يتسم الموقف الأمريكي بالتعقيد والتشابك من مسار التطورات في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، 8 ديسمبر 2024، في ظل تزايد التنافس الدولي على رقعة الشطرنج السورية، وتزايد المصالح الاستراتيجية الأمريكية سواء تلك المرتبطة بالصراع على النفوذ في ترتيبات ما بعد الأسد أو لمواجهة القوى المناوئة للسياسة الأمريكية وفي مقدمتها روسيا وإيران. وتجسد الموقف الأمريكي بمختلف مؤسساته الرسمية في إرجاع سقوط نظام الأسد بسبب انشغال حلفائه بمشكلاتهم المعقدة، وأن التوجه الأمريكى إزاء سوريا سينطلق من العمل مع جميع المجموعات السورية، من خلال إطلاق مرحلة انتقالية تقودها الأمم المتحدة، وإرساء دستور جديد لسوريا موحدة وفقًا للتصريحات الرسمية.
ردود الفعل الأمريكية
تنوعت ردود الفعل الأمريكية من المؤسسات المختلفة على سقوط نظام الأسد في سوريا، التي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب: اتساقًا مع شعاره بشأن أمريكا أولًا والحد من الانخراط الأمريكي في صراعات الشرق الأوسط، دعا الرئيس المنتخب دونالد ترامب، الإدارة الحالية بعدم التدخل في حالة الفوضى التي اندلعت في سوريا، قبل ساعات معدودة من إعلان رحيل الأسد، معتبرًا أن "المعركة ليست معركتنا" على حد تعبيره، في الوقت الذي اعتبر فيه أن روسيا ليست قادرة على الدفاع عن النظام، نظرًا لانشغالها بالحرب الروسية والأوكرانية. غير أنه بعد إعلان سقوط نظام الأسد رسميًا غرد على منصة تروث سوشيال، مؤكدًا أن تهاوي سلطة الأسد كان من بين أسبابه عدم تلقيه مساعدة من روسيا، التي لم تكن لتتورط بسوريا في المقام الأول، مشيرًا إلى أن موسكو فقدت كل اهتمامها بسوريا بسبب أوكرانيا، إذ "كان ما يقرب من 600 ألف جندي روسي جرحى أو قتلى في حرب لم يكن ينبغي أن تبدأ أبدًا، ويمكن أن تستمر إلى الأبد"، معتبرًا أن روسيا وإيران في حالة ضعيفة الآن، واحدة بسبب أوكرانيا وسوء الاقتصاد، والأخرى بسبب نجاح هجمات إسرائيل في القتال.
(*) الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن: أعلن الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن في كلمة بالبيت الأبيض، 8 ديسمبر 2024، أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل مع جميع المجموعات السورية لضمان انتقال سياسي بعد سقوط نظام بشار الأسد وستقيم أقوالهم وأفعالهم، ويشمل ذلك العملية التي تقودها الأمم المتحدة، بهدف إرساء مرحلة انتقالية بعيدًا عن نظام الأسد ونحو سوريا مستقلة وذات سيادة بدستور جديد، مضيفًا أن سقوط نظام الأسد يمثل لحظة تاريخية وفرصة للشعب السوري لبناء السلام في بلده ومنطقة الشرق الأوسط، مؤكدًا أن إدارته ستدعم جيران سوريا بمن فيهم الأردن والعراق وإسرائيل ولبنان.
(*) مستشار الأمن القومي الأمريكي: أشار مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، 7 ديسمبر 2024، أن سرعة هجمات المعارضة تعكس فقدان الأسد داعميه مثل إيران وحزب الله وروسيا، وأنهم غير مستعدين لتقديم الدعم الذي حصل عليه سابقًا. وعبر سوليفان عن قلقه من انتقال الصراع في سوريا إلى الخارج، مشيرًا إلى أن واشنطن ستعمل على تقوية إسرائيل والعراق والأردن حتى لا ينتقل الصراع إليهم.
(*) وزارة الخارجية الأمريكية: أشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن رفض بشار الأسد الانخراط في عملية سياسية ذات مصداقية واعتماده على الدعم الخارجي أديا إلى انهياره، مضيفًا أنه أصبح لدى الشعب السوري أخيرًا سبب للأمل، مؤكدًا دعم واشنطن بقوة للانتقال السلمي للسلطة إلى حكومة سورية مسؤولة من خلال عملية شاملة وبقيادة سورية، وأوضح أنه خلال هذه الفترة الانتقالية يحق للشعب السوري أن يطالب بالحفاظ على مؤسسات الدولة، واستئناف الخدمات الأساسية، وحماية المجتمعات الضعيفة، ودعا بلينكن جميع الأطراف إلى احترام حقوق الإنسان، واتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة لحماية المدنيين، واحترام القانون الإنساني الدولي.
أهداف أمريكية
تتنوع أهداف االتوجهات الأمريكية في مرحلة ما بعد الأسد، التي يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(&) الحد من النفوذ الروسي: يشكل الحد من النفوذ الروسي أحد الأهداف الأمريكية في مرحلة ما بعد الأسد، لا سيما وأن ثمة توجه أمريكي يعتقد بأن الحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى التأثير على حماية روسيا لنظام الأسد في ظل انشغال بوتين بمسار الحرب الروسية الأوكرانية. ويرى تيار أمريكي أن حرمان روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة عبر المتوسط في سوريا سيعمق من استنزاف قدرات روسيا، والحد من سعيها لتعزيز مكانتها على مسرح السياسة الدولية، لا سيما وأن بوتين يعد من أشد المنادين بالتحول من النظام الأحادي القطبية إلى التعددية القطبية.
(&) تقليص النفوذ الإيراني: تهدف الولايات المتحدة إلى تقليص النفوذ الإيراني بسوريا في مرحلة ما بعد الأسد، وفي بيان صادر عن مجلس الأمن القومي الأمريكي، 9 ديسمبر 2024، اعتبر أن ما حدث أخيرًا في الشرق الأوسط أسهم في إضعاف إيران وأوصل إلى ما حدث في سوريا. ويمثل موقف الرئيس المنتخب دونالد ترامب دعمًا لذلك التصور، لا سيما وأن ولايته الأولى شهدت فرض عقوبات على إيران، وإلغاء الاتفاق النووي الذي وافقت علية إدارة الرئيس الأسبق أوباما.
(&) منع عودة "داعش" الإرهابي: يشكل تنظيم "داعش" الإرهابي أحد التحديات التي تواجه المصالح الأمريكية في سوريا والعراق، ومنذ إعلان العراق القضاء على تنظيم "داعش" الإرهابي بمساعدة قوات التحالف الدولى في 2017، لا تزال الذئاب المنفردة للتنظيم الإرهابي تحاول العودة في المناطق غير المأهولة، خاصةً على الحدود بين سوريا والعراق. وللمفارقة فإن العراق احتفل 10 ديسمبر 2024 بالذكرى السنوية السابعة لتحرير المناطق العراقية من تنظيم "داعش" الإرهابي، إذ نجحت القوات العراقية من طرد عناصر "داعش" الإرهابية من آخر معاقل التنظيم في محافظات نينوى والأنبار وديالي، وقرر البرلمان العراقي تحديد ذلك اليوم كعطلة رسمية في البلاد تخليدًا لذلك الإنجاز.
ومع تنامي المخاوف من عودة تنظيم "داعش" الإرهابي بعد سقوط نظام الأسد، تؤكد الولايات المتحدة وفق تصريحات رئيسها المنتهية ولايته جو بايدن، أنها لن تعطِ فرصة للتنظيم الإرهابي لبناء قدراته، ولن تسمح بتحول سوريا لملاذ آمن له. كما أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن الولايات المتحدة الأمريكية عازمة على منع تنظيم "داعش" الإرهابي من إعادة تنظيم صفوفه في سوريا، وكذلك منع تفكك هذا البلد بعد إسقاط نظام بشار الأسد.
(&) حماية المصالح الأمريكية: إذا كان الرئيس المنتخب دونالد ترامب أشار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لها مصالح حيوية في سوريا، فإن ثمة تيار داخل الولايات المتحدة الأمريكية يعدد المصالح الأمريكية في سوريا، منها الوجود العسكري في شرق البلاد، الذي يبلغ قوامه 900 جندي، ويعتبر ذلك التيار أن امتلاك واشنطن لقدرات عسكرية وتحالفها مع قوى محلية مثل الأكراد في سوريا يُسهم في تعزيز الدور الأمريكي في ترتيبات ما بعد الأسد، وهو ما أكده وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، 9 ديسمبر 2024، حول حيوية المصالح الأمريكية في سوريا بالقول: "لدينا مصلحة واضحة في بذل كل ما بوسعنا لتجنب تفكك سوريا، والهجرات الجماعية منها، وتصدير الإرهاب والتطرف"، وأوضح أيضًا أن للولايات المتحدة الأمريكية مصلحة واضحة في ضمان عدم وقوع أي أسلحة دمار شامل أو مكونات منها بقيت بسوريا في الأيدي الخطأ".
مجمل القول تشكل المصالح الأمريكية وحماية إسرائيل المحدد الأهم في حدود الانخراط الأمريكي في ترتيبات ما بعد الأسد سواء من خلال الاعتراف بالقوى السياسية الجديدة التي ستقود المرحلة الانتقالية، أو من خلال التفاعل مع تطورات الأحداث على أرض الواقع في إطار استرتيجيات القوى الكبرى الرامية، لإعادة رسم خرائط النفوذ والسيطرة في منطقة لا تزال تشهد إعادة تشكيل لتوازنات إقليمية ودولية تسعى لتحقيق مشاريعها.