ترامب في سياساته التصادمية مع دول العالم إزاء تلك القضايا؟
قضايا خلافية
يبدو أن بداية ولاية ترامب الثانية مليئة بالمواجهات الدولية، التي تتصدر اهتمامات البحث والتحليل في الوقت الراهن. فهناك العديد من القضايا الخلافية الممتدة جذورها منذ ولايته الأولى مع عدد من دول العالم. ويأتي في مقدمة هذه القضايا، ما يلي:
(*) القضية الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين: في ولايته الأولى، أعلن ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعترف بسيادة إسرائيل على الجولان، ما أثار غضب الدول العربية، إضافة إلى دعمه صفقة القرن، التي كانت تهدف إلى إعادة تشكيل الوضع الفلسطيني دون مشاركة فعلية من الفلسطينيين. والآن، في ولايته الثانية، يبدو أنه ذهب إلى أبعد من ذلك عبر اقتراح تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية لكل من مصر، والأردن.
(*) التوترات التجارية مع عدد من دول العالم: في ولايته الأولى، دخل ترامب في حرب تجارية مع الصين وفرض رسومًا جمركية على الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك. كما فرض رسومًا على البرازيل، في 2019، بسبب ما وصفه بتلاعبها في العملة. وفي ولايته الثانية، يحاول ترامب إعادة فرض الرسوم الجمركية، ما دفع البرازيل للتهديد بالرد بالمثل.
(*) السيادة الوطنية والخلافات مع بعض دول أوروبا وأمريكا اللاتينية: في 2019، عرض ترامب شراء جزيرة جرينلاند من الدنمارك، ما أثار غضبها. وتبرز أهمية هذه الجزيرة كجزء من منطقة القطب الشمالي، التي كانت مغطاة بالجليد بسرعة كطريق بحري جديد محتمل للسفن التجارية والسفن الحربية مع تراجع الجليد البحري بفضل الانحباس الحراري العالمي.
ومارس ترامب ضغوطًا على بنما بشأن النفوذ الأمريكي في قناة بنما. كذلك فرض عقوبات وضغوط على كولومبيا ودول أمريكا اللاتينية بسبب الهجرة والتجارة. والآن، في ولايته الثانية، يبدو أن ترامب عاد لنفس السياسات، ما أدى إلى ردود فعل حادة من الدنمارك، كولومبيا، وبنما.
تصعيد متزايد
جاءت مواقف الدول التي تصادم معها ترامب، خلال الأيام القليلة الماضية سريعة وقوية. ورفضت مصر أي مشاركة في تهجير الفلسطينيين، معتبرة ذلك ظلمًا غير مقبول، وأكدت الأردن موقفها الثابت برفض تهجير الفلسطينيين. ووصفت ألمانيا اقتراح نقل الفلسطينيين من غزة بأنه "غير مقبول"، كذلك أكد الاجتماع السداسي العربي الذي عقد السبت الموافق الأول من فبراير الجاري بالقاهرة، رفض تهجير الفلسطينيين.
ومن جانبها؛ هددت البرازيل بالرد بالمثل إذا فرض ترامب رسومًا جمركية عليها. كذلك رفضت الدنمارك بيع جزيرة "جرينلاند"، كذلك أكدت كولومبيا أنها لن تخضع لأي حصار أمريكي، وشددت بنما على أن قناة بنما ملك لها ولن تتفاوض على سيادتها.
ومن شأن ردود فعل تلك الدول، توقع تزايد توترات إدارة ترامب مع العديد من دول الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأوروبا في الفترة المقبلة.
ووفقًا لما سبق، من المرجح أن تستمر المواجهة بين ترامب وعدد من دول العالم، خلال ولايته الثانية حول القضايا الخلافية السابقة والمرشح تزايد عددها في الفترة المقبلة، وهو الأمر الذي من شأنه، توقع المزيد من التصعيد بين الولايات المتحدة وتلك الدول، ويرجع ذلك للأسباب التالية:
(*) سياسات ترامب التصادمية وعدم تراجعه عن مواقفه: فترامب معروف بعناده وبأسلوبه التفاوضي العدواني، إذ يبدأ بمواقف متشددة ثم يضغط حتى يحصل على تنازلات، ففي ولايته الأولى، لم يتراجع ترامب بسهولة عن قراراته، مثل الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، فرض الرسوم الجمركية، ونقل السفارة إلى القدس. والآن، في ولايته الثانية، لا يحتاج لإعادة انتخابه، ما يعني أنه قد يكون أكثر إصرارًا على تنفيذ سياساته دون محاولة التهدئة.
(*) رفض الدول التنازل عن قضايا سيادية ومصالح استراتيجية: فمصر والأردن تعتبران القضية الفلسطينية قضية أمن قومي، ولن تقبلا بأي خطة لترحيل الفلسطينيين. أما ألمانيا، فتمثل قوة رئيسية في أوروبا وتتبنى سياسة مستقلة، ومن غير المرجح أن تتبع قرارات ترامب بشأن الشرق الأوسط، ولن تسمح بنما لأمريكا بالسيطرة على قناة بنما مجددًا، لأن ذلك يمثل مساسًا بسيادتها الوطنية. كذلك رفضت الدنمارك بيع جزيرة جرينلاند سابقًا ولن تغير موقفها.
(*) تغير التوازنات الدولية خلال فترة ما بين الولايتين الأولى والثانية لترامب (2021 -2025): كانت أمريكا أقوى نسبيًا خلال ولاية ترامب الأولى (2017-2021)، لكن الآن، ومع بدء الولاية الثانية لترامب أصبحت الصين أقوى اقتصاديًا وعسكريًا ويمكنها دعم الدول التي تختلف مع ترامب. كذلك تحاول أوروبا تقليل اعتمادها على أمريكا، خاصة بعد الخلافات مع ترامب في ولايته الأولى. وأصبح الشرق الأوسط أكثر تقلبًا ويسوده عدم الاستقرار الإقليمي منذ حرب إسرائيل على غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، والدول العربية لا يمكنها تحمل ضغوطًا أمريكية جديدة دون رد فعل.
وفي ضوء الأسباب السابقة، يمكن استنتاج استمرار الخلافات بين ترامب وعدد من دول العالم بل أن هذه الخلافات مرشحة للتزايد. لذلك يُتوقع أن يشهد العالم أربع سنوات من التوترات المستمرة مع إدارة ترامب. وستبحث الدول المتضررة من سياساته التصادمية مع هذه الإدارة، عن بدائل اقتصادية وسياسية، ما قد يؤدي إلى تقليل النفوذ الأمريكي عالميًا على المدى الطويل.
سيناريوهات محتملة
ويدرك العالم أن ترامب في ولايته الثانية ليس قلقًا بشأن إعادة انتخابه، ما يجعله أكثر إصرارًا واندفاعًا في تنفيذ سياساته، وعلى ما يبدو أن ما لا يدركه ترامب أن العالم قد تغير بعد 2021 وحتى بدء ولايته الثانية. فمع حرب أوكرانيا، تصاعد نفوذ الصين، وهناك التغيرات في الشرق الأوسط، ما يجعل بعض الدول أكثر استعدادًا لمعارضته. وترتيبًا على ما سبق، يمكن تصور بعض السيناريوهات لاستمرار ترامب في سياساته التصادمية مع عدد من دول العالم إزاء القضايا الخلافية السابقة. وتحدد هذه السيناريوهات فيما يلي:
(*) بناء تحالفات عربية جديدة لمواجهة الضغوط الأمريكية: مع استمرار السياسات الأمريكية الداعمة لإسرائيل، قد يزيد الضغط على الدول العربية لاتخاذ مواقف أكثر حدة. فمن شأن استمرار دعم ترامب لإسرائيل دون اعتبار للموقف العربي، أن يؤدي إلى اضطرابات سياسية وعسكرية في المنطقة. لذلك قد تتجه هذه الدول إلى تقوية العلاقات مع قوى دولية أخرى مثل الصين وروسيا لأحداث توازن استراتيجي مع سياسات واشنطن في المنطقة. وتشهد الفترة المقبلة، صفقات تسليح جديدة بين الدول العربية وروسيا، ردًا على سياسات ترامب التصادمية مع المصالح العربية.
(*) نشوب حروب تجارية جديدة ضد الولايات المتحدة الأمريكية: مثلما هددت البرازيل، قد تتجه دول أخرى لفرض عقوبات مضادة أو تقليل التعاون الاقتصاد مع الولايات المتحدة الأمريكية. لذلك قد تفرض كل من البرازيل، الصين، والاتحاد الأوروبي عقوبات مضادة على أمريكا. وقد تتجه كل من كولومبيا وبنما إلى تقليل التعاون التجاري مع الولايات المتحدة أو تمنحان امتيازات لدول أخرى مثل الصين.
(*) تزايد التصعيد الأوروبي ضد الولايات المتحدة الأمريكية: قد تشهد الفترة المقبلة قيادة ألمانية وفرنسية لجهود أوربية لتقليل الاعتماد على أمريكا في الأمن والتجارة لتصبح أوربا أكثر استقلالية عن واشنطن. ويتجه الاتحاد الأوروبي إلى زيادة تعاونه مع كل من الصين والهند لتخفيف الضغوط الأمريكية.
وفي النهاية، يمكن القول إن معظم قضايا ترامب الخلافية مع عدد من دول العالم في الوقت الراهن، ترتبط بسياساته خلال ولايته الأولى (2017-2021) إزاء نفس القضايا. وما يحدث الآن هو إعادة تصعيد لهذه القضايا في فترة مبكرة من ولايته الثانية وكأن لا يوجد فاصل زمني بين ولايته الأولى والثانية. فمن هذه السياسات التصادمية لترامب، أن تؤدى بهذه الدول إلى بناء جبهات مضادة وتوسيع تحالفاتها، وهو الأمر الذي من شأنه تقليل نفوذ أمريكا عالميًا، وربما يشهد العالم تكتلات جديدة قد تضعف الهيمنة الأمريكية.