في خضم الاضطرابات السياسية التي تجتاح القارة الأوروبية، أسفرت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة عن صدمة هزت الأوساط المؤيدة للمشروع الأوروبي، بعد ما حققت الأحزاب اليمينية المتطرفة المعادية للهجرة والمتعاطفة مع روسيا مكاسب كبيرة في فرنسا وألمانيا، اللتين تعتبران محركي أوروبا اقتصاديًا وسياسيًا ودعامتي السياسة الخارجية الأوروبية الموالية للولايات المتحدة، لا سيما فيما يتعلق بدعم أوكرانيا وردع روسيا عن التوسع في عدوانها.
تراجع الأحزاب المؤيدة
وفقًا لما نشرته صحيفة "نيوزويك" الأمريكية، فإن الحزب الشعبي الأوروبي، الذي يعتبر الأكبر في البرلمان، تمكّن من الفوز بما لا يقل عن 185 مقعدًا، بنسبة 25% من إجمالي 720 مقعدًا تم التنافس عليها، في حين حافظ حزب الاشتراكيين الديمقراطيين على حصته التقليدية من المقاعد البالغة 137 مقعدًا.
أما حزب "رينيو أوروبا" الليبرالي، فقد تكبّد خسارة كبيرة بفقدانه أكثر من 20 مقعدًا، ليحصل على نحو 79 مقعدًا فقط.
وعلى الرغم من تصريحات رئيسة البرلمان الأوروبي روبرتا ميتسولا، وهي من أعضاء الحزب الشعبي الأوروبي، بأن "المركز البنّاء المؤيد للاتحاد الأوروبي قد صمد"، إلا أن الانتخابات التي شارك فيها 185 مليون ناخب عبر 27 دولة، شهدت أيضًا صعودًا ملحوظًا للأحزاب اليمينية المتطرفة المعارضة لفكرة الاتحاد الأوروبي والمناهضة للهجرة والمتعاطفة مع موسكو.
صعود اليمين المتطرف
تجلى هذا الصعود بشكل خاص في فرنسا وألمانيا، اللتين تعتبران الركيزتين الاقتصادية والسياسية للمجتمع الأوروبي.
ففي فرنسا، حصل حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان على ما يقرب من ثلث أصوات الناخبين الفرنسيين، ما دفع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى حل البرلمان الوطني والدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة، قد تمكّن حزب لوبان من الفوز فيها وتشكيل حكومة جديدة برئاسة وزراء من الحزب.
وبحسب ما أشارت الصحيفة الأمريكية، فقد سعت "لوبان" والمرشح الرئيسي للحزب جوردان بارديلا طوال الحملة الانتخابية إلى تقليل أهمية الروابط التي تربط حزبهما بموسكو، بما في ذلك قرض بنكي سابق بقيمة 6.4 مليون دولار، فضلًا عن دور الحزب المزعوم كـ"قناة اتصال" للكرملين، على حد وصف لجنة تحقيق برلمانية فرنسية مشتركة في عام 2023.
أما في ألمانيا المجاورة، فقد تلقى المستشار أولاف شولتس وحزبه الاشتراكي الديمقراطي ضربة موجعة من منافسيهم على اليمين، فقد حصل حزب "البديل لأجل ألمانيا" اليميني المتطرف، الذي تم طرده أخيرًا من كتلة "الهوية والديمقراطية" اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي بعد أن قال مرشحه الرئيسي إن أفراد الـ"إس إس" النازيين "لم يكونوا جميعًا مجرمين"، على 16% من الأصوات بحسب التوقعات.
ويرتبط حزب "البديل لأجل ألمانيا" بسلسلة من الفضائح المرتبطة بروسيا، بما في ذلك اتهامات بضلوع كبار مسؤولي الحزب في عمليات التجسس الروسية.
كما عُرف العديد من قادة الحزب البارزين بتعاطفهم العلني مع الرؤية الروسية للعالم، ووجهت انتقادات للحزب هذا العام عندما سافرت مجموعة من نوابه إلى روسيا لتكون "مراقبين" في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وعلى الرغم من التهديد المتزايد الذي تشكله الأحزاب اليمينية المتطرفة، إلا أن المنافسين الرئيسيين للمستشار شولتس لا يزالون من التيار المحافظ التقليدي. فقد حصل تحالف الاتحاد المسيحي الديمقراطي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي على 30% من الأصوات، مقابل 14% فقط للحزب الاشتراكي الديمقراطي، ما يعكس مكانته القوية قبيل الانتخابات الوطنية المقبلة المقررة قبل أكتوبر 2025.
نظرة متفائلة
من جانبه، أبدى ألكسندر ميريزكو، عضو البرلمان الأوكراني ورئيس لجنة الشؤون الخارجية، تفاؤلًا حذرًا إزاء نتائج الانتخابات الأوروبية. وقال لصحيفة "نيوزويك" الأمريكية: "النجاح النسبي لحزب البديل لأجل ألمانيا يثير بعض القلق، لأن هذا الحزب يعتبر داعمًا لبوتين ويميل إلى اعتباره حزبًا نازيًا جديدًا".
ومع ذلك، رأى "ميريزكو" أن "فوز تحالف الاتحاد المسيحي الديمقراطي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي مشجع ويعني استمرار دعم ألمانيا العسكري لأوكرانيا"، باعتبار ألمانيا أكبر داعم لكييف من حيث المساعدات الحربية.
وتابع ميريزكو قائلًا: "بشكل عام، من المتوقع ألا تلعب الأحزاب اليمينية المتطرفة، المعارضة لدعم أوكرانيا، دورًا رئيسيًا في البرلمان الأوروبي، وبشكل إجمالي، نعم هناك انحياز إلى اليمين المتطرف، لكن ليس بالقدر الذي كان متوقعًا".
كما أشار إلى أنه "يمكننا أن نرى وجود إمكانية قوية لتشكيل ائتلاف واسع داعم لأوكرانيا"، مستبشرًا بأنه "أخبار جيدة أن الأحزاب الوسطية حصلت على المزيد من الأصوات مقارنة بغيرها، وخاصة الحزب الشعبي الأوروبي الذي ينظر إليه في أوكرانيا على أنه داعم قوي لها".
خطر التشرذم والفوضى
على الرغم من التفاؤل المحدود من كييف، حذّر باويل زيركا، زميل سياسات رئيسي في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، من أن "نتيجة الانتخابات بشكل أوسع تشير إلى مناخ سياسي يفضل اليمين على اليسار".
وأوضح "زيركا" في تصريحاته لصحيفة "نيوزويك" الأمريكية أن "شعور عدم الأمن، خاصة بسبب الحرب الأوكرانية، يعزّز مصداقية اليمين في قضايا الأمن والدفاع والسياسة الخارجية. في الوقت نفسه، وبما أن الحرب قضية مستقطبة في بعض الدول الأعضاء، مثل ألمانيا والنمسا، يجتذب اليمين المتطرف الأصوات المعادية للتوافق حول دعم أوكرانيا".
وحذّر "زيركا" من أن هذا التشرذم والانقسامات المتزايدة "تهدد وحدة أوروبا وقدرتها على تحقيق التوافقات اللازمة، خاصة في ظل الحرب الأوكرانية واحتمال رئاسة دونالد ترامب مرة أخرى".
كما أن نتائج الانتخابات ستعيد رسم خارطة المعركة أمام رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، العضو في الحزب الشعبي الأوروبي التي تطمح للفوز بولاية ثانية على رأس هذا الجسم القوي.
ستحتاج فون دير لايين لحشد دعم 361 عضوًا في البرلمان للفوز، مما قد يضطرها للالتماس دعم جيورجيا ميلوني واليمين المتطرف، وهو أمر قد يؤدي إلى إغضاب داعميها من اليسار.
سيكون للبرلمان أيضًا تأثير على عملية توسيع الاتحاد الأوروبي، حيث تنتظر أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا وعدد من الدول الأخرى التي بنت روسيا فيها نفوذًا كبيرًا في "غرفة الانتظار" للانضمام. وقد تسعى كتلة اليمين المتطرف الأقوى داخل البرلمان إلى تأخير أو إحباط انضمام أعضاء جدد، خاصة أولئك المنسجمين مع الرؤية الروسية.