يواجه رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك تهديدات جدية لاستمرار زعامته لحزب المحافظين، في ظل موجة الاستقالات وضغوط كبار قادة الحزب لإجراء انتخابات مبكرة، فيما كشف استطلاع داخلي بالحزب -صدر في 4 سبتمبر 2023- التراجع المستمر في تأييد سوناك وكبار مسئولي حكومته.
وشكل نبأ استقالة وزير الدفاع البريطاني المخضرم بن والاس -أحد أبرز قادة حزب المحافظين وأبرز مسئولي الدفاع الغربيين دعمًا لأوكرانيا خلال الحرب الجارية مع روسيا- في 31 أغسطس 2023، زلزالًا سياسيًا في المملكة المتحدة، قبل أن ينقلب دعمه المطلق إلى انتقاد علني وصريح للقيادة الأوكرانية بدعوتها لإظهار الامتنان على حجم الدعم العسكري والاقتصادي الغربي.
ورغم اختلاف سياق استقالة "والاس"، إلا أن السجال الداخلي في حزب المحافظين منذ طرد بوريس جونسون من مجلس العموم، وصولًا لانسحاب حلفاء من البرلمان بضغوط من الحزب، بات تحديًا كبيرًا لاستمرار زعامة "سوناك" الذي لم يأتِ لمنصب رئاسة الوزراء عبر قيادة انتخابات عامة مباشرة خلال زعامته للحزب على غرار بوريس جونسون.
سياق داخلي مضطرب
تحدد التحولات في الساحة السياسية البريطانية جانبًا من أسباب الاستقالة، وسط مؤشرات تراجع الدعم الشعبي لحزب المحافظين، وبروز الإضرابات الفئوية، وصعود الخطاب الانفصالي في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، ويمكن رؤية مؤشرات تصدع الجبهة الداخلية للحزب فيما يلي:
(*) خسارة الانتخابات الفرعية: ظهر التراجع الكبير في شعبية حزب المحافظين الحاكم خلال الانتخابات الفرعية التي أُجريت في يوليو الماضي، وأسفرت عن خسارة مقعدين من إجمالي ثلاث مقاعد لصالح حزب العمال المعارض الرئيسي وحزب الديمقراطيين الأحرار، بينما تمكن الحزب من الاحتفاظ بمقعد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون في أوكسبريدج بفارق ضئيل من الأصوات.
وكانت الانتخابات الفرعية أبرز مؤشرات تراجع شعبية الحزب وتزايد احتمالات خسارته مقاعد رئيسية، بعدما أحدث رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون شرخًا عميقًا داخل حزب المحافظين، على خلفية فضيحة "بارتي جيت" وانسحابه من مجلس العموم بعد إدانة نواب المجلس له في يونيو الماضي. وفيما كان سوناك يتطلع لإجراء تعديل وزاري محدود، دفعت نتائج الانتخابات الفرعية عددًا من قادة الحزب للضغط على رئيس الوزراء نحو إجراء انتخابات مبكرة في مايو 2024، تجنبًا لخسارة فادحة.
ويعزز من مسار التراجع، إعلان وزيرة الثقافة السابقة نادين دوريس، أحد أبرز مؤيدي رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، استقالتها من مجلس العموم في 26 أغسطس الماضي، متهمة رئيس الوزراء ريشي سوناك بمنع عضويتها في مجلس اللوردات، على خلفية النزاع الأوسع على قيادة الحزب، واتهامه بإسقاط بوريس جونسون. كما من المرجح أن يستقيل كريس بينشر عن دائرة "تامورث" على خلفية تعليق عضويته لثمانية أسابيع، مما يعني احتمالية خسارة مقاعد أخرى للحزب في انتخابات فرعية جديدة على مقعدي "ميد-بيدفورد شاير" و"تامورث".
(*) تراجع التبرعات المالية لحزب المحافظين: تشهد ميزانيات الأحزاب زيادة في الدعم المالي السنوي لحزب العمال المعارض، والتي بلغت في عام 2022 نحو 47,2 مليون جنيه إسترليني، حسب صحيفة "ذا جارديان"، بمعدل 50% زيادة عن ميزانية حزب المحافظين التي شهدت تراجعًا لتسجل 30,5 مليون إسترليني فقط، كما شهد حزب الديمقراطيين الأحرار كذلك زيادة في التبرعات لتقفز بميزانية الحزب إلى 6 ملايين جنيه إسترليني.
(*) تقدم العمال: بحسب استطلاع مجلة بوليتيكو الأمريكية حول اتجاهات التصويت المحتملة في الانتخابات البريطانية العامة المقبلة يُظهِر تقدم حزب العمال المعارض بنسبة 45%، بفارق 18 نقطة عن حزب المحافظين الحاكم الذي سجل 27% على خلفية الصراعات على زعامة الحزب والتي من المرجح أن تشتعل مجددًا قبيل الانتخابات العامة المقبلة، على خلفية التدهور المستمر في شعبية الحزب، وخسارة بعض مقاعده لصالح حزب الديمقراطيين الأحرار الذي حاز نسبة 11% بالاستطلاع، ويرفع شعار كسر "الجدار الأزرق" الذي يمثل هيمنة المحافظين في جنوب إنجلترا، بعد انتزاع مقعد "سومرتون وفروم" بالجنوب الغربي.
(*) تراجع تأييد سوناك بين المحافظين: يظهر استطلاع داخلي شهري بحزب المحافظين، التراجع في تأييد رئيس الوزراء ريشي سوناك بين أعضاء الحزب الكبار (داخل وخارج الحكومة)، ليحتل في استطلاع أغسطس المنشور بتاريخ 4 سبتمبر 2023، المرتبة الخامسة والعشرين بين قادة الحزب عند (-3,8 نقطة) في انخفاض عن استطلاع الشهر الماضي الذي حلّ فيه بالمرتبة الرابعة عشرة بتقييم 20,7 نقطة، وخرج وزير الدفاع المستقيل بن والاس من السباق بعدما كان في الصدارة في يوليو الماضي بنحو 76 نقطة، فيما تراجع خلفُه جرانت شابس من الترتيب السادس والعشرين في يوليو بمعدل 3,1 نقطة إلى المرتبة الثامنة والعشرين بمعدل (-10,6).
وحافظ وزير الخارجية جيمس كليفرلي على الترتيب الثالث، بينما انخفض تقييمه بأكثر من 10 نقاط، فيما حلت وزيرة الدولة للأعمال والتجارة كيمي بادينوك في المرتبة الأولى بـ59 نقطة بارتفاع 1,1 نقطة عن شهر يوليو، يليها زعيمة الأغلبية بمجلس العموم بيني موردنت بنحو 47,5 نقطة، متراجعة بنحو 1,3 عن استطلاع يوليو.
ويظهر الاستطلاع هذا الشهر مؤشرًا عامًا بتراجع ثقة المحافظين في حكومة سوناك مع تذيل قادة رئيسيين في الحكومة لقادة الحزب، في مقابل صعود صغار الوزراء، خاصة في ملفات الطاقة.
تداعيات واسعة:
تشير الاضطرابات داخل حزب المحافظين إلى وجود تغييرات واسعة في الحزب والحكومة، تتضمن تعزيز موقع "سوناك" في مواجهة خصومه، وصولًا لاقتراع آمن يأمل فيه الحزب للحفاظ على وجوده في السلطة حتى يناير 2025، ومن الممكن أن يترتب على ذلك تداعيات عدة في المشهد السياسي البريطاني، يمكن حسمها في سياق أي من السيناريوهين التاليين:
(&) نجاح هيمنة سوناك: سادت الانتقادات الحزبية والإعلامية لاختيار وزير الدفاع الجديد جرانت شابس لعدم خبرته ومعرفته بالمجال الدفاعي، لكنه يكتسب تقييمًا سياسيًا جيدًا كوزير لأمن الطاقة، فضلًا عن كونه أحد أقرب المؤيدين لسوناك وغير الراغبين في منافسته على زعامة الحزب ومنصب رئيس الوزراء، وربما كان ذلك مؤشرًا لحساسية الموقف الداخلي في ظل الانتقسامات بالحزب والتي قد تتصاعد بوجه مساعي سوناك لتقوية قبضته على الحزب عبر تعديل حكومي مرتقب.
ويعتمد ذلك السيناريو على مواجهة واحتواء المنافسين المحتملين على زعامة الحزب، والتأكد من ولائهم له، وهو اتجاه يدعمه استقالة بن والاس من منصبه الوزاري، فرغم شعبيته الواسعة إلا أنه ربما يفضل الابتعاد عن مشهد الصراع على زعامة الحزب منذ الإطاحة ببوريس جونسون وليز تراس، وصولًا لمساعي سوناك لمواجهة معارضيه عبر تعزيز مواقع أهل الثقة داخل الحكومة والحزب، وهو ما يظهر كذلك في رفضه الاستقالة من مجلس العموم تجنبًا للانخراط في استقطاب سياسي لا طائل منه، وتفضيله تجنب الصراع على الزعامة أو الانحياز لأي من أطراف الصراع الراهن، والذي قد يقود لإعادة هيكلة واسعة استعدادًا للانتخابات العامة المقبلة.
وعلى الرغم من إيجابية ذلك الخيار بالنسبة لسوناك، إلا أن استمرار إعادة تنظيم الحزب والفشل في معالجة التحديات الاقتصادية قد تقود إلى خسارة الحزب معركته الانتخابية المقبلة بعد سنوات طويلة من حكم البلاد، أو فقدان الأغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا.
(&) بروز قيادة جديدة: لا يزال خيار بروز قيادة جديدة أو عودة أحد رؤساء الوزراء السابقين إلى المشهد خيارًا قائمًا، إلا أنه يقترن بتصاعد الخلافات حول تبكير الانتخابات العامة خوفًا من تصاعد تأييد حزبي العمال والديمقراطيين الأحرار في اختراق "الجدار الأزرق"، إلا أنه يمثل مخاطرة كبيرة للمحافظين من الممكن أن تعزز موقع العمال الذي لا يزال زعيمه كير ستارمر يفتقر لبرنامج انتخابي واضح بشأن تعزيز مكانة بريطانيا في مجالات العمل المناخي والريادة التكنولوجية وطرح خريطة طريق لتخفيف أزمة غلاء المعيشة بالبلاد تؤمن الانتقال من المعارضة إلى "10 داونينج ستريت".
وإجمالًا؛ تشير التغيرات داخل حزب المحافظين إلى صراع مستمر على مستقبل الحزب وزعامته قد لا يدعم استمرار سوناك حتى الانتخابات العامة مطلع 2025، رغم تصاعد الضغوط داخل الحزب لتبكير الانتخابات والتي من المرجح أن تقود سوناك للجوء إليها متى ما سنحت الفرصة للتخلص من خصومه المحتملين، وعلى رأسهم أتباع بوريس جونسون.
ويمثل التحدي الرئيسي للمحافظين الالتفاف حول قيادة موحدة لاستمرار هيمنته على السلطة لأكثر من 13 عامًا أو استمرار الصراع الداخلي الذي قد يؤدي في النهاية لانقسام الحزب وإضعافه، في ظل ضعف وتراجع شعبية ريشي سوناك زعيمًا للحزب، وسط اتجاه النظام الحزبي في البلاد إلى النموذج التعددي، بعدما سادت تجربة الحزبين وهو المرجح مع الصعود القوي لحزب الديمقراطيين الأحرار والذي يستهدف مناطق نفوذ الحزب الحاكم تحديدًا في جنوب إنجلترا.