بإعلان فوز دونالد ترامب المرشح الجمهوري بمنصب الرئيس الأمريكي السابع والأربعين، يُثار تساؤل رئيسي حول مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية، بعد أن أبدت الصين أملها في "تعايش سلمي" مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد اختيار ترامب، إذ أكدت الناطقة باسم الخارجية الصينية ماو نينج، 6 نوفمبر 2024، مواصلة مقاربة العلاقات الصينية الأمريكية، وإدارتها على أساس مبادئ الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون للمنفعة المتبادلة، وأضافت أنها تحترم خيار الشعب الأمريكي.
واعتبر دونالد ترامب نفسه صنع التاريخ بهزيمته لكامالا هاريس، مُرشحة الحزب الديمقراطي، بحصوله على أكثر من 270 من أصوات المجمع الانتخابي، وهي العتبة الضرورية لإعلان فوزه، فيما توقع ترامب في خطابه إعلان الانتصار الذي ألقاه في ولاية فلوريدا، 6 نوفمبر 2024، الحصول على 315 من أصوات المجمع الانتخابي بعد أن نجح في الفوز بالولايات المتارجحة، كما قال ترامب في ذلك الخطاب: "تجاوزنا عقبات لم يتخيلها أحد وحققنا انتصارًا لم تره أمريكا من قبل.. أمريكا أعطتنا تفويضًا غير مسبوق بعد نتائج الانتخابات واستعادة مجلس الشيوخ، ونتجه للاحتفاظ بالسيطرة على مجلس النواب".
وإذا كان ترامب يعتبر نفسه صنع التاريخ بعد أن نجح الجمهوريون في الهيمنة على مفردات المشهد السياسي الأمريكي باستعادة منصب الرئيس، واستعادة كذلك السيطرة على مجلس الشيوخ للمرة الأولى بعد أربع سنوات من الأغلبية للديمقراطيين، فإن ذلك سيعطي ترامب الفرصة الكاملة لتنفيذ برنامجه الانتخابي دون عقبات سواء على المستوى الداخلي فيما يتعلق بالاقتصاد والهجرة والرعاية الصحية، أو على المستوى الخارجي وفي مقدمتها العلاقة مع الصين، وعلاقاته بالحلفاء، ووعوده بوقف الحروب وصنع السلام في مناطق العالم المختلفة.
ثمة إجماع بين الجمهوريين على مركزية التهديد الصيني للهيمنة الأمريكية وللمصالح الاقتصادية بشكل عام في ظل النمو المطرد للاقتصاد الصيني، الذي أضحى ينافس الاقتصاد الأمريكي داخل الولايات المتحدة ذاتها. ويعمق من ذلك التهديد أن هناك تيارًا سائدًا في البلاد ينظر إلى الصين باعتبارها القوة العظمى المقبلة في المستقبل المنظور في ظل ما تمتلكه من قدرات وإمكانات اقتصادية وتكنولوجية هائلة، وهو الأمر الذي جعل الحزبين الديمقراطي والجمهوري يعتبران الصين خصمًا رئيسيًا، بما أسهم في تنوع الجدل حول كيفية الحد من الصعود الصيني وآليات مواجهته، بما يحول دون تهديد الهيمنة الأمريكية.
جدل أمريكي
يتبلور داخل المشهد الأمريكي مساران رئيسيان بشأن السياسة الأمريكية إزاء الصين:
(*) التيار الأول؛ التعاون التنافسي: وهو التعبير الذي صكه عالم السياسة الدولية في جامعة هارفارد جوزيف ناي لوصف العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، باعتباره من ناحية يجمع بين حقيقة التنافس في العلاقة بين البلدين من حيث التكييف الاستراتيجي، والواقع الذي يغلب عليه الكثير من التعاون الذي تصاعد خلال العقود الأخيرة، ويرتكز على شبكة المصالح الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين "يمثلان معًا 40% من الناتج العالمي"، إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بينهما خلال 2022 ما يقرب من 690 مليار دولار، منها 536 مليار دولار صادرات صينية مقابل 154 مليار دولار صادرات أمريكية.
كما أن استثمارات الصين بحسب بيانات وزارة الخزانة الأمريكية تأتي في المرتبة الثانية ضمن قائمة كبار المستثمرين في سندات وأذون الخزانة الأمريكية، التي بلغت في يناير 2023 نحو 859.4 مليار دولار. وعبر تصريح وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، خلال زيارتها إلى الصين، أبريل 2024، عن حجم التداخل بين الاقتصادين وارتباطهما بالاقتصاد العالمي، قائلة "إن فصل أكبر اقتصادين في العالم من شأنه أن يزعزع استقرار الاقتصاد العالمي، وسيكون من المستحيل عمليًا القيام به".
كما عكس ذلك النهج تأكيد الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن، خلال لقائه الأول بالرئيس الصيني شي جين بينج على أنه بإمكان الصين والولايات المتحدة الأمريكية إدارة الخلافات والحيلولة دون تحول المنافسة إلى صراع وإيجاد سبل للعمل سويًا بشأن القضايا العالمية الملحة التي تتطلب التعاون المتبادل. هذه الركائز كررها الرئيس الصيني، 16 أكتوبر 2024، بالقول إن العلاقات الصينية الأمريكية هي واحدة من أهم العلاقات الثنائية بالعالم، التي تؤثر على رفاهية الشعبين ومستقبل البشرية، مشددًا على أن الصين والولايات المتحدة يجب أن تعملا كداعم لتنمية كل منهما وليس كعائق، وأن بكين مستعدة للعمل مع واشنطن كشركاء وأصدقاء.
(*) التيار الثاني؛ الصدامي: يتبنى ذلك التيار ضرورة وقف الصعود الصيني المتنامي والتعامل الصارم مع الصين وتقييد دورها العالمي، فقد انتقد ترامب خلال ولايته الأولى السياستين النقدية والعسكرية للصين، واتهم بكين بأنها تخفض سعر عملتها لمنافسة الشركات الأمريكية بشكل أفضل، وبأنها تبني مجمعًا عسكريًا ضخمًا في بحر الصين الجنوبي.
تداعيات محتملة
تتنوع التداعيات المحتملة لفوز ترامب على مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية، التي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
(&) الصراع على قمة النظام الدولي: يمثل الشعار الذي يرفعه دونالد ترامب وهو "أمريكا أولًا"، رغبة في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية كقطب دولى مؤثر في تفاعلات النظام الدولي، وهو ما يعني أن ترامب سيواجه ما تطرحه القوى الكبرى من سعيها نحو تعددية النظام الدولي القائم على تنوع وتعدد الأقطاب وفي مقدمتها الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، لذلك من المحتمل أن يستمر ترامب في دعم التحالفات الأمريكية التي تشكلت في منطقة الإندوباسيفيك وأبرزها تحالف أوكوس، الذي تشكل منذ سبتمبر 2021، ويضم كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا، وهدف إلى تزويد أستراليا بغواصات تعمل بتكنولوجيا نووية بهدف مواجهة الصعود الصيني، واعتبرت الصين ذلك التحالف بمثابة عودة لعقلية الحرب الباردة.
(&) العلاقات التجارية: أوضح ترامب خلال حملته الانتخابية أنه يعتقد أن التغييرات الكبرى في السياسة الخارجية للولايات المتحدة ضرورية، لذلك يعتقد الكثير من محللي السياسة الخارجية بأن التهديد الأكثر وضوحًا لترامب فيما يتعلق بالسياسة الخارجية ترتبط بخططه لفرض تعريفة جمركية عالمية بنسبة 20% على جميع الواردات الأجنبية، وقد تكون الرسوم الجمركية على الصين هي الأعلى والأهم، مع تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 60% على جميع البضائع الصينية التي تدخل الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى تلويحه بفرض حظر جديد على الاستثمار الأمريكي الصيني في كلا الاتجاهين، ووعده بإبقاء الصين خارج الصناعات الأساسية الأمريكية، والتأكد من أن الأموال الأمريكية لا تساعد على دعم وصعود الصين.
(&) استمرار حرب الرقائق: أطلق ترامب خلال ولايته الأولى حربًا تجارية شرسة مع الصين، وفرض رسوم جمركية باهظة على البضائع الصينية ردًا على ممارسات غير عادلة من جانب بكين منها على سبيل المثال سرقة التقنيات الأمريكية، والتلاعب بالعملة الصينية، لذلك من المرجح تشديد القيود المفروضة على شركات التكنولوجيا الصينية في قطاعات الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والاتصالات، وربما ستعمل إدارة ترامب على توجيه ضربات مؤثرة لشركات التكنولوجيا الصينية، ومنها احتمالية فرض عقوبات على بعض حلفاء واشنطن إذا أفرطوا في استخدام التكنولوجيا الصينية، وفقًا للعديد من المحللين الاقتصاديين.
وتجدر الإشارة إلى أن جو بايدن اتجه إلى تشديد إجراءات حصول الصين على المواد الخام اللازمة لتصنيع الرقائق الإلكترونية، إذ ضغطت إدارته على اليابان، وهولندا للانضمام إلى الولايات المتحدة في تقييد بيع معدات تصنيع الرقائق الرئيسية إلى الصين.
مجمل القول تتزايد التوقعات بأن العلاقات الأمريكية الصينية، خلال الفترة الرئاسية الثانية، لترامب سيطغى عليها الطابع الصراعي على المستوى الاقتصادي، وهو ما سيكون له تداعياته المباشرة على الاقتصاد العالمي، الذي يعاني تحديات مُعقدة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ويظل الوعد الأبرز لترامب هو إطفاء الحروب واستعادة السلام في مناطق العالم المختلفة.