يعكس الموقف الأمريكي الذي تبنى رفضًا قاطعًا لتمدد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، التي شنّتها حركات المقاومة الفلسطينية، والرد الإسرائيلي عليها بعملية "السيوف الحديدية" تناقضًا ما بين التوجهات الرسمية الرافضة لذلك التمدد نحو جبهات أخرى قد تؤدى إلى حرب شاملة ترفضها واشنطن، والسلوك على أرض الواقع بدعم التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد إيران سواء من خلال تعزيز الدعم العسكري الأمريكي في المنطقة، وتأييد ما تقوم به إسرائيل من استهداف واغتيال لقيادات "حزب الله" اللبناني الحليف الأهم لإيران وأحد أهم أدواتها في الصراع مع إسرائيل، وهو ما ترجمه تأييد الرئيس الأمريكي جو بايدن لعملية اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لـ"حزب الله"، وعدد من مرافقيه بقوله، "إنه إجراء يحقق العدالة لضحاياه الكثيرين من بينهم الآلاف من المدنيين الأمريكيين والإسرائيليين واللبنانيين"، مؤكدًا أن الولايات المتحدة تدعّم حق إسرائيل الكامل في الدفاع عن نفسها ضد "حزب الله" و"حماس" و"الحوثيين"، فضلًا عن رفض الولايات المتحدة الأمريكية للرد الإيراني على إسرائيل بعد أن أطلقت إيران ما يزيد على 250 صاروخًا في الأول من أكتوبر 2024، واعتباره عدوانًا على إسرائيل، في ظل السعي الأمريكي الذي حاول ضبط المناوشات العسكرية بين إسرائيل وإيران بجعلها ردود محسوبة لا تؤدي إلى خسائر جسيمة.
تناقض أمريكي
تنوعت مؤشرات التناقض في الموقف الأمريكي إزاء التصعيد الإسرائيلي الإيراني، وهو ما يمكن الإشارة إليه على النحو التالي:
(*) التردد الأمريكي: تبنى الرئيس جو بايدن توجه رفض تمدد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى جبهات أخرى قد تؤدي إلى حرب شاملة محتملة، تدفع بالولايات المتحدة للانخراط في تلك الحرب للدفاع عن إسرائيل، وهو ما قد يدفع بالإقليم نحو الهاوية، لذلك طرح بايدن مقترحًا لوقف إطلاق النار في غزة تبناه مجلس الأمن ورفضته إسرائيل، وأخفق بايدن في الضغط على نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار، بالرغم من خروج مظاهرات حاشدة في الجامعات الأمريكية تطالبه بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، التي اعتبرها المحتجون بمثابة حرب إبادة جماعية.
وبدا التردد الأمريكي واضحًا ما بين مجتمع داخلي رافض للحرب وإدارة غير قادرة على ممارسة أي نوع من الضغوط لإثناء نتنياهو عن تفجير الإقليم في ظل عجز الرئيس بايدن الذي يخوض حزبه الانتخابات الرئاسية بقيادة كامالا هاريس، وللمفارقة فإنه حضَّ إسرائيل في 4 أكتوبر 2024 على عدم استهداف منشآت نفطية إيرانية ردًا على الهجوم الصاروخي الذي نفذته طهران ضد تل أبيب ردًا على اغتيال قادة "حزب الله" اللبناني، قائلًا: "لو كنت مكانهم، كنت سأفكر ببدائل عن ضرب حقول النفط"، كما أكد الرئيس بايدن أنه يعمل على حشد دول العالم لتفادي حرب شاملة في الشرق الأوسط. هذه التصريحات تشير إلى أن حقول النفط الإيرانية ربما تكون ضمن أولويات الرد الإسرائيلي المحتمل على إيران.
(*) جولات بلينكن: على الرغم من تعدد جولات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى منطقة الشرق الأوسط وتكرار التصريحات بأن الدبلوماسية هي الحل الوحيد، إلا أن محدودية نتائج تلك الجولات عكست تناقض الموقف الأمريكي لا سيما أنه قام على سياسة مجزأة قائمة على رد الفعل، حيث فشلت الولايات المتحدة الأمريكية في رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حليفها الاستراتيجي إسرائيل، ومنعه من التصعيد على جبهات متعددة في مقدمتها السعي الإسرائيلي منذ عملية "طوفان الأقصى" باستدراج إيران نحو حرب شاملة سواء بتصفية قادة أذرعها الإقليمية كما حدث مع "حزب الله" اللبناني و"حماس" أو باستهداف تمركزات تلك الأذرع كما حدث مع "الحوثيين" في اليمن.
(*) الدعم العسكري: يعد الدعم العسكري لإسرائيل من القضايا التي يجمع عليها أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وبرغم تبني الإدارة الأمريكية الحالية لرفض تمدد الصراع، إلا أن الكونجرس الأمريكي سنَّ أكثر من تشريع لمنح 12,6 مليار دولار من الاعتمادات العادية والتكميلية المباشرة من مخصصات وزارة الخارجية ووزارة الدفاع لإسرائيل للسنة المالية 2024 والسنة المالية 2025، وقبل ذلك أقر حزمة من المساعدات الطارئة التكميلية التي تتضمن مساعدات لإسرائيل بقيمة 14,3 مليار دولار.
دوافع متعددة:
ارتبط الموقف الأمريكي إزاء التصعيد الإسرائيلي الإيراني بالعديد من الدوافع، وهو ما يمكن الإشارة إليه على النحو التالي:
(&) ضمان أمن إسرائيل: يشكّل ضمان أمن إسرائيل أحد أهم أولويات الاستراتيجية الأمريكية إزاء منطقة الشرق الأوسط، وعقب عملية "طوفان الأقصى" تدفق المسؤولون الأمريكيون وأركان الإدارة الأمريكية، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ووزير دفاعه لويد أوستن إلى زيارة تل أبيب، وإعلانهم تضامنهم الكامل مع إسرائيل، واستعدادهم لتقديم كل أوجه المساعدة لحماية أمن إسرائيل.
كان هذا التدفق الأمريكي على مستوى قادة الولايات المتحدة الأمريكية مؤشرًا على أن إسرائيل تمر بمأزق حقيقي بعد سقوط نظريات الردع التي حالت دون استهداف عمقها، الأمر الذي جعل بعض المحللين يصفون ما حدث بالتهديد الوجودي، بعد تفريغ مستوطنات بغلاف غزة من قاطنيها، وانقسام مجتمعي داخلي إسرائيلي تجلى في مظاهرات رافضة لحرب نتنياهو، التي يرون أنها تخدم أهدافه الشخصية للبقاء في السلطة، وطالبت تلك المظاهرات بإسقاط الحكومة ومحاكمتها، فضلًا عن نزوح ما يقرب من 60 ألفًا من المستوطنين الإسرائيليين من قرى الشمال الإسرائيلي بعد عمليات "حزب الله" لإسناد المقاومة في غزة، وهو ما يجعل نتنياهو يبرر تصعيده ضد لبنان بعودة هؤلاء المستوطنين إلى منازلهم.
(&) التوازن بين مبدأ التوجه شرقًا والانخراط في الشرق الأوسط: تبنت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما استراتيجية التوجه شرقًا بهدف وقف تمدد الصين وتعزيز الوجود الأمريكي في آسيا لمواجه الصعود الصيني المتنامي، في مقابل الحد من ارتباطات الولايات المتحدة الأمريكية بصراعات منطقة الشرق الأوسط التي بدت مكلفة اقتصاديًا وعسكريًا.
وقد سار الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن على نفس نهج باراك أوباما معتقدًا أن تحلل الولايات المتحدة من ارتباطاتها في الإقليم المضطرب يدفع بأطرافه لتحمل تكلفة صراعاته، غير أن التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل جعل العديد من الدوائر الأمريكية تعيد النظر في مسألة الحد من الانخراط الأمريكي في صراعات الشرق الأوسط، لاسيما وأن ذلك الفراغ بدأت الصين في ملؤه من خلال نجاحها في الوساطة بين السعودية وإيران لاستئناف العلاقات بينهما، وعقد العديد من الشراكات الاستراتيجية، ما يعزز من الحضور الصيني في الإقليم، ويشكل خصمًا من النفوذ الأمريكي.
(&) تطويق الصين: تثير العديد من التحليلات قضية الدعم الأمريكي لإسرائيل في تصعيدها ضد إيران بربطه في أحد جوانبه بالصراع الأمريكي الصيني على قمة النظام الدولي، في ظل الصعود الاقتصادي الصيني، وارتفاع معدلات التنمية، لذا يرى اتجاه بأن الاعتماد الصيني على الطاقة المتدفقة من منطقة الشرق الأوسط ومن إيران تحديدًا يشكل أحد أوجه ذلك الصراع، وهو ما أشار إليه الإعلام الإسرائيلي في 6 أكتوبر 2024 بأن المنشآت النفطية أحد الخيارات المطروحة التي تستهدفها إسرائيل في إيران، ردًا على الغارات التي شنتها طهران في وسط تل أبيب.
كما أشارت هيئة البث الإسرائيلية إلى أن الحكومة قررت شن هجوم قوي وكبير على إيران، وأن الهجوم على إيران أو استهداف مصالحها بالشرق الأوسط من الخيارات المطروحة، وأن الاستعدادات للرد على إيران تتم بالتنسيق مع واشنطن.
(&) الانتخابات الرئاسية الأمريكية: تشكّل الورقة الانتخابية محدد رئيسيًا لفهم التحول في الموقف الأمريكي بتأثير جماعات المصالح المؤيدة لإسرائيل، فمع اقتراب إجراء الانتخابات الرئاسية التي يتبقى عليها أقل من شهر، يصبح التركيز الأمريكي على قضايا الداخل بما يمنح إسرائيل فرصة للعربدة في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما أن ثمة تأييد من الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب لخوض الانتخابات أمام مرشحة الحزب الديمقراطي ونائبة الرئيس كامالا هاريس للتصعيد الإسرائيلي ضد إيران بل ومطالبته إسرائيل بضرب المنشآت النووية الإيرانية، لذلك يفضّل رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فوز دونالد ترامب، من خلال محاولته توريط بايدن في حرب شاملة في منطقة الشرق الأوسط بما يؤثر على فرص فوز الحزب الديمقراطي.
مجمل القول يتجسّد التناقض الأمريكي إزاء التصعيد الإيراني-الإسرائيلي في التصريحات الرسمية التي تطالب بالحلول الدبلوماسية ورفض تمدد الحرب الإسرائيلية على غزة لتصبح حربًا شاملة تنخرط فيها قوى إقليمية وربما دولية، الأمر الذي يجعل من التصعيد الإيراني-الإسرائيلي حال خروجه عن السيطرة بردود ومناوشات محسوبة تهديدًا للأمن الإقليمي والعالمي برمته.