لا يقتصر أثر الاعتداءات الوحشية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة على الشرق الأوسط فقط، بل يهدد بزلزال في موازين القوى العالمية، واستنزاف الموارد الأوروبية والأمريكية، في ذات الوقت يخلق فرص تقدم جديدة للتنين الصيني، ويخفف الضغط عن موسكو، بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية.
نار الأزمة
وقالت الصحيفة الأمريكية، إن الأثر الممتد للأزمة المشتعلة يصعب التنبؤ به، مشيرة إلى أنه يعتمد في المقام الأول على ما إذا كانت إسرائيل قادرة في نهاية الأمر على تحقيق هدفها المتمثل في القضاء على فصائل المقاومة بقطاع غزة، وهو – بحسب ما أشار عدد من الخبراء للصحيفة- أمر مشكوك فيه إلى حد كبير.
وأشارت الصحيفة إلى قضية أخرى، متمثلة فيما مدى صمود علاقات إسرائيل الدبلوماسية بالمنطقة ومدى متانة وصلابة المكانة الدولية لداعميها الغربيين، في ظل الارتفاع الدموي لأعداد الشهداء المدنيين بقطاع غزة، والمجازر التي تلوح في الأفق في حال قرر جيش الاحتلال شنّ اجتياح بري.
وأشارت الصحيفة إلى أن عملية "طوفان الأقصى" قدمت هديةً لخصوم أمريكا الجيوسياسيين الرئيسيين، إذ طالما سعت بكين وموسكو لزعزعة النظام الدولي المدعوم من الولايات المتحدة، مستغلة في الوقت الحالي حالة الارتباك التي يشهدها البيت الأبيض، واستشهدت بتصريحات ألكسندر ستوب رئيس الوزراء الفنلندي السابق، المرشح الحالي لرئاستها: "ما نشهده الآن هو جزء من نظام عالمي متحول ومتنقل، عندما تترك الولايات المتحدة فراغات في السلطة، سوف يملأ طرف ما هذه الفراغات".
حرب غزة تزلزل الموازين
توضح وول ستريت جورنال أنه لا شك في أن واشنطن تحاول تسعى لتأكيد وجودها بالشرق الأوسط، عن طريق لعب دورها من خلال وصفها حليف أساسي لإسرائيل وبعض الدول العربية، من خلال الدبلوماسية المكوكية والانتشار العسكري، وهو ارتباط يلقى ترحيبًا من الجمهوريين والديمقراطيين.
لكن الصحيفة أشارت إلى أن موسكو هي المستفيد الأكبر من التوترات الحالية، ففي إشارتها إلى تزايد أعداد الشهداء الفلسطينيين، وجهت روسيا نقدها إلى الحكومات الغربية واصفة إياها بالنفاق، حين أدانت بشدة ما فعله الروس ضد المدنيين في أوكرانيا، لكنها لم تبدِ إلا إدانة طفيفة لأفعال جيش الاحتلال الإسرائيلي في مدنيي قطاع غزة العُزّل.
وقارن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بين الحصار الذي فرضه جيش الاحتلال على قطاع غزة، وحصار ستالينجراد خلال الحرب العالمية الثانية، مشيرًا في جوهر التشبيه بين الإسرائيليين والنازيين في الأفعال.
وتتناسب مثل هذه التصريحات مع الجهود الدبلوماسية التي تبذلها روسيا لتصوير نفسها على أنها زعيمة الحركة العالمية ضد "الاستعمار الجديد" الغربي، وهذا يتناقض بشكل صارخ مع العلاقة الودية بين بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
ومن جهته، أشار وزير خارجية ليتوانيا، جابرييليوس لاندسبيرجيس، في تصريح تلفزيوني سابق، إلى أن "أي صراع يصرف بعض الانتباه عن أوكرانيا هو في مصلحة روسيا إلى حد كبير، وعلى الرغم من أنهم ربما لم يكونوا هم من بدأوا هذا الصراع، إلا أن الروس لديهم حافز قوي لإبقاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مستمرًا لأطول فترة ممكنة، وهذا يخدم مصالح الروس على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي في أوكرانيا، مما يعزز خطابهم ضد الغرب".
تداعي العلاقات الإسرائيلية الصينية
ولأول مرة منذ سنوات عديدة، اهتمت الصين أيضًا بالقضية الفلسطينية، بحسب ما أشارت الصحيفة الأمريكية، في حين كانت علاقاتها ودية ذات يوم مع إسرائيل إلا أنها تتدهور الآن بسرعة، ومن الواضح أن الصين امتنعت عن استخدام مصطلح "الإرهاب" لوصف عملية طوفان الأقصى، وهو ما لم يرق الحكومة الإسرائيلية على الإطلاق، رغم أن السلطات الإسرائيلية ادعت أن أربعة مواطنين صينيين قتلوا في العملية، وأن فصائل المقاومة احتجزت ثلاثة آخرين رهائن لديها.
وفي أول تصريحات علنية له منذ بدء عملية طوفان الأقصى، صرح وزير الخارجية الصيني وانج يي بأن "جوهر الأمر هو أن العدالة لم تتحقق للشعب الفلسطيني".
ووفقًا للتقرير، فإن مراقبي الشؤون الصينية، يشيرون إلى استفادة بكين من تحول انشغال واشنطن بأزمة الشرق الأوسط، في الوقت الذي تستعد فيه لمواجهة محتملة مع الولايات المتحدة حول مستقبل تايوان.
وقال أنطوان بونداز، الخبير في الشؤون الصينية لدى مؤسسة البحوث الاستراتيجية في باريس: "المهم بالنسبة للصين مصالحها الخاصة، و بالنسبة للصين أكثر ما يهمها هو علاقتها مع الولايات المتحدة، والطريقة التي ستضعف بها بكين واشنطن"، موضحًا أن التنين الصيني سيعمل على تصوير واشنطن على أنها وسيط انعدام الاستقرار، والصين على أنها وسيط السلام.
وأضاف بونداز: "يتمثل الهدف الصيني في تقديم نفسه للدول النامية، على أنه بديل عالمي، أشد جاذبية من الولايات المتحدة".
تهديد أوروبي
يعتقد عدد من الدول الأوروبية أن تصعيد الحرب يمكن أن يؤدي إلى أزمة طاقة، مما يعوق توفر بدائل الشرق الأوسط للغاز والنفط الروسي، بالإضافة إلى توتر العلاقات داخل المنطقة وصرف الانتباه عن أوكرانيا.
هناك أيضًا احتمال أن تؤدي مجازر جيش الاحتلال في قطاع غزة إلى إثارة أعمال عنف جديدة في كل مكان، إذ إنه ابتداءً من هذا الأسبوع، اجتاحت شوارع المدن الأوروبية الكبرى بالفعل مظاهرات حاشدة مؤيدة لفلسطين، بل إن بعض المتظاهرين كانوا يهتفون بتدمير إسرائيل ويؤيدون أهداف فصائل المقاومة.
وبحسب توماس جومارت، مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، فإن "كل ما يحدث بهذه الخطورة في قطاع غزة أو في إسرائيل له عواقب على أوروبا، إن تداخل واندماج المسارح المختلفة هو ما نشهده حاليًا".
وتساءل جومارت عن المنطقة الرئيسية التي سوف تهيمن على الشؤون الأوروبية في السنوات المقبلة: الشرق الأوسط، أو أوكرانيا، أو القوقاز، أو إيران؟
أوكرانيا خارج بؤرة الضوء
تؤكد الصحيفة أنه مما لا شك فيه أن روسيا تعتمد على تضاؤل اهتمام الغرب بأوكرانيا، إذ إن الدعم العسكري والموارد المحدودة بالفعل المخصصة لها قد تصبح أكثر ندرة إذا امتدت الأزمة في الشرق الأوسط إلى عدة أطراف إقليمية، واعترفت كييف بهذا الخطر.
وفي هذا الشأن صرح كيريلو بودانوف، رئيس المخابرات الأوكرانية، في مقابلة مع صحيفة برافدا: "إذا كان الصراع محدودًا بالوقت، أي بضعة أسابيع، فمن حيث المبدأ لا يوجد ما يدعو للقلق، ولكن من المنطقي تمامًا أن تنشأ المشكلات إذا استمرت الأمور على هذا النحو، خاصة وأن دولًا إضافية ستحتاج أيضًا إلى إمدادات من الأسلحة والذخيرة بعد أوكرانيا".
وحتى هذه اللحظة، كان القليل من الدعم العسكري الذي سارعت الولايات المتحدة بإرساله إلى إسرائيل، من النوع الذي تحتاج إليه أوكرانيا.
صرح فرانز ستيفان جادي، الرئيس التنفيذي لشركة جادي للاستشارات، وهي شركة استشارات عسكرية لها مكاتب في فيينا، بأن "قوة الدفاع الإسرائيلية هي جيش على الطراز الغربي للغاية، يتمتع بقوة نيران جوية، وهو ما يمكن معالجته بسهولة أكبر. من جهة أخرى، يبقى الجيش الأوكراني قوةً ذات إرث سوفييتي، فغالبية القوة النارية لديه برية، وهو ما يجعل دعمه أصعب بكثير على الولايات المتحدة".
كان الخطر الأكبر الذي واجه أوكرانيا في الأسابيع القليلة الماضية هو عدم رغبة بعض أعضاء مجلس النواب الجمهوريين في السماح بتقديم المزيد من المساعدات الأمريكية للبلاد، ونظراً لأن إدارة بايدن تريد إرسال حزمة من المساعدات العسكرية إلى إسرائيل بالإضافة إلى المساعدات المخصصة لأوكرانيا، فإن الأزمة قد تزيل العقبة فعليًا.