جاءت زيارة المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين إلى إسرائيل في 16 سبتمبر 2024؛ لبحث التطورات على جبهة لبنان، وسط تحذيرات أمريكية من تداعيات فتح جبهة جديدة، ومخاطر اندلاع حرب مع "حزب الله" اللبناني، وهو الأمر الذي أعلن عنه منسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، أن زيارة هوكشتاين تأتي ضمن جهود إدارة الرئيس جو بايدن لمنع فتح جبهة جديدة مع حزب الله، وخفض مستوى التهديد تفاديًا لحرب شاملة قد تؤدي إلى دخول أطراف أخرى في الصراع.
فعلى الرغم من انحياز الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل في حربها على غزة، إلا أن هناك توجهًا بتبني رفض اتساع رقعة الصراع، وتمدده في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما على الجبهة اللبنانية، التي تشهد مناوشات متكررة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي و"حزب الله" اللبناني أدت إلى هجرة سكان المدن على الحدود بين الجانبين إلى مناطق آمنة بعيدًا عن الحدود، باعتبار أنها أضحت منطقة عمليات عسكرية.
إجماع أمريكي
هناك إجماع على كل المستويات ومراكز صنع القرار الأمريكية برفض تمدد الصراع وانتشاره في منطقة الشرق الأوسط لا سيما على الجبهة اللبنانية، إذ تكررت مطالبات الرئيس الأمريكي جو بايدن لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمنع التصعيد على جبهة لبنان، كما جاء ذلك التوجه على قائمة أولويات جولات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى منطقة الشرق الأوسط، وهو ما عبرت عنه مؤخرًا المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير بأن التوصل إلى حل دبلوماسي في الشرق الأوسط أمر ممكن ومُلح، وأن البيت الأبيض يعتقد أن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة من شأنه أن يهدئ المنطقة.
هذا الاتجاه أيضًا عبر عنه وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن خلال اتصال هاتفي بنظيره الإسرائيلي يوآف جالانت بضرورة تهدئة التوتر في الشرق الأوسط، وأن التوصل لوقف إطلاق ضروري لمنع اتساع الصراع. وفي نفس السياق أكدت نائبة المتحدث باسم البنتاجون سابرينا سينج، خلال مؤتمر صحفي في 19 سبتمبر 2024، وعقب تفجيرات أجهزة البيجر التابعة لـ"حزب الله" في لبنان وسوريا، أنه لا يوجد أي تغيير في الموقف العسكري الأمريكي بالشرق الأوسط، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترغب في توسيع الصراع إلى حرب إقليمية، مؤكدة أن واشنطن قلقة بشأن التصعيد في الشرق الأوسط.
مؤشرات التصعيد
تنوعت مؤشرات التصعيد الإسرائيلي على جبهة لبنان، وهو ما يمكن الإشارة إلى أبرز محطاته في العناصر التالية:
(*) اختراق أجهزة البيجر: في 17 و18 سبتمبر 2024 تعرضت أجهزة البيجر، وأجهزة اللاسلكي التي يحملها أعضاء "حزب الله" في كل من لبنان وسوريا إلى انفجارات، وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، فوفقًا لما أعلنته السلطات اللبنانية فقد سقط في تلك العملية ما لا يقل عن 11 ضحيًة وأكثر من 4000 جريح بينهم نحو 200 في حالة حرجة.
(*) تحوّل ثقل الحرب من الجنوب إلى الشمال: أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن نقل الفرقة 98 من القوات الخاصة من قطاع غزة إلى الجبهة الشمالية، وهو الأمر الذي يعني تعزيز الوجود العسكري الإسرائيلي على الجبهة الشمالية لمواجهة محتملة مع "حزب الله" اللبناني، كما أعلن جيش الاحتلال أيضًا عن انتهاء تدريبات اللواء 179، واللواء 769، والتي كانت تركز على التحضير للجبهة الشمالية.
ورغم ما تحمله هذه التطورات من إشارات لتحوّل ثقل الحرب من الجنوب كما عبر عن ذلك وزير الدفاع يوآف جالانت، فإنها تعكس إصرار نتنياهو على جرّ المؤسسة العسكرية إلى مواجهة أوسع ليس فقط لاستعادة الردع، وإنما لإحكام سيطرته عليها والإبقاء على الحرب حتى موعد الانتخابات الأمريكية.
(*) إجماع إسرائيلي على التصعيد: اتجهت إسرائيل للتصعيد على جبهة لبنان منذ عملية "طوفان الأقصى"، ودخول "حزب الله" في عملية إسناد للمقاومة في غزة وتخفيف الضغط الإسرائيلي على القطاع، وزادت وتيرة التصعيد بعد عملية مجدل شمس التي اتهمت إسرائيل "حزب الله" بتنفيذها، في حين نفى الحزب مسؤوليته عن الهجوم.
وفوّض مجلس الوزراء الإسرائيلي الأمني المصغر كل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت بتحديد نوع وتوقيت الرد، وأعلن نتنياهو أن إسرائيل في حالة استنفار عالية جدًا، وتوعد جالانت بضرب الحزب "في كل مكان نحتاج لضربه فيه" بحسب وصفه، وطالب وزير الأمن القومي إيتمار بن جفير بشن حرب على "حزب الله" فورًا.
(*) خطاب حسن نصر الله: اشتمل خطاب حسن نصر الأمين العام لـ"حزب الله" في 19 سبتمبر 2024 على مفردات للتصعيد العسكري ضد إسرائيل والذي خصصه للتعقيب على تفجيرات أجهزة البيجر يومي 17 و18 سبتمبر 2024، إذ اعتبر أن التفجيرات الإسرائيلية في لبنان تمثل جريمة بشعة وإعلان حرب بعدما فجرت إسرائيل آلاف أجهزة البيجر في وقت واحد، وطالت هذه التفجيرات السيارات والطرقات العامة والمنازل، مشيرًا إلى أن دولة الاحتلال تجاوزت كل الخطوط الحمراء، مشددًا على أن إسرائيل لن تتمكن من إعادة سكان الشمال إلا بوقف الحرب العدوانية على غزة، ومؤكدًا أن الحزب لن يحدد شكل ونوع الرد على إسرائيل و"سنترك الأمر مفتوحًا"، وأن الجبهة اللبنانية ضاغطة بقوة ومساندة لغزة، وأن قواعد الردع في جنوب لبنان تغيرت بعد هجمات اليومين الماضيين.
سيناريوهان محتملان
تخضع احتمالات التصعيد لسيناريوهين اثنين:
السيناريو الأول: التصعيد وهو السيناريو الذي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لتجنبه، وذلك للحيلولة دون دخول أطراف أخرى في الصراع، وفي مقدمة تلك الأطراف إيران، ففي حال دخول إيران إلى المعركة المحتملة بين إسرائيل و"حزب الله" ستضطر الولايات المتحدة إلى مساندة إسرائيل، لا سيما وأن نتنياهو لا يستطع خوض حرب شاملة في لبنان من دون دعم أمريكي مباشر.
وبالتالي ستصبح الولايات المتحدة وإيران في مواجهة مباشرة، وهو ما يعني دخول منطقة الشرق الأوسط إلى السيناريو الأسوأ الذي ربما يدفع بالأذرع الإيرانية المنتشرة في العراق وسوريا واليمن إلى استهداف القوات الأمريكية أو على أقل تقدير استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة، ومنها الناقلات التجارية التي تنقل النفط من المنطقة إلى الدول الغربية، وهو ما سيؤدي إلى معاناة الدول الغربية ويضعف قدرتها على تحقيق الاكتفاء الآمن من الطاقة.
غير أن ذلك السيناريو يظل هو الأضعف لعاملين رئيسيين الأول يرتبط بالوجود العسكري الأمريكي المكثف في منطقة الشرق الأوسط لتحقيق الردع ومنع إيران من المجازفة في الانخراط بالحرب المحتملة. وثانيهما أن المواجهات العسكرية والتصعيد بين إيران وإسرائيل خلال الفترة الماضية عكست نوعًا من الردود المحسوبة، إذ لم يسفر التصعيد الإيراني ضد إسرائيل عبر إطلاق المُسيّرات والصواريخ تجاه تل أبيب عن خسائر جسيمة أو أضرار بالغة بما جعل البعض يصفونها بالحروب السينمائية.
السيناريو الثاني: التهدئة، وهو السيناريو الذي يقوم على أن منطقة الشرق الأوسط تعاني من مشكلات معقدة، وأن مزيدًا من الحروب سيعني مزيدًا من تدهور الأوضاع في ظل ارتفاع فاتورة المواجهات العسكرية المحتملة، هذا السيناريو تدعمه ردود الأفعال الأوروبية الرافضة للتصعيد والداعمة للموقف الأمريكي، والتي تطالب بضبط النفس حتى لا يتحول التصعيد لحرب شاملة، إدراكًا لخطورة التصعيد على المصالح الغربية لا سيما وأن اقتصاداتها لم تتعاف بعد من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي دفعت بالعديد من الدول الغربية لتوقيع اتفاقات ممتدة مع الدول المصدرة للنفط والغاز في المنطقة لتعويض نقص إمدادات الطاقة التي تعد عصب التنمية في تلك الدول، لذلك صدر بيان من ثلاثة قادة أوروبيون هم: الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والمستشار الألماني أولاف شولتس في 11 أغسطس 2024 بهدف تفادي تدهور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، والتزامهم بالتهدئة والاستقرار الإقليمي.
مجمل القول، تتبنى الإدارة الأمريكية توجهًا رئيسيًا مفاده منع تمدد الصراع بين الأطراف المتحاربة في إقليم الشرق الأوسط والحيلولة دون تحوله إلى حرب شاملة لا يمكن التنبؤ بمساراتها المستقبلية على الأمن العالمي. وللمفارقة فإنه رغم الانحياز الأمريكي اللامحدود لدعم الحليف الإسرائيلي، يظل الموقف الأمريكي بكل مستوياته رافضًا لانتشار الصراع وتوظيف القوى الإقليمية الرامية لذلك التمدد للهروب من مشكلات داخلية أو تحقيق مكاسب شخصية للبقاء في السلطة وهو ما يسعى إليه نتنياهو، بما يعنى أن ترك مستقبل المنطقة في يد حكومة إسرائيلية يمينية ومتطرفة، وتوظيف محاور الصراعات وتغذيتها سيدخل المنطقة في أتون صراعات معقدة لا يمكن السيطرة على تداعياتها المستقبلية.