تشهد فرنسا تغييرات في موازين القوى السياسية قد تغير وجه أوروبا، فبعد سنوات من الهيمنة الوسطية بقيادة إيمانويل ماكرون، يبدو أن الرياح تهب بقوة في اتجاه معاكس، حاملة معها أصداء صعود مدوٍ لليمين المتطرف، ما يضع الرئيس الشاب أمام أصعب اختبار في مسيرته، ويفتح الباب أمام سيناريوهات كانت تبدو مستحيلة قبل أشهر قليلة.
صدمة الانتخابات
في تطور مذهل هز أركان الساحة السياسية الفرنسية، حقق حزب التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان نتائج غير مسبوقة في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية، فوفقًا لتحليلات نشرتها صحيفة "بوليتيكو"، حصل الحزب على 33.2% من الأصوات، ما يضعه في موقع قوي للفوز بما بين 230 و280 مقعدًا في البرلمان.
هذه النتيجة المذهلة تقترب بشكل خطير من عتبة الأغلبية المطلقة البالغة 289 مقعدًا، ما يفتح الباب أمام سيناريو كان يعتبر من قبيل الخيال السياسي، وهو إمكانية تشكيل حكومة يمينية متطرفة للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة.
تحول جذري
يرى المحللون السياسيون أن هذه النتائج تمثل نقطة تحول محورية في تاريخ فرنسا السياسي المعاصرـ إذ صرّح برونو كوتريس، المحلل البارز في معاهد العلوم السياسية، لصحيفة "بوليتيكو" قائلًا: "يمكننا القول بوضوح إن عملية إزالة السمية عن التجمع الوطني تصل إلى مراحلها النهائية"، ما يشير إلى نجاح استراتيجية مارين لوبان في تلميع صورة حزبها وتخفيف حدة خطابه المتطرف، ما مكنه من اختراق شرائح جديدة من الناخبين كانت تنفر منه في السابق.
ويضيف كوتريس: "لقد فاز حزب لوبان في انتخابات البرلمان الأوروبي ثلاث مرات متتالية، ووصلت مارين لوبان مرتين إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، إذا فازوا الآن في ثاني أهم انتخابات في فرنسا، فهذا يعني أنهم أصبحوا جزءًا من التيار السياسي الرئيسي".
ماكرون في مأزق
يجد الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه في موقف بالغ الصعوبة والتعقيد، فمن ناحية، يواجه تراجعًا حادًا في شعبيته وقوة تحالفه البرلماني، ومن ناحية أخرى، يتعين عليه اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة لمواجهة المد المتصاعد لليمين المتطرف.
وتشير التقديرات، كما أوردت "بوليتيكو"، إلى أن تحالف ماكرون قد يفقد أكثر من نصف مقاعده في البرلمان، حيث من المتوقع أن ينخفض عدد نوابه من 250 إلى أقل من 100 نائب في الجمعية الوطنية، ما يضع ماكرون أمام معضلة استراتيجية، وهي محاولة إنقاذ ما تبقى من حركته السياسية التي كانت مهيمنة ذات يوم، أو التركيز كل جهوده على وقف زحف اليمين المتطرف.
تحدي "الحاجز الصحي"
في الماضي، كان ما يعرف بـ"الحاجز الصحي"، وهو اتفاق ضمني بين الأحزاب التقليدية لمنع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، أداة فعّالة في صد تقدم التجمع الوطني، إلا أن المشهد السياسي الأوروبي تغير بشكل جذري خلال العقدين الماضيين، ما يجعل إحياء هذا الحاجز أمرًا بالغ الصعوبة.
يشير برونو جانبارت، خبير استطلاعات الرأي من مؤسسة أوبينيون واي، في تصريحات نقلتها "بوليتيكو"، إلى صعوبة إعادة إحياء الحاجز الصحي في ظل الصراعات السياسية الحالية.
ويضيف: "بما أن اليسار جعل من ماكرون خصمه الرئيسي، وقضى جان لوك ميلونشون وماكرون شهورًا في معركة سياسية ضخمة، فمن الصعب إحياء الحاجز الصحي"، ما يسلّط الضوء على تعقيدات المشهد السياسي الحالي، حيث تتداخل الخصومات والتحالفات بشكل يصعب معه التنبؤ بالمواقف النهائية للأحزاب.
سباق مع الزمن
مع اقتراب موعد الجولة الثانية من الانتخابات في 7 يوليو، يدخل ماكرون وحلفاؤه في سباق محموم مع الزمن، إذ أعلن رئيس الوزراء جابرييل أتال، في تصريحات نقلتها "بوليتيكو"، دعوته إلى "عدم التصويت للجبهة الوطنية"، مع إشارة ضمنية إلى إمكانية انسحاب مرشحي الائتلاف الحاكم لصالح مرشحين من "القوى الجمهورية" اليساري الأفضل حظًا في هزيمة اليمين المتطرف.
وتواجه هذه الاستراتيجية تحديات كبيرة، فمن ناحية، هناك خلافات عميقة بين ماكرون وأحزاب اليسار، خاصة حزب فرنسا الأبية بقيادة جان لوك ميلونشون، ومن ناحية أخرى، ليس من الواضح ما إذا كان الناخبون سيستجيبون لدعوات التصويت التكتيكي، خاصة مع تزايد الاستياء من الطبقة السياسية التقليدية.
تداعيات أوروبية محتملة
احتمال وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في فرنسا يحمل في طياته تداعيات هائلة، ليس على فرنسا فحسب، بل على أوروبا والعالم أجمع، فرغم تخفيف التجمع الوطني لبعض مواقفه المتشددة في السنوات الأخيرة، لا يزال يتبنى سياسات مناهضة للهجرة ومشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وقد يؤدي فوز حزب لوبان إلى تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الفرنسية وعلاقاتها مع شركائها الأوروبيين.