تؤثر نتائج الانتخابات الأمريكية ليس على الداخل الأمريكي فقط، وإنما تمتد تداعياتها للخارج، لتصبح مؤثرة وحاسمة بالعديد من الملفات والقضايا الإقليمية والدولية. ويمكن القول إن منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي ربما هي الأكثر تأثرًا بنتيجة الانتخابات الأمريكية، بحكم العامل الجغرافي الذي من شأنه الارتباط الوثيق بين قضايا دول المنطقة والولايات المتحدة، وانعكاس توجهات وسياسات دونالد ترامب الفائز في الانتخابات على السياسات الأمريكية تجاه العديد من دول أمريكا اللاتينية.
وشهدت الأشهر الماضية حضورًا قويًا لقضايا أمريكا اللاتينية ضمن قضايا السباق الانتخابي في الولايات المتحدة، وحاول كلٌّ من المرشحيْن الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطية كامالا هاريس، توظيف القضايا المتصلة بالدول اللاتنية التي تُهِم قطاعًا عريضًا من المواطنين الأمريكيين، خاصة مِمَن ينحدرون من أصول لاتينية، لمساعدتهما في الفوز بهذا السباق الذي تمكن ترامب من حسمه لصالحه. لذلك ترقبت دول أمريكا اللاتنية نتائج الانتخابات الأمريكية هذا الأسبوع بكل اهتمام، لما قد يترتب على هذه الانتخابات من استمرارية أو تغير في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه هذه الدول.
في هذا السياق، تُثار العديد من التساؤلات مثل: ما أهم قضايا أمريكا اللاتنية المتأثرة بإعادة انتخاب ترامب؟ وما هي سياسات ترامب المتوقعة تجاه تلك القضايا؟ وكيف يمكن تصنيف الدول اللاتنية وفقًا لتأثرها بإعادة انتخاب ترامب؟
ويمكن الإجابة على هذه التساؤلات عبر استعراض النقاط الرئيسة التالية:
قضايا متأثرة
سوف يؤثر فوز ترامب في دول أمريكا اللاتينية عبر مواقفه المستقبلية تجاه قضايا محورية عديدة لهذه الدول. فبناءً على سياسات ترامب وتوجهاته السابقة مع هذه الدول بشأن هذه القضايا، يمكن رصد بعض الجوانب المحتملة لتأثير فوزه في الانتخابات الأمريكية 2024:
(*) قضايا الهجرة وأمن الحدود: يميل ترامب إلى تشديد سياسات الهجرة، ما قد يؤثر على المهاجرين من دول أمريكا اللاتينية، خاصةً المكسيك ودول أمريكا الوسطى، لذلك قد يُعاد تفعيل سياسات صارمة مثل برنامج "البقاء في المكسيك" أو الضغط على دول الجوار لتشديد حدودها.
من الجدير بالذكر هنا، إنهاء وزارة الداخلية الأمريكية هذا البرنامج منذ سبتمبر 2022، وتم تفكيك هذا البرنامج بطريقة سريعة ومنظمة، لأنه تضمن عيوبًا مزمنة، وفرض تكاليف غير مبررة. وخضع نحو 70 ألف مهاجر لسياسة هذا البرنامج، المعروفة رسميا باسم "بروتوكولات حماية المهاجرين"، منذ أن قدمها ترامب في يناير 2019 حتى علقها الرئيس جو بايدن في أول يوم له بمنصبه في يناير 2021، وفاءً لوعد قطعه في حملته الانتخابية. وسُمِح للكثيرين بالعودة إلى الولايات المتحدة لمتابعة قضاياهم خلال الأشهر الأولى لرئاسة بايدن. ويحتل المهاجرون من نيكاراجوا (العدد الأكبر) مع آخرين من كوبا وكولومبيا وفنزويلا، وجعل ترامب خلال ولايته الأولى هذه السياسة حجر الزاوية في إنفاذ القانون على الحدود، والتي قال منتقدوها إنها غير إنسانية وتعرض المهاجرين للعنف الشديد في المكسيك.
(*) قضايا التجارة والاستثمار والتعاون الإقليمي: قد تقلل إدارة ترامب في ولايته المقبلة من استثماراتها في برامج التنمية والمساعدات لدول أمريكا اللاتينية، ما قد يؤدي إلى ضعف التعاون الاقتصادي ويحد من المشروعات المشتركة مع هذه الدول، وقد يسعى ترامب لإعادة التفاوض حول اتفاقيات التجارة الحرة، مثل اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA) بهدف حماية المصالح الاقتصادية الأمريكية. وهذا قد يضع ضغطًا على اقتصادات أمريكا اللاتينية التي تعتمد على الصادرات إلى الولايات المتحدة.
والجدير بالذكر هنا، سعى الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن إلى التقارب التجاري مع دول أمريكا اللاتنية، فقد دعا هذه الدول في نوفمبر 2023، إلى اختيار الاستثمارات الأمريكية الديمقراطية والشفافة بدلًا من سياسة "دبلوماسية فخ الديون" الصينية خلال استضافته لمسؤولي وممثلي 11 دولة شقّت فيها بكين طريقًا لها. فمع تراجع شعبية اتفاقيات التجارة الحرة في واشنطن، يعمل بايدن على الترويج لـ"شراكة الأمريكتين من أجل الرخاء الاقتصادي"، وهو إطار عمل يركّز على تشجيع الأعمال التجارية وإعادة توجيه سلاسل التوريد بعيدًا من الصين.
(*) قضايا السياسة الخارجية: كانت إدارة ترامب في ولايته الأولى، تركز على فرض العقوبات الاقتصادية والسياسية على بعض الدول مثل فنزويلا وكوبا، وبالتالي قد يعيد ترامب تعزيز هذه السياسات، وهو الأمر الذي الذي قد يزيد من عزلة تلك الدول، وقد يؤدي إلى بها إلى المزيد من التقارب بين تلك الدول وخصوم الولايات المتحدة مثل روسيا والصين.
إجمالًا، تعتمد التغيرات المستقبلية لسياسات ترامب تجاه تلك القضايا اللاتينية على مدى اهتمام ترامب بدول أمريكا اللاتنية، وما إذا كان سيتبنى مقاربة متشددة معها، أو إذا كان سيركز على قضايا الداخل الأمريكي ويترك لدول أمريكا اللاتينية هامشًا للتحرك ولعب دور أكبر في محيطها الإقليمي دون التدخل الأمريكي المباشر.
حدود الاستفادة:
مع فوز ترامب، قد تستفيد بعض دول أمريكا اللاتينية بشكل أكبر من غيرها، وذلك حسب سياسات ترامب وأولوياته في علاقاته معها، ومن بين هذه الدول ما يلي:
(*) كولومبيا: قد تستفيد كولومبيا من إعادة انتخاب ترامب، نظرًا لأن لها علاقة استراتيجية قوية مع الولايات المتحدة في قضايا مكافحة المخدرات والأمن، ولأنها حليف مهم في مواجهة نفوذ فنزويلا وكوبا في المنطقة. لذلك فمن المرجح، أن يواصل ترامب دعم كولومبيا في قضايا الأمن والتجارة.
(*) دول أمريكا الوسطى (هندوراس وجواتيمالا والسلفادور): قد يتجه ترامب إلى دعم هذه الدول ماليًا لتأمين حدودها واحتواء تدفقات المهاجرين. فقد يسعى ترامب إلى تقديم مساعدات مشروطة لهذه الدول لتعزيز استقرارها وتقليل الهجرة.
الانعكاسات السلبية المحتملة:
فوز ترامب قد لا يصب في مصلحة بعض هذه الدول، وذلك يرجع إلى استخدامه استراتيجية حازمة تجاه أمريكا اللاتينية غلب عليها التهديدات وفرض العقوبات. فقد ركز ترامب على قضايا معينة تعكس النهج الأحادي لإدارته، وعلى الأخص المحاولات الفاشلة للإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وإلغاء تطبيع الرئيس السابق باراك أوباما للعلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا، كما أوقف ترامب المساعدات الأمريكية لدول أمريكا الوسطى.
وبناءً على ماسبق، قد يؤثر فوز ترامب سلبًا في بعض دول أمريكا اللاتينية، خاصة تلك التي قد تتعارض سياساتها أو مصالحها مع توجهات ترامب، ومن بين الأكثر تضررًا الدول التالية:
(*) فنزويلا: من المتوقع أن تستمر إدارة ترامب في فرض عقوبات صارمة على الحكومة الفنزويلية، بل وربما تشديدها. وقد يركز ترامب على إضعاف النظام الحاكم هناك، خاصةً إذا استمرت فنزويلا في الاستعانة بخصوم الولايات المتحدة -مثل روسيا أو الصين- في الحصول على الدعم الاقتصادي والسياسي.
(*) كوبا: سبق أن فرض ترامب قيودًا صارمة على كوبا خلال ولايته الأولى، وقد يعيد تفعيل هذه السياسات. فمن المرجح أن تشدد إدارته العقوبات الاقتصادية على كوبا، وتقلص التبادلات التجارية والسياحية معها، ما سيؤثر سلبًا على اقتصاد كوبا الذي يعتمد بشكل كبير على السياحة والاستثمار الأجنبي.
(*) نيكاراجوا: قد تواجه نيكاراجوا المزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية إذا عاد ترامب للتركيز على فرض العقوبات ضد الأنظمة التي يعتبرها معادية. ويوجد في نيكاراجوا حكومة تميل إلى اليسار تحت قيادة دانييل أورتيجا، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تضييق اقتصادي ودبلوماسي على نيكاراجوا.
(*) الأرجنتين: قد لا يهتم ترامب بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع حكومة الأرجنتين ذات التوجهات اليسارية، ما قد يؤدي إلى تراجع في التعاون الاقتصادي والاستثماري معها، وإذا استمرت الأرجنتين تحت حكومة يسارية أو كانت سياساتها الاقتصادية تتعارض مع توجهات ترامب، فقد تتعرض لصعوبات في الحصول على دعم مالي من المؤسسات الأمريكية.
الحدود المتأرجحة:
يمثل فوز ترامب فرصة وتحديًا أو قد يجلب المكسب والخسارة في آن واحد لبعض الدول اللاتنية التي تأتي في مقدمتها كل من البرازيل والمكسيك. ويمكن توضيح ذلك في ما يلى:
(*) البرازيل: في انتقاد غير مباشر لترامب، اعتبر الرئيس البرازيلي الحالي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا -قبل ثلاث من إجراء الانتخابات الأمريكية- أن وصول كامالا هاريس إلى الحكم سيكون أمرًا جيدًا من أجل تعزيز الديمقراطية". ومع عودة ترامب إلى السلطة، فمن المرجح أن يستأنف سجله من السياسات القومية والحمائية، وهو يدافع عن اقتصاد أكثر انغلاقًا، ويعطى الأولوية للاتفاقيات التى تفيد المصالح الأمريكية بشكل مباشر. وقد يعنى هذا تحديات بالنسبة للبرازيل، خاصة في ما يتعلق بالتجارة الثنائية. ومن الممكن أن تؤدى تعديلات التعريفات والمعاهدات إلى خلق حالة من عدم اليقين بالنسبة لقطاعات التصدير، مثل الأعمال التجارية الزراعية والتعدين، التي تعتمد بشكل كبير على الصادرات إلى الولايات المتحدة.
هذا فضلًا عن تأثير العلاقة الوثيقة بين ترامب وإيلون ماسك التي قد تضيف طبقة من التعقيد إلى الموقف الأمريكى تجاه البرازيل. فيمكن لماسك، الذي انتقد المؤسسات البرازيلية علنًا التأثير على القرارات الاقتصادية أو التجارية أو الاستثمارية فى البرازيل، حيث إنه إذا اكتسبت انتقادات ماسك وزن أكبر مع دعم ترامب، فقد يؤدي ذلك إلى توليد توترات سياسية واقتصادية، ما يؤثر على ثقة المستثمرين ويؤدى إلى تقلبات في السوق البرازيلية.
أما عن استفادة البرازيل من فوز ترامب، فقد تأتي أيضًا من العلاقة بين ترامب وماسك التي قد تمثل فرصة للاقتصاد البرازيلي. فمع وجود ماسك على رأس الشركات المبتكرة، يمكن للبرازيل الاستفادة من الاستثمارات فى القطاعات الاستراتيجية، مثل التكنولوجيا والبنية التحتية، طالما تمكنت من مواءمة مصالحها مع توقعات هذه الشركات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العلاقة بين ترامب خلال فترة ولايته الأولى، والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو جيدة، إذ اتفق الطرفان في قضايا عدة، مثل التجارة والبيئة والسياسات المناهضة للتدخل الحكومي.
(*) المكسيك: قد يسعى ترامب لتعزيز التعاون الاقتصادي مع المكسيك، خاصة إذا استمر في إعطاء الأولوية للاستثمارات في أمريكا الشمالية ضمن إطار اتفاقية التجارة الحرة (USMCA). ومن شأن هذا استفادة المكسيك من الناحية الاقتصادية.
فعلى الرغم من إمكانية استفادة المكسيك من التعاون التجاري، إلا أن سياسات ترامب الصارمة تجاه الهجرة قد تؤدي إلى توتر العلاقات معها. وقد يعيد ترامب تبني سياسات مثل بناء الجدار الحدودي وتمديد الاتفاقيات التي تجبر المكسيك على استضافة طالبي اللجوء، وهو ما يشكل ضغطًا سياسيًا واقتصاديًا على المكسيك.
إجمالًا، يمكن القول إن الدول للاتينية التي تتبنى سياسات تتوافق مع نهج ترامب خاصة في الجوانب الاقتصادية والأمنية، قد تحقق استفادة أكبر من علاقاتها مع الولايات المتحدة خلال فترة ولاية ترامب الثانية. أما الدول اللاتينية التي تميل إلى اليسار أو تعارض سياسات الولايات المتحدة قد تكون الأكثر تضررًا من فوز ترامب، إذ يمكن أن يواجه اقتصادها ضغوطًا بسبب العقوبات أو تراجع الدعم والمساعدات الأمريكية. وهناك بعض الدول اللاتنية التي قد يجلب له فوز ترامب بعض الضرر مع بعض الاستفادة، كما هو في حالة كلٍّ من البرازيل والمكسيك.