شكل الموقف الإنساني للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش من الحرب على غزة، انحيازًا للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وانتصارًا للقيم الإنسانية النبيلة التي دعا إليها ميثاق الأمم المتحدة، فهو لم يكتفِ بالنداءات أو المناشدات من مقر عمله أمينًا عامًا للأمم المتحدة، وإنما جاء مُسرعًا إلى معبر رفح من الجانب المصري، ليعقد مؤتمرًا صحفيًا عالميًا يطالب فيه بضرورة دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ومُحذرًا من التداعيات الإنسانية لاستمرار الحرب.
كما حذر خلال مشاركاته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، الخاصة بتطورات الموقف في غزة، من تفاقم تهديدات السلم والأمن الدولين في حال اتساع رقعة الصراع وعدم السيطرة على مساراته. كما جاءت رسالته إلى مجلس الأمن وفقًا للمادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، لتوصف بالخطوة الدستورية الكبرى.
جهود مؤثرة:
هناك العديد من الجهود والمواقف التي قادها أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، التي يمكن إبراز أهمها في التالي:
(*) عقد مؤتمر صحفى عالمي أمام معبر رفح: عقد جوتيريش مؤتمرًا صحفيًا عالميًا أمام معبر رفح، 20 أكتوبر 2023، مُتفقدًا الاستعدادات لدخول الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية الغذائية والدوائية، لإنقاذ حياة المتضررين من الفلسطينيين، مشيرًا للمفارقة بأنه يوجد 2 مليون شخص يعانون نقصًا حادًا في المواد الغذائية والطبية ونقص الوقود وهم تحت النيران، هذا في ظل تواجد الكثير من الشاحنات المحملة بالمياه والطعام والوقود فى معبر رفح، داعيًا إلى عدم معاقبة المدنيين في غزة مرتين، الأولى بسبب الحرب، والثانية بسبب فقدان الغيث الإنساني.
(*) المشاركة في قمة القاهرة للسلام: شارك جوتيريش في فعاليات قمة القاهرة للسلام، 21 أكتوبر 2023، ودعا إلى ضرورة ضمان وصول مواد الإغاثة بصورة آمنة وفورية ومستدامة للمدنيين المحاصرين في القطاع، والإطلاق الفوري لسراح جميع المحتجزين، لمنع انتشار العنف والمخاطرة بتوسيع رقعة الصراع، لذلك ناشد جوتيريش مختلف الدول لوقف إطلاق النار لأغراض إنسانية، معتبرًا أن المظالم الفلسطينية طويلة الأمد مشروعة.
وأدان الأمين العام ما يقوم به الاحتلال في غزة، مؤكدًا أن هجوم الفصائل ليس مبررًا لما يتعرض له الفلسطينيون من عقاب جماعي، كما شدد على ضرورة الامتثال للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك اتفاقيات جنيف التي تقر بحماية المدنيين والامتناع عن شن الهجمات على المستشفيات والمدارس ومنشآت الأمم المتحدة، التي تؤوي نصف مليون شخص، وأن الوقت قد حان للعمل على إنهاء هذا الكابوس المروع وبناء مستقبل يليق بأحلام أطفال فلسطين وإسرائيل والمنطقة والعالم.
(*) تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة: تنص المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه "من حق الأمين العام للأمم المتحدة أن يلفت انتباه مجلس الأمن الدولي لأي قضية يعتقد بأنها يمكن أن تهدد الأمن والسلم العالميين"، وفي رسالة جوتيريش إلى رئيس مجلس الأمن، 6 ديسمبر 2023، حذر من انهيار كامل ووشيك للنظام العام في قطاع غزة، مطالبًا بضرورة إعلان وقف إنساني لإطلاق النار، وأشار في رسالته إلى أن أكثر من 15 ألف مدني ارتقى خلال العدوان، مع تدمير أكثر من نصف منازل القطاع المُحاصر، فيما تعرض لأكثر من 80% من السكان للنزوح القسري.
وللمفارقة فإن انعقاد مجلس الأمن وفقًا لدعوة الأمين العام للأمم المتحدة لم ينجح في تمرير مشروع القانون، بسبب استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لحق النقض "الفيتو".
(*) رفض إقامة المستوطنات الإسرائيلية: قدم جوتيريش منتصف ديسمبر 2023 تقريره ربع السنوي عن تنفيذ القرار رقم 2334 إلى مجلس الأمن الدولي، وهو القرار الذي تبناه المجلس، 23 ديسمبر 2016، وينص على أن المستوطنات الإسرائيلية تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي.
وأبدى "جوتيريش" قلقه وانزعاجه من نطاق الموت والدمار في غزة، وقال إنه "مرعوب من فكرة أن الغارات الإسرائيلية أصابت أشخاصًا محميين"، بما في ذلك الصحفيين وعمال الإغاثة، ومنهم أكثر من 131 شخصًا من منتسبي الأمم المتحدة، ضمن أكبر خسارة في الأرواح بتاريخ المنظمة.
وطالب الأمين العام، إسرائيل باعتبارها السلطة القائمة بالاحتلال، باتخاذ خطوات فورية لإنهاء المستويات غير المسبوقة من عنف المستوطنين وحماية السكان الفلسطينيين من الهجمات المتزايدة وحوادث استخدام العنف والترهيب لطرد الفلسطينيين من منازلهم، وكذلك ضمان سلامة وأمن السكان الفلسطينيين والتحقيق مع مرتكبي الهجمات ومحاسبتهم، مشيرًا إلى أن 2023 شهد أكبر عدد من حوادث المستوطنين منذ أن بدأ مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية تسجيل البيانات عام 2006.
(*) التحذير من تفاقم التهديدات للأمن والسلم الدوليين: حذر جوتيريش من تفاقم التهديدات القائمة، التي تعرض السلام والأمن الدوليين للخطر، إذ أرجع أن خطر انهيار النظام الإنساني في قطاع غزة يرتبط بشكل أساسي بالانعدام التام لسلامة الموظفين الدوليين في غزة، وبطبيعة العمليات العسكرية وكثافتها، التي تحد بشدة من إمكان الوصول إلى الأشخاص الذين هم في أمس الحاجة للمساعدة.
وبلغ انتقاد جوتيريش لإسرائيل ذروته عندما اعتبر أن هجمات الفصائل الفلسطينية لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي يشهده القطاع، وأنها "لم تحدث من فراغ"، وإنما تمخضت عن تعرض الشعب الفلسطيني لـ"احتلال خانق على مدى 56 عامًا".
مقومات داعمة:
تمثل مواقف جوتيريش من الحرب على غزة وسعيه الدؤوب للتحذير من مخاطر التصعيد الإسرائيلي وتداعياته الإنسانية، ورفض استهداف المدنيين من النساء والأطفال، والدعوة إلى احترام قواعد القانون الدولي الإنساني ارتباطًا بعاملين جوهريين، على النحو التالي:
(&) العامل الأول: المؤهلات والخبرات التي يتمتع بها الأمين العام للأمم المتحدة، لا سيما في مجال التعامل مع الأزمات الإنسانية، إذ تولى لما يقرب من عقد كامل في الفترة من 2005 إلى 2015، منصب المفوض السامي لشؤون اللاجئين، وحقق إنجازات ملموسة في التصدي لقضايا اللاجئين، من خلال تقديم المساعدات الإنسانية لما يقرب من 60 مليون لاجئ حول العالم في ذلك التوقيت، وكان في مقدمتهم الاهتمام باللاجئين العراقيين بعد الغزو الأمريكي للعراق، وكذلك اللاجئين السوريين عقب الأزمة السورية.
(&) العامل الثاني: وربما الأهم أنه عبّر عن الدور المتنامي للانسجام مع المهمة الإنسانية للمنظمة الدولية، التي ترتبط بوجود أمناء عامين للأمم المتحدة لديهم القدرة على تفعيل ذلك الدور الإنساني ودعم استقلالية المنظمة، وبالتالي فقد استلهم جوتيريش أهمية أدوار هؤلاء المؤثرين، منهم داج همرشولد (1953-1960)، الذي سعى للحفاظ على استقلال المنظمة خلال الحرب الباردة، ودافع عن استقلال الدول الإفريقية، وجاء مصرعه خلال أزمة الكونغو وهو يزورها لمساندة استقلالها، وأدان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وطالب بانسحاب المعتدين كما هدد بتقديم استقالته.
وكذلك دور بطرس غالي "1991-1996" في دعم دور الأمم المتحدة لمنع تفاقم الأزمات، كما شكل موقفه من تقرير مذبحة قانا، إذ أصر على نشر نتائج التحقيق الذي خلص إلى أن ضرب قانا كان متعمدًا، في المذبحة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية، 18 أبريل 1996، التي قصفت أحد مواقع قوات حفظ السلام في لبنان، التي احتمى بها اللبنانيون من الغارات العسكرية في عملية "عناقيد الغضب".
مجمل القول؛ إن دور أنطونيو جوتيريش في الحد من التداعيات الإنسانية للحرب على غزة، وإصراره على وقف إطلاق النار لإدخال المساعدات الإنسانية، وأن الوضع في غزة يهدد الاستقرار والسلم الدوليين، وأنه لا يوجد طرف في نزاع مُسلح فوق القانون الإنساني الدولي، وأن هجمات الفصائل لم تحدث من فراغ، يترجم مقاصد منظمة الأمم المتحدة من أجل إرساء السلام والأمن الدوليين، وتضع جوتيريش ووقوفه أمام الغطرسة الإسرائيلية في مكانة تاريخية باعتباره من أفضل الأمناء العامين في تاريخ المنظمة.