تزايدت التوقعات عقب العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة انتقامًا لقيام حركات الفصائل الفلسطينية بتنفيذ عملية طوفان الأقصى، 7 أكتوبر 2023، باحتمالية توسع الصراع واتساق نطاقه في دول الإقليم، لا سيما بعد تحول العدوان إلى حرب إبادة جماعية أدت إلى سقوط ما يزيد على 25 ألف شهيد من بينهم 10 آلاف طفل، و7 آلاف امرأة، وجرح ما يزيد على 60 ألفًا، وهناك ما يقرب من 7 آلاف مفقود إما تحت الأنقاض أو مجهولي المصير، فضلًا عن التدمير الكلي لـ69 ألف مسكن، 30 مستشفى، 53 مركزًا صحيًا، 95 مدرسة وجامعة، ومائتي موقع أثري وتراثي.
وكان لحصيلة ذلك الإجرام الإسرائيلي في غزة تداعياته الدولية المتمثلة في خروج مظاهرات بمعظم عواصم العالم تندد بالعدوان الإسرائيلي واستهدافه للأطفال والنساء ورفض العقاب الجماعي للفلسطينيين ورفض تهجيرهم داخليًا وخارجيًا، وإقليميًا ومع تزايد جرائم إسرائيل في غزة التي لم يسلم منها الحجر هدمًا للمباني أو البشر قتلًا وترويعًا وتشريدًا، بدأت العديد من ساحات الإقليم في الاتجاه نحو التصعيد العسكري ضد إسرائيل، بهدف تخفيف الحصار المفروض على غزة، أو للتأثير على القوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، للضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، لا سيما وأن الولايات المتحدة لطالما حذر مسؤولوها من خطورة التصعيد وتأثير اتساع دائرته على السلام والاستقرار العالميين برغم دعمها الكامل لإسرائيل برًا وجوًا وبحرًا.
تصعيد متبادل
اتجهت العديد من حركات ما دون الدولة في دول الإقليم للتصعيد العسكري ضد إسرائيل سواء في لبنان أو اليمن، وضد الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال استهداف مناطق تمركز قواتها في العراق وسوريا، لذلك يمكن إبراز أهم مجالات التصعيد وجغرافية في النقاط التالية:
(*) لبنان: مثلت الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل على الحدود الإسرائيلية اللبنانية إحدى البؤر التي شهدت تصعيدًا متبادلًا منذ العدوان الإسرائيلي على غزة، إذ يعلن الحزب أنه يستهدف بشكل رئيسي في عملياته اليومية أهدافًا عسكرية إسرائيلية قرب الحدود، بهدف دعم وإسناد حركات المقاومة الفلسطينية في غزة. في المقابل تقوم إسرائيل بشن غارات جوية وقصف بالمدفعية لمناطق متعددة في جنوب لبنان، لا سيما استهداف البنى التحتية لحزب الله، وانتقلت إسرائيل من استهداف حدود لبنان الجنوبية إلى قصف العمق اللبناني من خلال استهداف الضاحية الجنوبية، وتنفيذ عمليات نوعية داخلها كان من بينها اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، الذي اعتبرها حزب الله اعتداءً على لبنان وشعبه وسيادته، وهو تطور خطير في مسار الحرب. وقد أدى ذلك التصعيد وفق المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة إلى نزوح أكثر من 76 ألف نازح في لبنان، جرّاء التصعيد مع إسرائيل في المنطقة الحدودية، كما أجلت إسرائيل نهاية أكتوبر 2023 وفقًا لوزارة الدفاع الإسرائيلية 27 ألف إسرائيلي من 28 بلدة قرب الحدود مع لبنان.
(*) العراق وسوريا: يعكس ما أشارت إليه صحيفة واشنطن بوست، 7 يناير 2024، إلى أن القوات الأمريكية تعرضت إلى ما يقرب من 120 هجومًا على الأقل في سوريا والعراق منذ 17 أكتوبر 2023، تزايد وتيرة استهداف تلك القوات ردًا على الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل في عدوانها على غزة، وتنوعت هذه الهجمات ما بين استهداف بالصواريخ غير الموجهة والطائرات المسيرة. في المقابل نفذت الولايات المتحدة الأمريكية عمليات عسكرية، من خلال القصف الجوي ضد عدد من مقرات الحشد الشعبي في العراق، فضلًا عن استهداف قادة عسكريين في فصائل مثل جماعتي كتائب حزب الله العراقي، وحركة النجباء بالعراق التي قادت هجمات الفصائل ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، التي رهنت توقف تلك الأعمال بتوقف العدوان الإسرائيلي على غزة.
(*) اليمن: جاء استهداف جماعة الحوثي للناقلات التي تمر بالبحر الأحمر وترفع علم إسرائيل أو تتجه إلى ميناء إيلات، ردًا على العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة. وهو الأمر الذي أدى بالعديد من الشركات المالكة لتلك الناقلات لإعلان تعليق مرورها في ظل استمرار تلك التهديدات. وفي تغريده له على منصة "إكس" بالتزامن مع مرور 100 يوم من العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلن الناطق باسم جماعة الحوثي محمد عبد السلام، أن الإجراءات العدائية من قبل أمريكا ضد اليمن لن تمنع القوات المسلحة عن مواصلة تنفيذ التزامها الديني والإنساني والأخلاقي الداعم للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة بالاستمرار في استهداف السفن التابعة لكيان العدو والمتجهة إلى موانئ فلسطين المحتلة حتى وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة"، ويعد طريق البحر الأحمر من أهم طرق الملاحة التجارية في العالم، إذ يمر من خلاله نحو 12% من حركة التجارة العالمية عبر قناة السويس، التي يمر بها 8% من حركة الغاز الطبيعي المسال عالميًا، كما أشارت بيانات وكالة موديز إلى أن ما يقرب من 20 ألف سفينة حاويات تمر بقناة السويس سنويًا، وأوضحت بيانات مكتب الإحصاءات الأوروبي إلى أن نحو 20% من واردات أوروبا مرت عبر البحر الأحمر خلال عام 2022، ومعظمها عبر قناة السويس، وإدراكًا لتلك الأهمية وتأثيرها الاستراتيجي على حركة التجارة العالمية، يُمكن القول بإن الدول الأوروبية تأثرت بشكل كبير، لا سيما أنها تعاني أزمة إمداد للطاقة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. ولمواجهة ذلك التصعيد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، تشكيل تحالف حارس الازدهار، بهدف حماية الملاحة في البحر الأحمر، إذ شنت القوات الأمريكية والبريطانية عشرات الغارات على مواقع عسكرية عديدة تابعة للحوثيين في محافظات الحديدة وتعز وحجة وصعدة.
حدود التصعيد
يشكل اتجاه إسرائيل نحو التصعيد في مناطق جوارها سواء في لبنان أو سوريا دليلًا دامغًا على فشل الحكومة الإسرائيلية الأكثر يمينًا وتطرفًا بتاريخ إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها من الحرب على غزة، التي أعلنتها منذ عملية طوفان الأقصى، كما أن استهداف الحوثيين للناقلات التي تمر عبر البحر الأحمر يعكس حالة الفوضى التي تسيطر على تفاعلات النظام الدولي وضعف مؤسساته القائمة وعجزها عن اتخاذ قرار بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، وهو الأمر الذي يمثل تهديدًا للملاحة في البحر الأحمر، وما يرتبط بذلك من مخاطر على سلاسل الإمدادات العالمية وفي مقدمتها ما يرتبط بأمن الطاقة والأمن الغذائي العالمي. لذلك فإن هناك سيناريوهين لحدود لتصعيد المتبادل، هما:
السيناريو الأول: استمرار التصعيد المتبادل وهو السيناريو الأضعف بحيث يتجه التصعيد إلى مزيد من التوتر بين إسرائيل وحركات ما دون الدولة في الإقليم، التي تسعى للتخفيف من وطأة العدوان الإسرائيلي على غزة، ويتجه الطرفان إلى الدخول في مواجهات مباشرة، وتنفيذ عمليات أكثر تأثيرًا سواء من ناحية الخسائر أو أن يكون لها صدى داخلي مؤثر يحرك الرأي العام للضغط في اتجاه ما. غير أن هذا السيناريو يظل ضعيفًا في ظل الحسابات الإقليمية والدولية التي تهدف لضبط ذلك التصعيد، وتوظيفه فقط في عمليات الردع بحيث لا يخرج عن الحدود المسموح بها.
السيناريو الثاني: التهدئة وإن طال أمد تحقيقها، وهو السيناريو الأقرب للتحقق، وسيتوقف ذلك على قرار إسرائيل بوقف عدوانها الغاشم على غزة، إذ يتجه التصعيد ضد إسرائيل في العديد من المناطق بدول الإقليم إلى التهدئة ويدعم هذا السيناريو العديد من المؤشرات أهمها: تزايد الخسائر في صفوف جيش الاحتلال في غزة، وتزايد الانشقاقات في الحكومة الإسرائيلية، وزيادة ضغوط الداخل الإسرائيلي خاصة من قبل أهالي الأسرى، فضلًا عن تزايد الضغوط الدولية بعد محاكمة إسرائيل أمام محكمة العدول الدولية بتهمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة يضاف إلى ذلك أن ثمة تغير في خطابات المسؤولين الأمريكيين، وخفوت حدة التأييد المطلق لإسرائيل في عدوانها على غزة لصالح الرغبة الأمريكية في التهدئة والحديث عن حل الدولتين.
مجمل القول إن العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وما أدى إليه من توترات وتصعيد حركات ما دون الدولة في دول الإقليم لأنشطتها ضد إسرائيل في لبنان، أو استهداف القوات الأمريكية في العراق وسوريا، أو استهداف الحوثيين للناقلات التي تمر بالبحر الأحمر يعكس إخفاقًا للضمير الجمعي العالمي في عدم القدرة على وقف العدوان الإسرائيلي، وفي ظل غياب مؤثر للقوى الدولية في الضغط على إسرائيل، يصبح لزامًا على الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الاستراتيجي الذي يمتلك القدرة على توظيف أدوات نافذة لوقف إطلاق النار ودعم المسار التفاوضي بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وصولًا لحل الدولتين وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وفق قرارات الشرعية الدولية.