جاء قرار عدد من الدول الغربية بوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، في أعقاب مزاعم إسرائيلية عن مشاركة عدد من موظفيها في عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركات المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، إذ أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 26 يناير 2024 عن تعليق تمويل أنشطة الوكالة، وتبعها عدد من حلفائها (وفي مقدمتهم: المملكة المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وأستراليا، وفرنسا، والنمسا، وسويسرا، وفنلندا، وكندا، ورومانيا، وهولندا ونيوزيلاندا)، وهو الأمر الذي وصفه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش بالقرار الكارثي، لا سيما وأنها الوكالة الإنسانية الرئيسية في غزة، والتي يعتمد عليه أكثر من مليون شخص من أجل البقاء على قيد الحياة.
جهود متعددة
لخص جون ديفيس، مدير "الأونروا" عام 1959، رؤيته لدور الوكالة بأنها بمثابة تكلفة منخفضة الثمن يدفعها المجتمع الدولي مقابل عدم حل المشكلات السياسية للاجئين الفلسطينيين، وجاء إنشاء وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في ديسمبر 1949 وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 203، وتقدم تقاريرها إلى الجمعية العامة، ويرأسها وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، ويتجدد تفويضها كل 3 سنوات بقرار من الجمعية العامة.
وبدأت الوكالة عملها الفعلي منذ عام 1950، وتشمل أنشطتها تقديم برامج مساعدات في مجالات التعليم والرعاية الصحية، وتوفير الغذاء، والمياه، وإدارة الملاجئ التي تؤوي أكثر من مليون شخص، وتسهم في توظيف نحو 700 ألف لاجئ فلسطيني في خمس مناطق، هي: غزة، والضفة الغربية، والأردن، وسوريا، ولبنان، منهم ما يقرب من 10 آلاف موظف في قطاع غزة فقط.
وتعد الولايات المتحدة الأمريكية المساهم الأكبر في تمويل أنشطة الوكالة، وهو ما تعكسه بيانات الوكالة، إذ جاء ترتيب أكبر عشر مانحين للوكالة في 2022 هي (الولايات المتحدة الأمريكية 343.9 مليون دولار، تلتها ألمانيا 202 مليون دولار، والاتحاد الأوروبي 114.1 مليون دولار، والسويد 60.9 مليون دولار، والنرويج 34.1 مليون دولار، واليابان 30.1 مليون دولار، وفرنسا 28.9 مليون دولار، والسعودية 27 مليون دولار، وسويسرا 25.5 مليون دولار، وتركيا 25.1 مليون دولار. وبلغت ميزانية الأونروا عام 2023 ما يقرب من 1.6 مليار دولار، خُصِّص معظمها للتعليم والرعاية الصحية، تليها خدمات أخرى مثل البنية التحتية وتحسين مخيمات اللاجئين.
أهداف مسيسة
جاء قرار الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية بالإعلان عن تعليق تمويل عمليات "الأونروا" ليعكس الرغبة الغربية في تحقيق العديد من الأهداف:
(*) مساندة الرواية الإسرائيلية: يشكل قرار الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، دعمًا للرواية الإسرائيلية التي تزعم مشاركة عدد من موظفي "الأونروا" في عمليات المقاومة الفلسطينية التي شنّتها ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، وأدت لمقتل 1200 شخص، وأسر ما يقرب من 246 مدنيًا وعسكريًا، كما تزعم الرواية الإسرائيلية أيضًا بأن مقرات الوكالة في قطاع غزة تُستخدم كملاذات لمقاتلي حركات المقاومة الفلسطينية.
(*) معاقبة الشعب الفلسطيني: يعكس القرار اتجاهًا غربيًا نحو معاقبة الشعب الفلسطيني الذي يشكل الحاضنة الرئيسية لحركات المقاومة الفلسطينية، وكأن تلك الدول التي أوقفت مساهمتها المالية تثبت تأييدها لانتهاكات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني ومحاصرته والاعتداء على المستشفيات والمباني والمدارس، وتنفيذها لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني، وبما جعلها ترتكب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل بهدف طرده من أرضه بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة من خلال خنق مقومات الحياة، لذلك اعتبرت وزارة الخارجية الفلسطينية قرار الدول التي علقت تمويلها لـ"الأونروا" بمثابة عقاب جماعي لملايين الفلسطينيين خاصة في ظل الكارثة الإنسانية، التي يعاني منها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وسط عدوان متواصل منذ السابع من أكتوبر، وأكدت الخارجية أن هذه القرارات مسيسة وغير متناسبة، خاصةً في ظل إعلان الأمين العام للأمم المتحدة إجراء تحقيق في المزاعم الإسرائيلية، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لفرض القانون بشأنها.
(*) الرغبة الإسرائيلية في تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين: تعتقد العديد من الاتجاهات بأن إسرائيل تستهدف من خلال تبني الدول الغربية وقف تمويل "الأونروا" تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين ورفض حقهم في العودة إلى وطنهم فلسطين، بما سينعكس على الخلل الديموغرافي بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، لاسيما وأن الوكالة استطاعت أن يكون لها دور مؤثر في قضيتي التعليم والرعاية الصحية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين سواء في الداخل أو في الخارج، وهو الأمر الذي جعل قضية اللاجئين ماثلة ولا يمكن تجاهلها في أي ترتيبات مستقبلية للتسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في ظل تمسك الفلسطينيين بحق العودة.
تداعيات محتملة
هناك العديد من التداعيات المحتملة لقرارات الدول الغربية بتعليق تمويل أنشطة الأونروا، وهو ما يمكن الإشارة إليه في العناصر التالية:
(&) تأزم الوضع الإنساني في غزة: ردًا على تعليق عدد من الدول الغربية تعليق تمويلها لـ"الأونروا"، أعلن رؤساء وكالات إنسانية أممية في بيان مشترك في 31 يناير 2024 بأن قطع التمويل عن الوكالة سيكون له عواقب كارثية على غزة. وجاء بيان صادر عن اللجنة الدائمة المشتركة بين وكالات الأمم المتحدة التي تشمل الشركاء الرئيسيين المعنيين بالشؤون الإنسانية داخل المنظمة وخارجها للتأكيد على أن سحب التمويل من الأونروا أمر خطير وقد يؤدي إلى انهيار النظام الإنساني في غزة، كما أعلنت منسقة الأمم المتحدة للمساعدات في غزة سيجريد كاج بأنه لا يمكن لأي منظمة أن تحل محل "الأونروا".
كما تشير العديد من الاتجاهات بأن تأزم الوضع الإنساني في غزة بعد تعليق عدد من الدول لتمويلها سيحد من الجهود الدولية في توفير الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين في غزة خاصة الأطفال والنساء وهي الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمعات التي تشهد نزاعات مسلحة. وهو ما يعنى أن قرار تعليق التمويل يقوض جهود إنقاذ الشعب الفلسطيني من جريمة إبادة جماعية لا تزال محكمة العدل الدولية تحقق في أدلتها، بعد قرارها باتخاذ تدابير تحول دون استهداف المدنيين في الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة.
(&) تأكيد عجز النظام الدولي القائم وسقوط منظومته الأخلاقية: ثمة اتجاه يرى بأن الهدف من تعليق عدد من الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية اتهام إسرائيل لموظفين فلسطينيين يعملون بـ"الأونروا" والزعم بمشاركتهم في عملية طوفان الأقصى هو التشويش على قرار محكمة العدول الدولية في ما يتعلق بمسألة جريمة الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني، كما أنها تعكس أيضًا عجز النظام الدولي القائم عن حماية الأمن والاستقرار بعد الاتجاه لشل عمل المنظمات الأممية الداعمة لحقوق الشعوب المقهورة، وهو الأمر الذي ينبغي معه أن تسهم الدول الكبرى وفي مقدمتها الصين وروسيا في وقف عبثية المشهد الدولي إزاء عمل المنظمات الإنسانية واحترام جهود تلك المنظمات لا سيما، وأن تبعيتها للأمم المتحدة التي لا تزال تعبر عن الضمير الجمعي للعالم بعد أن فشل مجلس الأمن في القيام بمهامه ووظائفه التي تشكل من أجلها.
وبرغم أن البيت الأبيض أعلن في 31 يناير 2024 أن وقف الولايات المتحدة لتمويل وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين كان بمثابة تعليق وليس إنهاء للتمويل، إلا إن ذلك التوجه يعكس السقوط الأخلاقي للمنظومة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة بعد أن فشلت في حماية المبادئ التي تنادي بها، وفي مقدمتها حقوق الإنسان فضلًا عن استخدامها لحق النقض "الفيتو" ضد كل المشروعات التي طرحت في مجلس الأمن لوقف الحرب على غزة.
مجمل القول؛ إن قرار عدد من الدول الغربية بتعليق تمويلها سواء كليًا أو جزئيًا لوكالة الأونروا يعكس إخفاق المنظومة الغربية في الدفاع عن حقوق الإنسان التي جعلتها محورًا لنشر قيمها التي تنادي بالحرية والديمقراطية، والتي يبدو أنها قيم مصلحية وشعارات براقه فقط ترتبط بمصالح تلك الدول وسعيها للهيمنة والسيطرة، وهو ما تجلى بشكل واضح في الدعم اللامحدود لإسرائيل برًا وبحرًا وجوًا في حربها الغاشمة على غزة، لذلك فإن الاتجاه نحو تسييس عمل المنظمات الإنسانية في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة، وفي ظل معاناة الفلسطينيين في تلك الظروف القاسية، فإن هناك حاجة ماسة لمطالبة تلك الدول بإعادة النظر في تلك القرارات حتى تحتفظ المنظومة الدولية بالحد الأدنى من إنسانيتها.