يعكس امتناع الولايات المتحدة عن التصويت لاعتماد قرار مجلس الأمن رقم 2720، في 22 ديسمبر 2023، والذي يدعو إلى اتخاذ خطوات عاجلة للسماح بإيصال المساعدات الإنسانية بشكل موسع وآمن دون عوائق، نوعًا من التحول في الموقف الأمريكي إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة، لا سيما وأن الولايات المتحدة اعتادت استخدام حق النقض "الفيتو" على كل القرارات التي نظرها مجلس الأمن، لوقف إطلاق النار على غزة.
يذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية، صوتت في 27 أكتوبر 2023 ضد مشروع القرار العربي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي دعا إلى وقف إطلاق النار ودخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة دون معوقات، كذلك رفضت واشنطن، قرار الجمعية العامة في 12 ديسمبر 2023، والذي طالب بالوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وحماية المدنيين وفق قواعد القانون الدولي الإنساني.
مؤشرات التحول:
هناك العديد من الشواهد التي تؤكد على حدوث نوع من التحول في الموقف الأمريكي إزاء الحرب على غزة في الآونة الأخيرة، وذلك في ظل الضغوط الداخلية والدولية على خلفية تردي الأوضاع الإنسانية، وحدوث ما يعد إبادة جماعية داخل القطاع، وإن ظل التوجه الرئيس الداعم للحليف الإسرائيلي قائم على توفير كل الدعم العسكري برًا وجوًا وبحرًا. وقد اعتبرت العديد من الاتجاهات أن الولايات المتحدة الأمريكية تضغط على إسرائيل بهدف الانتقال إلى مرحلة أقل حدة في الهجمات.
ولعل من تلك الشواهد، أولًا: ما تضمنته تصريحات الرئيس الأمريكي مؤخرًا في 24 ديسمبر 2023 ومطالبته بضرورة حماية المدنيين خلال الحرب على غزة، وتأمين الإفراج عن جميع الرهائن، حيث انتقد بايدن في تصريحات سابقة في 12 ديسمبر 2023 خلال حملة تبرعات لحملته الانتخابية ما وصفه بالقصف العشوائي الإسرائيلي لقطاع غزة، داعيًا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لتغيير حكومته بإقصاء العناصر الأكثر تشددًا فيها، وتغيير استراتيجية إسرائيل العسكرية، وتوضيح التزامها بحل الدولتين صيغةً وهدفًا لعملية سلام مع الفلسطينيين مستقبلًا.
وثانيها؛ دعوة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى مراعاة قواعد القانون الدولي خلال تنفيذ الهجمات البرية الإسرائيلية على غزة، كما حذر بلينكن في 3 نوفمبر 2023 من أن إسرائيل تخاطر بتدمير احتمالات السلام في نهاية المطاف وتدفع الفلسطينيين نحو مزيد من التطرف، إذا لم تبادر إلى تحسين الأوضاع الإنسانية، داعيًا إلى وقف مؤقت لإطلاق النار بما يسمح بدخول مساعدات إنسانية إلى القطاع، وبالإفراج عن بعض المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية.
وثالثها؛ ما ناقشه مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان مع المسؤولين الإسرائيليين خلال زيارته إلى إسرائيل في 14 ديسمبر 2023 من ضرورة الابتعاد عن عمليات عسكرية عالية الكثافة في قطاع غزة، مطالبًا بتخفيف حدتها، وتقليص الأذى الذي يلحق بالمدنيين، وضمان تدفق متزايد ومستدام للمساعدات الإنسانية إلى غزة، كما رحب سوليفان بزيادة التنسيق بين الأمم المتحدة ومصر والشركاء الآخرين بشأن تسليم المساعدات الإنسانية وتوزيعها، وشدد على أهمية توسيع نطاق هذه المساعدات ومواصلة تدفقها، كما استعرض سوليفان الجهود الأمريكية بالتنسيق مع الحلفاء والشركاء لردع أي محاولة لتوسيع رقعة الصراع إقليميًا، بما في ذلك في البحر الأحمر، وذلك وفق بيان للبيت الأبيض.
دوافع التحول:
هناك العديد من العوامل التي أسهمت في التحول التدريجي للموقف الأمريكي بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة، يمكن إبراز أهمها في التالي:
(*) الخسائر الإنسانية الفادحة في قطاع غزة: روج جو بايدن خلال حملته الانتخابية في 2020 بأن العالم سيكون أكثر أمنًا واستقرارًا بانتخابه رئيسًا للولايات المتحدة، وقد تبخرت تلك الوعود مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وتوظيف الولايات المتحدة مسارات الحرب، لاستنزاف القدرات الروسية لتقليم أظافر الدب الروسي، فقد كانت تلك الحرب مع تداعيات جائحة كورونا سببًا رئيسيًا في الركود الاقتصادي العالمي، ثم جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة، وما أحدثته من تدمير للبنى الأساسية في القطاع من استهداف المباني السكنية والمستشفيات والمدارس ومقار البعثات الدولية العاملة في مجال المساعدات الإنسانية، لتضع الحزب الديمقراطي وقياداته وشعاراته البراقة حول حقوق الإنسان في موقف انحياز لا أخلاقي عكسته الخسائر الإنسانية فقد ارتفع عدد الشهداء الفلسطينيين من العدوان الإسرائيلي على غزة لأكثر من 20 ألف شهيد، بينهم 8 آلاف طفل، فيما تجاوز عدد المصابين 53 ألفًا، وفق ما أعلنته السلطات الصحية في غزة.
(*) فرص بايدن في الانتخابات الرئاسية 2024: تشكل الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة في نوفمبر 2024 محددًا رئيسيًا لتغير الموقف الأمريكي من الحرب الإسرائيلية على غزة من خلال الدعوة لحماية المدنيين وادخال المساعدات الإنسانية دون الحديث عن دعم وقف إطلاق النار، ويحتاج الرئيس الأمريكي جو بايدن إعادة انتخابه لولاية جديدة لتعزيز الحفاظ على تماسك حزبه المنقسم بشأن الحرب على غزة، لا سيما وأن الجناح اليساري للحزب يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار وإيقاف الدعم المطلق لإسرائيل.
(*) تصاعد الانقسام الأمريكي: يشكل الانقسام الداخلي داعمًا للتحول التدريجي في الموقف الأمريكي إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة، فقد أرسل موظفون في جهات أمريكية متعددة تزيد على 40 جهة فيدرالية أبرزها الكونجرس، ووزارة الخارجية، ووكالات السلطة التنفيذية، فضلًا عن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، رسائل إلى الرئيس الأمريكي يطالبونه بالتدخل من أجل الوقف الفوري لإطلاق النار، كما دعاه البعض منهم إلى تغيير سياسته إزاء الحرب في غزة متهمين إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، فيما اتهمه البعض بالوقوف صامتًا أمام معاناة الفلسطينيين في غزة من الجوع وشح دخول المساعدات الغذائية إلى القطاع. كما قدم العديد من المسؤولين في الخارجية الأمريكية استقالتهم احتجاجًا على مساندة الإدارة الأمريكية وبايدن للحرب الإسرائيلية على غزة وأبرزهم: جوش بول، مدير مكتب شؤون الكونجرس والشؤون العامة في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية بالخارجية، ولارا فريدمان مسئولة بالخارجية الأمريكية.
(*) العزلة الدولية: تتمثل العزلة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية في وقوفها ضد إرادة المجتمع الدولي الذي يطالب بوقف إطلاق النار في غزة وتوسيع دخول المساعدات الإنسانية ووقف هجمات جيش الاحتلال على المدنيين واستهداف الأطفال والنساء، والتي تعد جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وقد تجلت تلك العزلة في استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لحق النقض "الفيتو" داخل مجلس الأمن ضد كل القرارات التي تبنت الدعوة لوقف إطلاق النار، كما صوتت ضد مشروعي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأول الذي تقدمت به الأردن نيابة عن المجموعة العربية في 27 أكتوبر 2023، والقرار الثاني الذي صدر في 12 ديسمبر 2023، ويدعو إلى وقف إطلاق النار، وصوتت لصالحه ثلاثة أرباع الدول (153) دولة من أصل 193 دولة تتمتع بعضوية الأمم المتحدة، فيما رفضته الولايات المتحدة الأمريكية وثماني دول أخرى إلى جانب إسرائيل، وامتناع 23 دولة عن التصويت.
(*) ضغوط الرأي العام العالمي: برغم التحيز الإعلامي الغربي للرواية الإسرائيلية، إلا أن خروج مظاهرات حاشدة في كافة العواصم الغربية تطالب بوقف الحرب على غزة ومنع استهداف المدنيين والأطفال والنساء، شكل رأيًا عامًا عالميًا ضاغطًا على الحكومات الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شكل الشباب طليعة الفئات المطالبة بوقف تلك الحرب، لذلك مثل الرأي العام العالمي ضغطًا على الموقف الأمريكي المتحيز والداعم لإسرائيل.
مجمل القول؛ برغم أن الإدارة الأمريكية تتبنى "لاءات" متعددة بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة أهمها أنه لا إعادة لاحتلال قطاع غزة بعد انتهاء التصعيد، ولا تقليص لمساحة غزة، فضلًا عن الالتزام بإدارة الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية بطريقة موحدة، ورفض التهجير القسري للفلسطينيين، إلا أن السلوك على أرض الواقع يؤكد الانحياز الأمريكي المطلق والداعم لإسرائيل بما يضع الموقف الأمريكي على المحك، ويقوض مصداقية الولايات المتحدة لدى الرأي العام العالمي، وما تتبناه من قيم عالمية ترتبط بالدفاع عن حقوق الإنسان، الذي يبدو أنه دفاع مزيف مغلف بالمصالح الأمريكية فقط، وحماية دولة الاحتلال الوحيدة في العالم.