عَكس الهجوم الإرهابي الذي استهدف مقر شركة صناعات الطيران والفضاء "توساش" في أنقرة، في 23 أكتوبر 2024، شواغل الدولة التركية ومحددات موقفها الداخلي من التصعيد الإقليمي الراهن، إذ برزت خلال شهر أكتوبر الجاري تحركات عديدة للتحذير من مخاطر المواجهة الإسرائيلية الإيرانية وتداعياتها على الأمن القومي التركي، فيما دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 12 أكتوبر 2024 كلًا من روسيا وإيران وسوريا لتشكيل آلية ثلاثية لحماية سلامة ووحدة الأراضي السورية من ضربة إسرائيلية على دمشق، وللوقوف بوجه "التنظيمات الإرهابية المدعومة من أمريكا"، في إشارة إلى "وحدات حماية الشعب" الكردية، المكون الرئيسي لـ"قوات سوريا الديمقراطية".
ورغم تقليل المعارضة من تقديرات الحكومة التركية بشأن تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان ومخاطر امتداده إقليميًا باتجاه الحدود التركية، إلا أن تلك التحركات تزامنت مع توجه الرئيس رجب طيب أردوغان في ولايته الجديدة إلى حل الملف الكردي والتوجه لتعديل دستور البلاد، شمل انفتاحًا على نواب حزب الديمقراطية والمساواة بين الشعوب.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي أبعاد الموقف التركي تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان والصراع الإيراني الإسرائيلي، وارتباط ذلك بالداخل التركي.
أبعاد الموقف التركي
تتشابك أبعاد الموقف التركي من التصعيد الإقليمي الراهن، انطلاقًا من المحددات التالية:
(*) دعم التهدئة ووقف الحرب: احتفظت تركيا بعلاقات وطيدة مع كل الأطراف الفلسطينية، لتعزيز دورها ومساهماتها في القضية الفلسطينية، وخاصة حركة "حماس" التي تستضيف مكاتبها للحركة وتلتقي بأعضاء المكتب السياسي ووفود الحركة بصفة دورية. وفي 18 أكتوبر الجاري، التقى وزير الخارجية هاكان فيدان وفدًا من الحركة، مؤكدًا دعم مسار المصالحة الوطنية الفلسطينية بالقاهرة، ومواصلة ملاحقة مجرمي الحرب بالحكومة الإسرائيلية. كما أطلق الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، في 15 أغسطس 2024، الدعوة للمجتمع الدولي بتأمين زيارته إلى قطاع غزة على رأس القيادة الفلسطينية، خلال كلمته التاريخية أمام الجمعية الوطنية بتركيا.
(*) تحييد الداخل التركي: في ظل توجه إسرائيل لتوسيع الصراع وتنفيذ سياسة الاغتيالات، أبدت تركيا مخاوفها من امتداد الصراع إلى أراضيها، وفي 4 أكتوبر الجاري، حذر الرئيس التركي من مخطط "إسرائيل الكبرى" الذي يمتد إلى الأراضي التركية. ومنذ تصعيد سياسة الاغتيالات الإسرائيلية وحرب الظل بين إسرائيل وإيران، حذرت تركيا من اغتيال قادة حماس على أراضيها، كما أعلنت القبض على شبكات تجسس تابعة للموساد منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة.
ففي مارس الماضي، اعتقلت تركيا شبكة من 7 موظفين حكوميين بتهمة جمع معلومات عن مواطنين من دول شرق أوسطية لصالح الموساد الإسرائيلي مقابل المال، كما أعلنت المخابرات التركية، في 3 سبتمبر الماضي، اعتقال مواطن كوسوفي في إسطنبول قالت إنه مسؤول الشبكة المالية للموساد الإسرائيلي، واتهمته بتحويل أموال لعملاء الجهاز في تركيا.
وعلى الجانب الآخر، أعلنت السلطات الإسرائيلية اعتقال مواطن يهودي بتهمة محاولة اغتيال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في سبتمبر الماضي، وذكرت أن المخابرات الإيرانية جندت رجل أعمال إسرائيلي عاش في تركيا لفترات طويلة، وتم تهريبه أكثر من مرة للأراضي الإيرانية.
شواغل متعددة
تشكل المخاوف الأمنية وأولويات الداخل التركي محددًا رئيسيًا، لموقف أنقرة من التصعيد خاصة في سوريا، وذلك على النحو التالي:
(&) خارطة النفوذ في سوريا: رغم انتزاعه الورقة السورية في الانتخابات الرئاسية الماضية، يتخوف الرئيس التركي من بطء عملية التطبيع مع الحكومة السورية، في الوقت الذي يقترب فيه شبح التصعيد من دمشق والمخاوف من تفجر الصراع بمناطق الشمال السوري. ويأتي خيار التطبيع الكامل مع الحكومة السورية وإبعاد خطر تشكيل جيب حدودي لأكراد سوريا بعد فشل الخيار العسكري في تحقيق أهداف أنقرة بإنشاء سياج أمني بعمق 30 كيلومترًا داخل الحدود السورية، وأجهضت الولايات المتحدة إطلاق عملية عسكرية خامسة لوحت بها تركيا عدة مرات منذ عام 2021، والتي قد تكون وشيكة حال اعتزام "الإدارة الذاتية" لشمال شرق سوريا إجراء الانتخابات التي تأجلت في أغسطس الماضي لأجل غير مسمى.
ويُعظَّم الرئيس التركي من مخاطر الوجود المحتمل لجيش الاحتلال الإسرائيلي في سوريا، ما يؤثر على مصالح بلاده عبر تهديد وحدة الأراضي السورية وتعزيز فرص إحياء المشروع الكردي السوري، فضلًا عن تورط أنقرة بالصراع بين فصائل وتنظيمات شمال غرب سوريا من جهة والحكومة السورية من جهة أخرى، ما يعني تفاقم أزمة اللاجئين السوريين بتدفق أعداد جديدة باتجاه الأراضي التركية، إلى جانب تهديد موقع تركيا في التوازن الإقليمي المقبل.
(&) مواجهة الوحدات الكردية: وجهت القيادة التركية رسائل متعددة للشركاء الدوليين بشأن حزب العمال الكردستاني و"وحدات حماية الشعب" التي تعتبرها أنقرة الذراع السوري لحزب العمال، إذ طالب وزير الخارجية هاكان فيدان الولايات المتحدة وبريطانيا بوقف التعاون مع الحركة باعتبارها تنظيمًا إرهابيًا. وتنشر تركيا آلاف الجنود في عدد من النقاط والقواعد العسكرية في شمال العراق وسوريا، منها نحو 10 آلاف جندي في شمال العراق، حسب تقديرات المعهد الألماني للشئون الدولية والأمنية "SWP".
وتعد دعوة الرئيس التركي لكل من روسيا وإيران وسوريا لاتخاذ إجراءات ضد "التنظيمات الإرهابية المدعومة من أمريكا" حفاظًا على وحدة وسلامة الأراضي السورية، على الحسابات التركية المعقدة في مواجهة الوحدات الكردية، إذ واجهت تركيا في السابق ضغوطًا من الجانبين الروسي والأمريكي حدّت من نتائج العمليات العسكرية في شمال شرقي سوريا.
(&) توحيد الجبهة الداخلية: شهدت الساحة السياسية التركية بوادر انفراجة سياسية في الملف الكردي مطلع أكتوبر الجاري، بدأها زعيم حزب الحركة القومية دولت باهشلي، شريك حزب العدالة والتنمية الحاكم في "تحالف الشعب"، بمصافحة "تاريخية" لنواب حزب الديمقراطية والمساواة بين الشعوب الكردي، في افتتاح الفصل التشريعي الجديد للبرلمان. وقدم باهشلي دعوة لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان بإعلان تخلي عناصر الحزب عن السلاح و"إنهاء الإرهاب وتصفية التنظيم"، وهو ما عبر عنه الأخير عقب لقاءه يوم الخميس 24 أكتوبر 2024 في سجن آمرلي مع النائب عن حزب الديمقراطية والمساواة بين الشعوب عمرو أوجلان باستعداده للانتقال إلى السياسة "إذا توافرت الظروف"، حسب صحيفة زمان التركية.
وتزامن ذلك التوجه مع زيارة رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني لأنقرة منتصف الشهر الجاري، في ظل دور مؤثر لعائلة بارزاني في المحادثات بين أكراد تركيا والحكومة التركية، على غرار زيارة زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني لديار بكر أكبر المدن الكردية بالجنوب التركي في 2013، وإعلان دعمه لرئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان.
ويتصل التوجه الجديد نحو المكون الكردي في ظل سعي التحالف الحاكم (315 مقعدًا) للذهاب إلى دستور جديد للبلاد، يُرسِّخ في أحد مواده المقترحة النظام الرئاسي، خلافًا لتوجه المعارضة التي تسعى للعودة إلى النظام البرلماني، ويتطلب تمرير التعديلات الدستورية عبر البرلمان الحصول على 400 صوت، بينما يتطلب طرحها للاستفتاء الشعبي الحصول على 360 صوتًا، وهو ما يتطلب دعمًا من الأحزاب الصغيرة بعد فشل المحادثات مع حزب المعارضة الرئيسي "الشعب الجمهوري" حول مشروع الدستور الجديد، كما يعزز إرث الرئيس أردوغان بإنهاء الملف الكردي حال إعادة انتخابه لولاية رابعة.
وإجمالًا؛ تستثمر تركيا في لحظة التصعيد الإقليمي الراهن بتعزيز استقرار الداخل التركي ودفعه بعيدًا عن تأثير البيئة الإقليمية المضطربة، ومن المحتمل أن تستمر تلك المحاولات لخلق مسار جديد يضمن فصل الحالة الكردية في تركيا عن محيطها في سوريا والعراق رغم الهجوم الإرهابي الأخير. ومع حالة عدم اليقين بشأن الوضع في سوريا، تسعى أنقرة لتسريع خطى التطبيع مع دمشق والتخلص من مشروع إنشاء كيان كردي على حدودها الجنوبية. ومع استمرار المواجهة الإسرائيلية الإيرانية تتعزز الخسائر التركية في ظل حالة عدم اليقين بشأن الدور الأمريكي بالشمال السوري وموقفها الداعم لـ"قسد" ومكونها الكردي "وحدات حماية الشعب"، فضلًا عن مساعيها للتطبيع مع سوريا التي ترتبط بعوائق أمنية وسياسية في كيفية التعامل مع الفصائل والتنظيمات التي ترفض عودة العلاقات وبسط الحكومة سيطرتها على كافة مناطق الشمال السوري.