تواجه فرنسا أزمة مالية حادة تهدد استقرارها الاقتصادي ومكانتها في الاتحاد الأوروبي، ليجد رئيس وزرائها ميشيل بارنييه، نفسه في موقف صعب للغاية، إذ يتعرض لضغوط متزايدة من داخل معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون لتجنب رفع الضرائب، رغم الحاجة الملحة لتقليص العجز في الميزانية.
صراع داخلي
وكشفت صحيفة "بوليتيكو" عن وجود معارضة قوية داخل الحزب الحاكم لأي خطط محتملة لرفع الضرائب، وفي مقدمة هذه المعارضة يأتي وزير الداخلية المنتهية ولايته جيرالد دارمانان، الذي صرح بشكل حاسم في مقابلة مع قناة "فرانس 2" قائلًا: "من المستحيل بالنسبة لنا الانضمام إلى حكومة ترفع الضرائب"، ما يعكس حجم التحدي الذي يواجهه بارنييه في محاولته لضبط الميزانية.
وأضاف دارمانان، وفقًا لما ذكرته بوليتيكو، أن بارنييه ناقش إمكانية زيادة الضرائب في اجتماع خاص، ما يشير إلى وجود توتر داخلي حول السياسة المالية للحكومة الجديدة، ويضع بارنييه في موقف حرج، إذ يبدو أنه يسير على حبل مشدود بين الضرورة الاقتصادية والواقع السياسي.
لم يقتصر الأمر على دارمانان وحده، إذ نقلت بوليتيكو أيضًا عن رئيس الوزراء السابق جابرييل أتال تعبيره عن قلقه الشديد بشأن خطط بارنييه.
في رسالة خاصة موجهة لأعضاء مجموعته البرلمانية، قال "أتال" إنه "غير مطمئن بشكل خاص بشأن احتمال زيادة الضرائب" رغم عقده عدة اجتماعات مع بارنييه، ما يكشف عن عمق الانقسام داخل الحزب الحاكم حول كيفية معالجة الأزمة المالية.
دفاع بارنييه
في مواجهة هذه الانتقادات الحادة، سارع مكتب بارنييه للرد، مؤكدًا خطورة الوضع المالي الفرنسي، إذ قال في بيان نقلته بوليتيكو: "هذا الوضع يستحق أكثر من مجرد ثرثرة، إنه يتطلب المسؤولية".
وأشار إلى حقيقة مهمة: "نحن بالفعل نتحمل أعلى عبء ضريبي في العالم"، ما يعكس محاولة رئيس وزراء فرنسا للموازنة بين الضغوط السياسية والحقائق الاقتصادية الصعبة، فمن جهة يحاول تهدئة مخاوف حلفائه السياسيين، ومن أخرى، يسعى لتهيئة الرأي العام لاحتمال اتخاذ إجراءات صعبة لمعالجة العجز المالي.
وكانت بوليتيكو أشارت سابقًا إلى أن بارنييه صرح بأنه سينظر في تغييرات ضريبية لوقف تضخم الدين الفرنسي الهائل.
ومع ذلك، نقلت الصحيفة عن وزير سابق من معسكر ماكرون قوله إن طرح فكرة ضرائب جديدة قد يكون تكتيكًا سياسيًا من بارنييه "لبدء التودد إلى اليسار" وكسب دعمه.
أزمة الدين الفرنسي
تكشف الأرقام الرسمية عن عمق الأزمة المالية التي تواجهها فرنسا، فوفقًا لما ذكرته بوليتيكو نقلًا عن وزارة المالية الفرنسية، قد يصل الدين الفرنسي إلى 5.6% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.
وتتجاوز هذه النسبة بشكل كبير الحد الأقصى البالغ 3% الذي تفرضه قواعد الإنفاق في الاتحاد الأوروبي، ما يضع فرنسا في موقف حرج أمام شركائها الأوروبيين.
وأشارت الصحيفة إلى أن فرنسا تخضع بالفعل لما يسمى بـ "إجراء العجز المفرط" لانتهاكها هذه القواعد العام الماضي، ما يعني أنها قد تواجه غرامات مالية كبيرة إذا فشلت في خفض العجز بشكل ملموس في المستقبل القريب، ما يزيد من الضغط على الحكومة الجديدة لاتخاذ إجراءات سريعة وفعالة.
وعلى الرغم من الوعود السابقة للحكومة بخفض العجز إلى أقل من 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، فإن المؤسسات المالية الفرنسية تشكك في إمكانية تحقيق هذا الهدف، إذ نقلت بوليتيكو عن كل من محافظ البنك المركزي الفرنسي فرانسوا فيلوروا دي جالو، ورئيس محكمة التدقيق الفرنسية بيير موسكوفيتشي، تصريحات تفيد بأنه سيكون من المستحيل على فرنسا الوفاء بأي وعود لتسوية ميزانيتها بسهولة بحلول عام 2027.
رفع "المحرمات"
وفي تطور لافت للنظر، قال الاقتصادي الفرنسي فيلوروا دي جالو، في مقابلة مع صحيفة "لو باريزيان"، إن التخفيضات الضريبية التي تم تنفيذها خلال فترة حكم ماكرون هي جزء من المشكلة، مضيفًا أن فرنسا يجب أن تنظر في فرض ضرائب أعلى على الشركات الكبرى والأفراد الأثرياء.
وفي تصريح جريء يعكس حجم الأزمة، قال محافظ البنك المركزي: "سيتعين علينا رفع المحرمات عن زيادة الضرائب"، ما يشير إلى أن بعض صناع القرار الاقتصادي في فرنسا يرون أن زيادة الضرائب قد تكون ضرورية لمعالجة العجز المالي
خيارات محدودة
يواجه بارنييه، وفقًا لما ذكرته بوليتيكو، مواعيد نهائية ضيقة لوضع اللمسات الأخيرة على الميزانية الفرنسية لعام 2025، وبالتوازي مع ذلك، عليه إرسال خطة موثوقة لخفض الدين ومقترحات الإصلاح للعام المقبل إلى المفوضية الأوروبية لخفض مستويات الدين الفرنسي المرتفعة بشكل مقلق.
هذه المهمة المزدوجة تضع بارنييه في موقف صعب للغاية، فمن ناحية، هناك ضغوط أوروبية لخفض العجز وتقليص الدين، ومن أخرى، هناك معارضة داخلية شديدة لأي زيادة في الضرائب.
وبين هذا وذاك، يجد بارنييه نفسه مطالباً بإيجاد حلول إبداعية لتحقيق التوازن المالي دون إثارة غضب حلفائه السياسيين أو الرأي العام الفرنسي.