تتواصل الأزمة السياسية الحادة في فرنسا، والتي تعد الأسوأ في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يستعد لتعيين رئيس وزراء جديد هذا الأسبوع، في محاولة لإنقاذ ما بقي من المشهد السياسي المعقد، بعد إسقاط حكومة ميشيل بارنييه في تصويت لحجب الثقة، الأسبوع الماضي.
وكشفت مصادر حكومية لوكالة "فرانس برس" عن مساعٍ حثيثة لتشكيل حكومة جديدة، إذ من المتوقع أن يعلن ماكرون عن اسم رئيس الوزراء الجديد اليوم الخميس، عقب عودته من زيارة بولندا.
وعقد ماكرون سلسلة من اللقاءات المكثفة مع قادة الأحزاب السياسية من مختلف التوجهات، باستثناء التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان وحزب فرنسا الأبية اليساري بقيادة جان لوك ميلانشون.
وتهدف هذه المشاورات إلى تشكيل ما أطلق عليه "حكومة مصلحة وطنية" قادرة على تجاوز الانقسامات الحالية وتحقيق الاستقرار السياسي المنشود.
ويأتي هذا التحرك في وقت حساس، إذ شهد البرلمان الفرنسي منذ الانتخابات المبكرة في يونيو الماضي انقسامًا حادًا بين ثلاث كتل رئيسية، دون أن تتمكن أي منها من تحقيق الأغلبية المطلقة.
ورغم حصول التحالف اليساري على أكبر عدد من الأصوات، لم يتمكن من تشكيل أغلبية برلمانية، في حين تكبدت كتلة ماكرون الوسطية خسائر فادحة، وحقق التجمع الوطني اليميني مكاسب ملموسة، لكنه ظل بعيدًا عن السلطة بفضل التصويت التكتيكي من قبل قوى اليسار والوسط.
صورة قاتمة
وفي آخر اجتماع لمجلس الوزراء، قدم رئيس الوزراء المنتهية ولايته ميشيل بارنييه صورة قاتمة عن الوضع في فرنسا، ونقلت صحيفة لوموند الفرنسية عنه تحذيره الشديد من "انقسامات اجتماعية وإقليمية وريفية" تهدد النسيج المجتمعي الفرنسي.
وأشار إلى وجود "شعور عميق بالتخلي" لدى شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي، خاصة في ما يتعلق بقضايا العدالة والتعليم ومكافحة الجريمة والرعاية الصحية والزراعة.
وشدد على أن مسألة الدين العام الفرنسي تمثل "واقعًا صعبًا" سيتعين على أي حكومة جديدة التعامل معه بجدية وحكمة.
خيارات صعبة
وفي ظل هذه الظروف المعقدة، كشفت مود بريجون، المتحدثة باسم الحكومة المنتهية ولايتها، عن مسارين محتملين للخروج من الأزمة، أولهما توسيع التحالف القائم بين الوسط واليمين ليشمل شخصيات وقوى من اليسار، في محاولة لبناء تحالف أوسع وأكثر استقرارًا.
أما المسار الثاني، والذي يبدو أكثر تعقيدًا، فيتمثل في التوصل إلى اتفاق مع أحزاب المعارضة اليسارية يضمن عدم دعمها لأي محاولات لحجب الثقة عن الحكومة الجديدة، حتى وإن لم تشارك بشكل مباشر في تشكيلها.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تواجه فرنسا تحديات عاجلة تتطلب وجود حكومة قوية وفاعلة، وفي هذا السياق اتخذت الحكومة المنتهية ولايتها خطوة استباقية بإعداد مشروع قانون خاص يهدف إلى ضمان استمرارية تحصيل الضرائب مع بداية العام الجديد، تجنبًا لأي شلل في المؤسسات الحكومية.
وسيكون على عاتق الحكومة الجديدة -فور تشكيلها- مهمة تتمثل في إعداد وتمرير قانون موازنة لعام 2025 يحظى بموافقة البرلمان المنقسم.
تداعيات محتملة
ووفقًا لتحليل نشرته وكالة بلومبرج، فإن الاضطرابات السياسية الحالية ألقت بظلال كثيفة على ثقة قطاع الأعمال في فرنسا، ويحاول ماكرون، تجاوز هذه الأزمة، ببناء ائتلاف من القوى المعتدلة يمكنه الاستمرار حتى عام 2027، وذلك في مسعى لتحرير حكومته من الضغوط التي يمارسها التجمع الوطني بقيادة مارين لوبن.
وفي موقف يعكس حدة الانقسامات السياسية، عبر زعيم الحزب الاشتراكي أوليفييه فور عن معارضته القوية لاحتمال تعيين فرانسوا بايرو، حليف ماكرون الوسطي البالغ من العمر 73 عامًا، في منصب رئيس الوزراء.
وأكد فور، في تصريحات لقناة BFMTV، أن تعيين بايرو سيمثل مجرد استمرار للسياسات الحالية، مشددًا على ضرورة اختيار شخصية من اليسار لقيادة الحكومة المقبلة.
قبضة لوبان
وكشف بلومبرج عن استراتيجية أعمق للرئيس الفرنسي، تتمثل في محاولة تحرير أي حكومة مقبلة من القبضة السياسية المتنامية لزعيمة التجمع الوطني مارين لوبان، وأشار مصادر إلى أن ماكرون يعمل على تشكيل ائتلاف قوي من الأحزاب المعتدلة يمكنه الصمود حتى عام 2027، في محاولة واضحة لتقويض النفوذ المتزايد للتجمع الوطني في المشهد السياسي الفرنسي.
ويأتي هذا التحرك في وقت حققت فيه لوبان مكاسب سياسية ملحوظة في البرلمان، ما يشكل تهديداً متناميًا لسياسات ماكرون وتوجهاته الأوروبية.
وتعتمد استراتيجية ماكرون على بناء تحالفات واسعة تجمع القوى السياسية من الوسط واليمين المعتدل، مع محاولة استقطاب بعض القوى اليسارية المعتدلة، في مسعى لتشكيل جبهة سياسية قوية تستطيع مواجهة التحديات التي يفرضها صعود التجمع الوطني.