أثار فوز الرئيس المنتخب دونالد ترامب تساؤلًا رئيسيًا حول التأثيرات المحتملة لذلك الفوز على مستقبل العلاقات الأمريكية الروسية، لا سيما بعد أن ألمح إلى قدرته على وقف الحرب الروسية الأوكرانية خلال حملته الانتخابية، وكذلك انتقاده لحجم المساعدات التي تقدمها واشنطن إلى كييف.
ثمة اتجاه يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن سعت إلى استدراج روسيا للمستنفع الأوكراني لتحقيق هدفين رئيسيين:
الأول يرتبط بالحد من الصعود الروسي على مسرح السياسة الدولية من خلال استنزاف الاقتصاد الروسي في الحرب مع أوكرانيا ما يحمّل النظام الروسي بفاتورة حرب تعمّق من مشكلاته في الداخل.
الثاني وربما الأهم، فيرتبط بالحد من كثافة العلاقات الروسية الأوروبية، التي تزايدت وتيرتها بعد تدشين خطي الغاز نوردستريم 1 و2، اللذين كانا حال استمرارهما سيشكلان داعمًا لركائز شراكة استراتيجية روسية أوروبية تبدأ بالاقتصاد، وربما تمتد إلى العلاقات السياسية والأمنية، الأمر الذي كان يعني خروج أوروبا من تحت المظلة الأمنية الأمريكية، وهو التوجه الذي لا يزال يجد صداه حتى بعد انتخاب ترامب في الأصوات الأوروبية التي تطالب بأهمية الاستقلالية الأوروبية بدلًا من التبعية للولايات المتحدة الأمريكية.
متغيرات مؤثرة
هناك العديد من المتغيرات المؤثرة في مسار العلاقات الأمريكية الروسية، التي يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
(*) المتغيرات القيادية: هناك تصور لدى بعض المحللين بأن العلاقة الودية بين الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين قادرة على أن تُمكّن الولايات المتحدة الأمريكية من طرح تسويات ممكنة لتسوية الصراع الروسي الأوكراني. في المقابل ثمة اتجاه مغاير للرؤية السابقة ينطلق من أن العلاقات الشخصية بين ترامب وبوتين برغم أهميتها لا يمكنها إحداث تغييرات جذرية في الاستراتيجية الروسية إزاء أوكرانيا، التي تتعلق بالأمن القومي الروسي، فضلًا عن منع تمدد حلف شمال الأطلنطى على تخوم روسيا، الذي يعتبره بوتين نفسه تهديدًا مباشرًا لأمن بلاده القومي.
(*) الشراكة الروسية الصينية: تمثل الشراكة الروسية الصينية أحد المتغيرات المؤثرة في مستقبل العلاقات الأمريكية الروسية، حيث يعتبر الرئيسان بوتين وشي جين بينج أن الولايات المتحدة لا تزال تفكر من منظور الحرب الباردة وتسترشد بمنطق المواجهة بين الكتل، وتضع أمن المجموعات الضيقة، فوق الأمن والاستقرار الإقليميين بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ما يخلق تهديدًا أمنيًا لجميع دول المنطقة، مطالبين بضرورة تخليها عن هذا السلوك، لذلك اعتبر البيان الصادر عن لقاء القمة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينج في 4 فبراير 2022 -وذلك على هامش مشاركتهما في انطلاق فعاليات دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين- أن إعلان الشراكة الصينية الروسية يمثل بداية حقبة جديدة في العلاقات الدولية، وأن علاقات بكين وموسكو تفوق أي تحالف سياسي أو عسكري في زمن الحرب البادرة، وأن الشراكة بين الدولتين ليس لها حدود، وتشتمل على عدة جبهات من بينها الطاقة والفضاء وتغير المناخ، والذكاء الاصطناعي والتحكم في الإنترنت.
كما عبّر البيان عن قلق الدولتين من خطط واشنطن لتطوير نظام الدفاع الصاروخي العالمي، ونشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وفي أوروبا، داعيًا جميع القوى النووية إلى التخلي عن عقلية الحرب الباردة، وتقليص الاعتماد على ترسانتها النووية في سياساتها الأمنية، وسحب كل أسلحتها النووية المنتشرة خارج حدودها.
(*) الموقف الأوروبي: يشكّل الموقف الأوروبي متغيرًا مؤثرًا في مسار العلاقات الأمريكية الروسية، لا سيما فيما يتعلق بالموقف الأوروبي من الحرب الروسية الأوكرانية، التي كشفت بجلاء هشاشة الأمن الأوروبي أمام التحديات الخارجية، في ظل اعتماد أوروبا على 40% من استهلاكها على الغاز الروسي، وهو ما دفع العديد من الدول الأوروبية للبحث عن بدائل لتوفير الطاقة التي تشكل عصب التنمية للاقتصادات الأوروبية التي أثقل كاهلها اتجاه العديد من الدول نحو سباق تسلح محموم في القارة الأوروبية بالتأكيد سيكون لصالح الشركات الأمريكية التي تتميز في هذا المجال.
ومع تهديدات ترامب بضرورة تحمّل أوروبا لنفقات الدفاع عن أمنها، وفي حال اتجاه العلاقات الأمريكية الروسية نحو التحسن النسبي بعد عودة ترامب فإن الأمن الأوروبي سيصبح بين المطرقة الأمريكية والسندان الروسي، بما يدفع دول القارة الأوروبية للبحث عن ترجمة مقترحاتها لحماية أمنها، وفي مقدتها المقترح الفرنسي بتدشين جيش أوروبي مستقل بعيدًا عن التبعية الأمريكية ولمواجهة التحديات المتنامية وفي مقدمتها التهديد الروسي وفق الإدراك الأوروبي.
تداعيات محتملة
على خلفية المتغيرات السابقة، فإن مسار العلاقات الروسية الأمريكية وبعد عودة ترامب من المرجح أن يتجاذبه نمطان وهمها:
(&) النمط التعاوني: ويقوم ذلك النمط على ما يطرحه الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب من قدرته على وقف الحروب المنتشرة في أقاليم العالم المختلفة، كما يشير إلى أن لديه علاقات جيدة مع زعماء العالم ويمكنه التفاوض بطريقة فعالة، لذلك يعتقد العديد من المحللين بأن ترامب ربما يسعى إلى عقد مفاوضات مباشرة مع بوتين وزيلينسكي، مدعومًا بتعهدات أمنية أو تنازلات معينة روسية وأوكرانية، إضافة إلى إمكانية تراجعه عن دعم أوكرانيا بما يدفعها لمرونة أكبر مع روسيا تتيح للجانبين إمكانية التفاهم على نقاط الخلاف. وتدعيمًا لذلك قد يعرض ترامب إلغاء بعض العقوبات المفروضة على روسيا أو التخفيف من حدتها أو إعادة بعض الامتيازات الاقتصادية لروسيا مقابل وقف إطلاق النار وإحياء المفاوضات بين الطرفين.
(&) النمط الصراعي: يستند ذلك السيناريو إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعد من المطالبين بتعددية النظام الدولي، وهو ما يعني إزاحة الولايات المتحدة الأمريكية من على قمة النظام الدولي لصالح نظام دولي متعدد الأقطاب على أساس القانون الدولي والدور المركزي للأمم المتحدة، وليس على بعض القواعد التي توصل إليها طرف ما ويحاول فرضها على الآخرين دون توضيح ماهيتها، ويرفض بوتين الأحادية القطبية ويعتبرها قد اتخذت أخيرًا "شكلًا قبيحًا وغير مقبول على الإطلاق بالنسبة للغالبية العظمى من الدول على هذا الكوكب".
وفي ظل الشعار الذي يرفعه ترامب "أمريكا أولًا"، فإن ذلك التباين بين الموقفين الأمريكي والروسي، ربما يعزّز من النمط الصراعى بين واشنطن وموسكو لاسيما وأن البعض يرى أن تقديم تنازلات كبرى للروس قد يضعف موقف الولايات المتحدة وحلفائها.
مجمل القول؛ من المرجّح أن يسعى الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، التي كان لها تداعياتها الاقتصادية على أقاليم العالم كافة، غير أن ذلك السيناريو سيتوقف على طبيعة الضغوط التي سيمارسها سواء على روسيا أو على أوكرانيا، وكذلك طبيعة الحوافز التي يمكن أن يطرحها ليجمع الطرفين في مفاوضات تنهي صراع دخل عامه الثالث ولا تزال تداعياته مستمرة، لذلك ربما يكون النمط التعاوني للعلاقات الأمريكية الروسية هو المسار الأرجح في ظل تداخل وتعقّد التحديات العالمية.