الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

ما تداعيات حرب غزة على المجتمعات الأوروبية؟

  • مشاركة :
post-title
مظاهرات بريطانية دعمًا لغزة

القاهرة الإخبارية - د. محمد أبو سريع

سادت في أوروبا حالة من الانقسام إزاء الحرب على غزة، سواءً على مستوى الاتحاد الأوروبي أو على مستوى الدول الأوروبية، التي شهدت مجتمعاتها انقسامًا بين الموقف الرسمي المؤيد بشكل مطلق أو شبه مطلق للأعمال الوحشية لجيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، بذريعة "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، دون مراعاة لحدود هذا الحق وأهمية توافقه مع مبادئ القانون الدولي، وبين الموقف الشعبي الرافض لهذه الأعمال، حيث المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة حمايةً للمدنيين.

تجدر الإشارة إلى أن المجتمع البريطاني ليس ببعيد عن حالة الانقسام تلك، فقد أثار هجوم جيش الاحتلال المتصاعد في غزة، عقب هجمات المقاومة الفلسطينية المباغتة في 7 أكتوبر الماضي، حفيظة الأشخاص الذين يعلنون رفض سياسات "العقاب الجماعي" في بريطانيا، ففي حين تؤيد الجالية المسلمة القضية الفلسطينية، يساند بعض اليهود وغيرهم موقف تل أبيب، ويعتبرون أن ما يقوم به الجيش الإسرائيلي مجرد "دفاع عن النفس".

ويدفع الغضب الناتج عن هذا الاستقطاب أشخاصًا من الجانبين إلى الاعتداء على أفراد أو شركات أو مراكز دينية، كما فجّر التشاحن القائم تدوينات عبر منصات التواصل الاجتماعي، تؤجج الكراهية والانقسام في أوساط المجتمع البريطاني، وتسببت الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة الفلسطيني، في ارتفاع قياسي بجرائم الكراهية في بريطانيا، إذ سجلت الشرطة بين الأول و18 من أكتوبر الماضي، أكثر من 100 جريمة اعتداء على المسلمين، مقارنة بـ42 خلال الفترة ذاتها العام الماضي، فيما زادت جرائم ما يسمى "معاداة السامية" من حالتين فقط إلى 218 خلال الفترة نفسها.

في ضوء ما سبق، تُثار العديد من التساؤلات، أهمها: ما أهم مظاهر تأثير حرب غزة على تماسك المجتمعات الأوروبية؟ وكيف تعكس الحالة البريطانية هذا التأثير؟ وإلى أى مدى يمكن أن تسهم هذه الحرب في تغيير المشهد السياسي البريطاني؟ وكيف يمكن أن تمتد تداعيات الحرب إلى المجتمعات الأوروبية بصفة عامة؟

مؤشرات الانقسامات

سجلت منظمة "تيل ماما" المعنية برصد وتدقيق حالات الكراهية في المملكة المتحدة، نحو 300 بلاغٍ عن جرائم ضد المسلمين في البلاد، منذ اندلاع الأزمة في 7 أكتوبر وحتى 19 من الشهر ذاته، مقارنة بـ6 بلاغات فقط خلال الفترة نفسها من العام الماضي، كما امتدت تلك الجرائم في بريطانيا، من الشوارع وأماكن العمل ودور العبادة إلى الفضاء الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي، ومن شأن ذلك تزايد الانقسامات داخل المجتمع حول العدوان على غزة، ويتأكد ذلك في ضوء المؤشرات التالية:

(*) تزايد معدلات جرائم "معاداة السامية": تفيد إحصاءات الشرطة البريطانية بتسجيل نحو 218 جريمة "معادية للسامية" في الفترة من 1 أكتوبر إلى 18 أكتوبر 2023، مقارنة بإجمالي 15 جريمة فقط في نفس الفترة من العام الماضي، وهو ما يعني زيادة هذه الجرائم بمعدل 14 ضعفًا، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وقد لاقى المدانون بتلك الجرائم إما التوقيف وإما الغرامات المالية.

وقال ديف ريتش، مدير السياسات في لجنة العلم والتكنولوجيا بمؤسسة "أمن المجتمع" المعنية باليهود البريطانيين: إن ارتفاع منسوب تلك الجرائم "يحدث في كل مرة تكون فيها إسرائيل في حالة حرب"، وأوضحت المؤسسة، أنه في حين أدت الأزمات في الشرق الأوسط إلى زيادة مثل هذه الجرائم في بريطانيا، فإن الزيادة هذه المرة تبدو كبيرة بشكل غير عادي، وقد انعكس ذلك على حرص حكومة سوناك على حماية التجمعات والشركات والمراكز الدينية اليهودية، إذ أعلن سوناك عن تخصيص 3 ملايين جنيه إسترليني لهذا الغرض.

(*) تزايد معدلات الجرائم الموجهة ضد المسلمين: تعرض المسلمون إلى 291 اعتداءً بين 7 و19 أكتوبر الماضي، وهو ما يعادل 6 أضعاف ما سُجل من جرائم مشابهة في الفترة نفسها العام الماضي.

ولفتت منظمة "تيل ماما" إلى أن الجرائم الموجهة ضد المسلمين خلال الفترة المذكورة، انقسمت بين 132 اعتداءً ماديًا أو فعليًا على الجالية المسلمة في مدن مختلفة على امتداد إنجلترا، و159 جريمة بالفضاء الإلكتروني تضمنت مصطلحات واستعارات معادية للمسلمين وتربط معتقداتهم ومجتمعاتهم بالإرهاب، وتتوزع الجرائم الفعلية الناتجة عن اعتداءات مادية ضد المسلمين، كما سجلتها هذه المنظمة خلال أسبوعين، على عدة مناطق منها: لندن التي سجلت 88 حالة (بزيادة مضاعفة)، و15 حالة في مانشيستر الكبرى، و5 حالات في لانكشاير، و3 في جنوب يوركشاير، و6 حالات في ويست يوركشاير، و5 حالات في إيست ميدلاندز، و7 في ويست ميدلاندز، وحالة واحدة في الجنوب الغربي، وحالتين في الشمال الشرقي.

تداعيات جوهرية

ترتب على الانقسامات داخل المجتمع البريطاني إزاء العدوان على غزة بعض التداعيات التي يمكن توضيحها فيما يلي:

(&) تشتت النواب البريطانيين بين الجانبين المؤيد والمعارض للحرب على غزة: مع اصطفاف الجاليتين اليهودية والمسلمة على ضفتين متقابلتين إزاء الصراع المتصاعد في الشرق الأوسط، يجد النواب البريطانيون أنفسهم أمام معضلة في مناطق تمثيلهم، حيث باتوا مطالبين بتأييد إسرائيل بشكل واضح ومباشر في أماكن التجمعات اليهودية، ومطالبين كذلك بالدعوة إلى وقف الحرب ونصرة الفلسطينيين في البلدات والمدن التي يشكل المسلمون أكثرية فيها.

وقال كير ستارمر، زعيم حزب العمال المعارض، أمام مجلس العموم، إن التصاعد الكبير في جرائم الكراهية ضد المسلمين أو اليهود على السواء "مثير للاشمئزاز، ويتوجب على كل نائب في دائرته الانتخابية أن يقول لا للكراهية". أما سوناك فقد قال "إن البرلمان يجب أن يؤدي دوره في مواجهة الكراهية بين البريطانيين".

ونقلت مجلة "بوليتيكو" عن النائبة الاسكتلندية في منطقة جلاسكو، أليسون ثيوليس، أنها تلقت أكثر من 800 رسالة بشأن الحرب في الشرق الأوسط خلال أسبوعين، وأشارت إلى أن اليهود في مناطقهم يشعرون بقلق شديد إزاء ما يحدث هناك، بينما يندد المسلمون بتأييد الحكومة والساسة في بريطانيا لهجوم إسرائيل على قطاع غزة.

(&) بروز الانقسامات داخل الحزب الواحد: تقدَّمَ عدد من أعضاء حزب العمال في مجالس البلديات باستقالتهم بعد تصريحات لزعيم الحزب كير ستارمر، أيّد خلاله قطع إسرائيل للكهرباء والمياه عن سكان غزة في سياق حربها على القطاع، كما هدد عشرات المسلمين بالتخلي عن تأييد الحزب، ووصلت إلى ستارمر، رسالة استياء وانتقاد موقعة من قبل ما يزيد على ألف شخصية سياسية ودينية.

وذهب عضو الحزب إيفان جاش، إلى أن موقف زعيم "العمال" يصب في اتجاهين رئيسيين، الأول يتمثّل في خشيته من تهم "معاداة السامية" التي لطالما لاحقت الحزب في عهد سلفه جيرمي كوربين، والثاني أن حرب غزة تزامنت مع المؤتمر السنوي للحزب، حيث كان ستارمر يحشد الدعم الشعبي للعمال تمهيدًا للانتخابات العامة المقبلة.

سوناك وبريفرمان

(&) إقالة وزيرة الداخلية المثيرة للجدل سويلا بريفرمان، تعرّض سوناك لضغوط متزايدة لإقالتها، بعدما اتهمها منتقدوها بتأجيج التوترات خلال أسابيع من التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والاحتجاجات المضادة في المملكة المتحدة. وأقيلت بريفرمان على خلفية اتهامها عناصر الشرطة أنهم "يفاضلون" عندما يتعلق الأمر بالتظاهرات واعتبرت أنهم تجاهلوا "الغوغاء المؤيدين للفلسطينيين" خلال مسيرات احتجاج على الحرب. وجاءت تصريحاتها التي تلقفها الجناح اليميني لحزب المحافظين الحاكم، بعدما وصفت المسيرات الداعية لوقف إطلاق النار في غزة بأنها "مسيرات كراهية"، بعد أيام على قولها إن العيش بلا مأوى هو "خيار لنمط الحياة".

تغير في المشهد السياسي

في ضوء التداعيات السابقة، عقدت الحكومة البريطانية، في السابع من هذا الشهر، اجتماعًا طارئًا للاستجابة لتأثير الحرب في غزة على تماسك المجتمع البريطاني. وجاء هذا الاجتماع استجابة لضرورة مناقشة بعض المقترحات للتعامل مع انقسامات الجبهة الداخلية، فالبعض يرى أن هناك حاجة لإدخال التعديلات على قوانين محاربة جرائم الكراهية؛ حيث لا تشمل التشريعات الحالية كل ما يمكن تصنيفه كخطاب كراهية، أو التحريض ضد الدين أو العرق، وقد لا تكون هذه التصنيفات القائمة بالوضوح الكافي الذي يحدد بدقة الجرائم من هذا النوع. وطالب كذلك وزير الداخلية الأسبق ساجد جافيد، خلال جلسة برلمانية، بإلغاء تأشيرة كل أجنبي يُتهَم بجرائم الكراهية، وسحب جنسية كل مواطن يثبت ارتكابه لها انطلاقًا من تعارضها مع القيم البريطانية، ويتوجب على الدولة عدم التسامح فيها.

وقد أثر ذلك على المشهد السياسي البريطاني، ويمكن في ضوئها تفسير قيام رئيس الحكومة البريطانية وزعيم المعارضة إلى تقديم مذكرة موحدة إلى البرلمان، أدانا فيها هجوم المقاومة الفلسطينية على إسرائيل، وطالبا الأخيرة باحترام القانون الدولي في حربها على الحركة، وسط تساؤلات حول ما إذا كان هذا التحرك كافيًا لاحتواء تداعيات الحرب على غزة على تماسك المجتمع في المملكة المتحدة.

وقد يمتد تأثير هذه التداعيات إلى مستقبل المشهد السياسي البريطاني، فقد فسر البعض تصريحات وزيرة الداخلية البريطانية المقالة منذ أيام، بميلها إلى إذكاء حروب الثقافات التي قد تكون مفيدة لحزب المحافظين في محاولته إصلاح تراجعه الكبير أمام حزب العمال في استطلاعات الرأي قبل الانتخابات التي يتعين إجراؤها بحلول يناير 2025، فمؤخرًا وصفت بريفرمان- وهي من والدين هنديين هاجرا إلى بريطانيا في الستينات- التعددية الثقافية بأنها "عقيدة مضللة"، كما هاجمت الميثاق العالمي للأمم المتحدة بشأن اللاجئين، وحذرت من أن بريطانيا تواجه "إعصار" هجرة.

ويرى البعض الآخر أن هذه التصريحات لبريفرمان تعزز التكهنات بأنها تهيئ نفسها للتنافس على زعامة حزب المحافظين، أو أن تصريحاتها حيلة متعمدة من حزب سوناك لجذب اليمينيين قبل الانتخابات العامة المقبلة.

في النهاية، يمكن القول إن تداعيات الحرب على غزة امتدت بالفعل إلى المشهد السياسي البريطاني عبر التأثير في تماسك المجتمع في المملكة المتحدة، فالحالة البريطانية تعكس حالة الانقسام داخل المجتمعات الأوروبية الغربية إزاء الحرب الإسرائيلية المستعرة على غزة.

وعلى الرغم من أن القيادات السياسية ووسائل الإعلام التقليدية في الغرب تطرح وتدعم سردية منحازة بالكامل للموقف الإسرائيلي، إلا إن الرأي العام الغربي يشهد انقسامات مهمة حول القضية الفلسطينية مع استمرار آلة الحرب الإسرائيلية ووحشيتها في قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين، حيث أصبح قطاع مهم، يضم الشباب والمهاجرين والحركات الاجتماعية التقدمية، ينحاز بشكل متزايد للموقف الفلسطيني، مما يخلق تناقضات مهمة داخل المجتمعات الغربية، من المهم الاستفادة منها بالدفع نحو سياسات أكثر توازنًا وأكثر توافقًا مع المصالح العربية والفلسطينية.

وفي حالة استمرار هذه الحرب من المرجح أن ينضم إلى هذا القطاع، فئات أخرى من مواطني الدول الغربية خاصة الأوروبية ممن تتزايد لديهم المخاوف من تمدد تداعيات هذه الحرب إليهم عبر زيادة الأسعار، وارتفاع معدلات التضخم في دولهم، فقد حذرت صحف أوروبية، من أن استمرار الحرب في غزة سيؤدي إلى ارتفاع التضخم في أوروبا، في حين تواصل البنوك المركزية نضالها من أجل الحد منه.

كما حذر "البنك الدولي" من احتمالية ارتفاع أسعار النفط إلى مما يزيد عن 150 دولارًا للبرميل، ومن الممكن أن تؤدى الحرب طويلة الأمد في المنطقة إلى ارتفاعات كبيرة في أسعار الطاقة والأغذية بعد عام واحد فقط من ارتفاع الأسعار بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، ويتأكد ذلك مع تصريح ألفريد كامر، مدير الإدارة الأوروبية لصندوق النقد الدولي، بأن الصراع بين غزة له بالفعل تأثير على أسعار الطاقة، الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة التضخم في أوروبا بجميع المجالات، وبالتالي توقع تزايد عدد المواطنين الأوروبيين المطالبين في وجه إسرائيل بوقف عدوانها على غزة، ليس فقط بدوافع إنسانية بل إن أضرارها قد لحقت بهم.