في سابقة تعد الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية الخامسة، وجدت فرنسا نفسها أمام وضع سياسي استثنائي بعد سقوط حكومة ميشيل بارنييه، إثر تصويت بحجب الثقة في الجمعية الوطنية (البرلمان)، ما يطرح تساؤلًا محوريًا حول الصلاحيات المتبقية للحكومة المستقيلة وقدرتها على إدارة شؤون الدولة في هذه المرحلة الحساسة.
تصريف الأعمال
وأشارت صحيفة "إكسبريس" الفرنسية إلى تطور لافت بمفهوم "تصريف الأعمال" في التاريخ السياسي الفرنسي المعاصر، فبينما كانت الحكومات المستقيلة في الجمهورية الخامسة لا تستمر في منصبها سوى لأيام معدودة، لا تتجاوز 9 أيام كحد أقصى، شهدت فرنسا مؤخرًا تحولًا جذريًا مع حكومة جابرييل أتال التي استمرت في تصريف الأعمال لمدة ثمانية أسابيع، من 16 يوليو حتى 5 سبتمبر، حتى تم تعيين بارنييه.
هذا التغيير الجوهري في المدة الزمنية أدى إلى تطور في تفسير صلاحيات الحكومة المستقيلة، إذ أشارت الأمانة العامة للحكومة إلى أنَّه كلما طالت فترة تصريف الأعمال، اتسع نطاق تفسير صلاحيات الحكومة المستقيلة لضمان استمرارية عمل الدولة.
ومع ذلك، تؤكد السوابق التاريخية أنه لم تقدم أي حكومة مستقيلة مشروعات قوانين جديدة خلال فترة تصريف الأعمال، نظرًا لحساسية أي إجراء تشريعي من الناحية السياسية، وعدم ملاءمة اللجوء إلى البرلمان في وقت يكون فيه مجردًا من أهم صلاحياته المتمثلة في إمكانية إسقاط الحكومة.
نطاق الصلاحيات والمسؤوليات
ووفقًا لـ"إكسبريس"، تدخل حكومة ميشيل بارنييه المستقيلة في مرحلة "تصريف الأعمال"، وهي فترة تتمتع خلالها بصلاحيات محددة بدقة.
وتستند هذه الصلاحيات إلى مذكرة أساسية صادرة عن الأمانة العامة للحكومة الفرنسية، تحدد الإطار القانوني والعملي للحكومة المستقيلة.
وتنص المذكرة على استمرار الحكومة في منصبها، لكن مع تقييد واضح لسلطاتها وقدرتها على اتخاذ قرارات جديدة أو إطلاق مبادرات سياسية.
وأوضحت الصحيفة أن الممارسة العملية لهذه الصلاحيات المحدودة تنقسم إلى شقين رئيسيين، أولهما يتعلق بالأعمال اليومية الروتينية التي لا تتطلب قرارات سياسية، والثاني يرتبط بالقضايا العاجلة التي تستدعي تدخلًا فوريًا.
وفي هذا السياق، يمكن للحكومة المستقيلة الاستمرار في إدارة المهام الإدارية اليومية، مثل دفع رواتب الموظفين، وتسيير المرافق العامة، وتنفيذ القرارات السابقة التي تم اتخاذها قبل الاستقالة.
القيود الدستورية والتنظيمية
وفي سياق متصل، كشفت "إكسبريس" عن تفاصيل مهمة تتعلق بالإجراءات التنظيمية والإدارية للحكومة المستقيلة، فحسب توجيهات الأمانة العامة للحكومة، فإن الإجراءات التنظيمية لا يمكن اتخاذها إلا في حالات استثنائية محددة بدقة.
وتشمل هذه الحالات الطوارئ، أو الكوارث الطبيعية، أو الاضطرابات الأمنية التي تهدد النظام العام، أو القضايا المتعلقة بتقنيات الاستخبارات والأمن القومي، وتعد هذه الحالات من "الضرورات الملحة" التي تستدعي تدخلًا سريعًا من الحكومة المستقيلة، حتى في ظل صلاحياتها المحدودة.
وفي المقابل، لا تتطلب الأعمال العادية التي تندرج ضمن "السير الطبيعي للدولة" أي تقييم سياسي، ما يجعلها ضمن نطاق عمل الحكومة المستقيلة.
وأشارت الصحيفة إلى أن هذا التمييز الدقيق بين الأعمال العادية والحالات الطارئة يهدف إلى ضمان توازن دقيق بين استمرارية عمل الدولة من جهة، واحترام المبادئ الدستورية من جهة أخرى، خاصة في ظل الوضع الاستثنائي الذي تمر به فرنسا حاليًا.
تحديات واسعة
تواجه الحكومة المستقيلة تحديًا كبيرًا يتمثل في التعامل مع الملفات المالية العاجلة، وخاصة مشروع قانون ميزانية الدولة لعام 2025.
وفي هذا الصدد، لفتت "أكسبريس" إلى وجود آلية قانونية تتيح للحكومة المستقيلة اتخاذ "إجراءات مالية عاجلة" لضمان استمرار تمويل الدولة، وتشمل هذه الإمكانية حق الحكومة في تقديم مشروع قانون مالي طارئ، أو حتى اللجوء إلى المراسيم في حال تجاوز المهلة الدستورية البالغة 70 يومًا لإقرار الميزانية.
وفي الجانب التشريعي، يؤدي وضع الحكومة المستقيلة إلى تجميد جميع مشروعات القوانين التي كانت قيد المناقشة في البرلمان، ويرجع ذلك إلى عدم قدرة الوزراء على الدفاع عن هذه النصوص أمام البرلمان في ظل وضعهم الحالي. ومع ذلك تبقى إمكانية استئناف النظر في هذه النصوص قائمة بمجرد تشكيل الحكومة الجديدة.
آليات الإدارة والتعيينات
أما في ما يتعلق بإدارة شؤون الدولة اليومية، فأوضحت الصحيفة الفرنسية أنَّ رئيس الجمهورية يحتفظ بحقه في عقد مجلس الوزراء، لكن بجدول أعمال مخفف يقتصر على القضايا الضرورية والملحة، كما يستمر في صلاحية إجراء التعيينات الإدارية، باستثناء المناصب ذات الطابع السياسي مثل مديري الإدارات المركزية.
وتخضع القرارات التنظيمية لقيود صارمة، إذ لا يتم اتخاذها إلا في حالات استثنائية تتعلق باستمرارية عمل الدولة أو لمواجهة حالات الطوارئ.
مستقبل غامض
نوهت الصحيفة بأن الوضع الحالي يضع فرنسا أمام تحدٍ غير مسبوق، خاصة مع الحاجة الملحة لتشكيل حكومة جديدة في ظل غياب أغلبية برلمانية مطلقة.
وتزداد حساسية الوضع مع عودة الوزراء النواب إلى مقاعدهم في الجمعية الوطنية، ما يخلق وضعًا قانونيًا وسياسيًا معقدًا، خاصة أنَّ الدستور يمنع الجمع بين المنصبين.
وتختتم الصحيفة بالإشارة إلى أنّ طول فترة تصريف الأعمال قد يؤدي إلى تفسير أكثر مرونة لصلاحيات الحكومة المستقيلة، كما حدث في تجارب سابقة، وذلك لضمان استمرار عمل مؤسسات الدولة بشكل فعال.