اتجه اليونانيون الأحد، الموافق 25 يونيو الجاري إلى صناديق الاقتراع للمرة الثانية خلال شهر واحد؛ إذ لم تفضِ الانتخابات التي عُقدت في 21 مايو 2023 إلى الأغلبية التي تُمكن، كيرياكوس ميتسوتاكيس، زعيم حزب "نيا ديموكراتيا" (الديمقراطية الجديدة) المحافظ من تشكيل الحكومة منفردًا. وآثر "ميتسوتاكيس" الذهاب إلى انتخابات جديدة للحصول على الأغلبية المُطلقة التي تُمكن حكومته من الاستقرار، بما يسمح بالقدرة على تطبيق برنامجه الانتخابي. ويمنح النظام الانتخابي اليوناني مكافأة الخمسين مقعدًا للحزب الفائز بأكثر من 40% من الأصوات في دورة الاقتراع الثانية بهدف تحقيق الاستقرار الحكومي.
وأدى ميتسوتاكيس اليمين الدستورية رئيسًا للوزراء لولاية جديدة، بعدما أظهرت النتائج فوز حزب الديمقراطية الجديدة بالأغلبية المطلقة في البرلمان اليوناني، وذلك بعد فوزه بنسبة 40.55% من الأصوات. ليسيطر على 158 من إجمالي 300 مقعد، وستركز الولاية الجديدة للحزب على تنفيذ وعود النمو الاقتصادي وخفض البطالة وتحسين الأوضاع الاجتماعية والبيئية، وتنفيذ تعهدات الحزب بتحفيز الاستثمارات وتحسين الخدمات العامة والتعليم والصحة.
نناقش في هذا التحليل النظام الانتخابي اليوناني، وانعكاساته على نتائج الانتخابات والاستقرار الحكومي، والإجابة على التساؤل المتعلق بالعوامل التي أدت إلى منح اليونانيين ثقتهم لحزب الديمقراطية الجديدة.
النظام الانتخابي:
يتفرد النظام الانتخابي في اليونان بخصائص تُسهم بدورها في تحقيق الاستقرار السياسي للحكومات المُنتخبة، ومن أبرز ملامح هذا النظام:
(*) خاصيّة المكافأة: تم إدخال خاصية المكافأة الأولى في النظام الانتخابي اليوناني عام 1952، وذلك لتحقيق الاستقرار السياسي للحكومة، وتشجيع الحزب الفائز بالتصويت على تشكيل الحكومة بشكل أسرع وفاعلية أكثر. وكان قبل انتخابات 2004 يحصل الحزب الحائز على أكثرية الأصوات على 50 مقعدًا لتعزيز سيطرته. وطُبقت هذه القاعدة لتحقيق هدف رئيس يرتبط بتشكيل حكومة ذات أغلبية مستقرة ومتينة، ولتجنب الاضطرار إلى تشكيل حكومات ائتلافية غير مستقرة. وألغى البرلمان الذي كان يسيطر عليه اليسار هذه الميزة في انتخابات 2016، وعاد العمل بها مع إدخال بعض التعديلات عليها، وطُبقت في انتخابات 2023.
ويُطبق نظام الأغلبية المعززة في انتخابات 2023، ويرتبط حجم مكافأة الأغلبية بحصة التصويت الوطنية للحزب الأكبر، والتي تتراوح بين 20 مقعدًا كحد أدنى، و50 مقعدًا للحزب الحاصل على 40% من الأصوات على الأقل. ويعتبر الكثيرون أن هذه المكافأة أحد أسباب استقرار النظام السياسي اليوناني لفترات طويلة. جدير بالذكر أن نظام الأغلبية المعززة يُشجع الأحزاب على العمل الدؤوب للحصول على مكافأة الخمسين مقعدًا لتشكيل حكومة مستقرة دون الحاجة إلى الدخول في ائتلافات وتحالفات انتخابية.
(*) العتبة الانتخابية: تتوزع المقاعد في البرلمان اليوناني بناءً على نسبة الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب السياسية في الانتخابات، وهو ما يعني أن الحزب الذي يحصل على نسبة عالية من الأصوات يحصل على عدد أكبر من المقاعد، بشرط تجاوز العتبة الانتخابية التي تُقدَّر بـ 3%. ويسمح ذلك باستبعاد الأحزاب الصغيرة التي تفتقد للشعبية لصالح الأحزاب الكبيرة، وهو ما يُسهم بدوره إلى جانب خاصيّة المكافأة أو الأغلبية المعززة في منع التفتت داخل البرلمان، وتحقيق الاستقرار السياسي للحكومة بما يمنحها الفرصة الكاملة لتطبيق رؤاها وأفكارها وبرامجها السياسية.
(*) نمط الحكومات الائتلافية: يُمكن للأحزاب الفائزة بالأكثرية تشكيل حكومة ائتلافية، والتي تُعد النمط الشائع في اليونان. ويُتطلب من الحزب الفائز بأقل من 50% من الأصوات البحث عن شركاء سياسيين آخرين؛ لتشكيل حكومة ائتلافية، وفي الغالب تتشكل الحكومة الائتلافية من حزبين أو أكثر، وتعتمد الأحزاب في ذلك بالأساس على التوافقات سواءً في البرامج أو الخطط. وفي انتخابات 2023، فضَّل ميتسوتاكيس الذهاب إلى انتخابات جديدة، بدلًا من البحث عن تحالفات حزبية قد تُضعف سلطته معولًا في ذلك على حافز الأغلبية المُعززة.
مؤشرات كاشفة:
برز في انتخابات 2023 التي جرت في اليونان مرتين في مدة شهر تقريبًا العديد من المؤشرات الكاشفة، لعل أبرزها:
(&) ثقة من جديد: تنافس في هذه الانتخابات بشكلٍ أساسي حزب "الديمقراطية الجديدة" المحافظ، وحزب "سيريزا" على تشكيل الحكومة، وقد شكر رئيس الوزراء وزعيم حزب الديمقراطية الجديدة كيرياكوس ميتسوتاكيس الشعب اليوناني على الثقة التي منحها له في هذه الانتخابات؛ إذ تشير النتائج إلى حصول حزبه على 40.55%، وهي أكثر من ضعف نسبة سيريزا اليساري الذي يُعد أقرب منافسيه (17.8%).
(&) المشاركة السياسية: تشير النتائج إلى تراجع نسب المشاركة في هذه الانتخابات؛ إذ وصلت إلى 52.8% تقريبًا بعد أن كانت 61% في انتخابات مايو 2023، و57.9% في انتخابات 2019. ويُمكن أن نعزي تراجع نسب المشاركة في هذه الانتخابات إلى دعوة الناخبين اليونانيين إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في مدة لا تتجاوز شهر تقريبًا. وبرز في هذه الانتخابات ملمح إحجام الشباب عن التصويت لليسار، رغم اعتيادهم دعمه في الانتخابات السابقة.
(&) برلمان الثمانية أحزاب: بعد منافسة كبيرة بين 30 حزبًا سياسيًا تقريبًا، أفضت النتائج والتي أعلنتها وزارة الداخلية اليونانية على موقعها الإلكتروني، إلى أن البرلمان اليوناني سيتشكل فقط من 8 أحزاب استطاعت تجاوز عتبة الـ 3%؛ أبرزها أحزاب "الديمقراطية الجديدة" الذي حصل على 40.55%، و"تحالف سيريزا" الذي حصل على 17.84%، و"حركة التغيير" الذي يدعو إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتحسين الرعاية الصحية وتحقيق السلام والتعاون في منطقة شرق المتوسط (11.85%)، و"الحزب الشيوعي اليوناني" الذي يدافع عن حقوق العمال ويتبنى مواقف معادية للغرب والناتو (7.69%)، و"الحل اليوناني"، و"الحركة القومية الديمقراطية"، و"حرية الإبحار" المعروف بعدائه للمهاجرين، والتزامه بمبادئ السيادة الوطنية وتحسين الاقتصاد.
لماذا حزب الديمقراطية الجديدة؟
برز حزب الديمقراطية الجديدة في انتخابات 2019 كالمُنقذ الذي استطاع إخراج اليونان من عثرتها الاقتصادية والسياسية، وفتحها من جديد على العالم لا سيَّما أوروبا. لذا اكتسب زعيم الحزب، ميتسوتاكيس شعبية كبيرة في الشارع اليوناني، وذلك لعدة أسباب:
(#) الوفاء بوعود انتخابات 2019: أفضت نتائج انتخابات 2019 إلى تشكيل حكومة بزعامة حزب "الديمقراطية الجديدة" المحافظ الذي نجح في إعادة الاستقرار إلى أثينا بعد فترة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية، حيث كان تحالف اليسار "سيريزا" قد فاز بالانتخابات السابقة في عام 2015، ولم يتمكن من تطبيق برنامجه الاجتماعي بسبب الضغوطات القادمة من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي التي أدت في الأخير إلى اضطرار حكومة سيريزا للتوافق مع الشروط الاقتصادية الصعبة التي فرضها الدائنون الدوليون. ويعزو نجاح حزب "نيا ديموكراتيا" في الانتخابات إلى وفائه بوعوده بتخفيض الضرائب وتحسين الاقتصاد، وكذلك تعهداته بتحسين الأمن ومنع الهجرة في انتخابات 2019.
(#) الأداء الاقتصادي: اتخذت حكومة "نيا ديموكراتيا" إجراءات لتحفيز النمو الاقتصادي وتحسين الظروف المالية للشركات، من خلال تخفيض الضرائب، وتسهيل إجراءات الاستثمار، وتعزيز الأعمال التجارية، وتحسين الإدارة الضريبية والجمركية. وتشير التحليلات إلى أن الأداء الاقتصادي لليونان يُعد بمثابة المعجزة منذ انتخاب ميتسوتاكيس الذي وصل إلى قصر ماكسيموس في 2019؛ إذ انتقلت البلاد في عهد المحافظين من "جريكست" والانسحاب من الاتحاد الأوروبي إلى تحقيقها ارتفاعًا في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وخفض للضرائب بنسبة تُقدَّر بـ50 %، وزيادة الناتج المحلي بإجمالي 29 مليار يورو بالإضافة إلى الشروع في تحديث البنى التحتية للبلاد.
(#) مجابهة قضية الهجرة غير الشرعية: شهدت الحملات الدعائية للأحزاب اليونانية في الانتخابات الأخيرة تركيزًا على مسألة الهجرة غير الشرعية، متأثرة في ذلك بالكارثة الإنسانية التي حدثت في 14 يونيو الجاري، وأدت إلى غرق مركب يقل مئات المهاجرين قبالة سواحل جنوب غرب اليونان. وقد كانت قضية الهجرة عبر المتوسط من أكثر القضايا التي تؤرق المجتمع اليوناني، ورغم استمرار معاناة أثينا من هذه القضية إلا أن برنامج حكومة ميتسوتاكيس في 2019 ساعد في اتخاذ العديد من الإجراءات التي تحد من تدفقات اللاجئين ومحاربة الهجرة غير الشرعية، ومن بين هذه الإجراءات تعزيز أمن الحدود، وتعزيز التعاون الدولي لخدمة هذه القضية. وكانت اليونان واحدة من الدول التي تعاني من تدفق كبير للهجرة غير الشرعية. ويُمثل تدفق المهاجرين غير الشرعيين تحديًا كبيرًا على الاقتصاد اليوناني؛ إذ يمثل ضغطًا كبيرًا على موارد الدولة وخدماتها مثل الإسكان والرعاية الصحية والتعليم والتوظيف.
(#) إدارة علاقات اليونان الخارجية بفاعلية: أدار ميتسوتاكيس علاقات بلاده الخارجية بفاعلية كبيرة منذ انتخابه في 2019؛ حيث نجح في استمرار التعاون والتنسيق مع مصر بالإضافة إلى تقوية العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الأخرى، والنجاح في إدارة التوترات مع تركيا بشأن الحدود البحرية. جدير بالذكر أن التطورات الجديدة التي تسببت في تصاعد الخلاف بين تركيا واليونان أخيرًا تعلقت بالموارد الطبيعية في شرق البحر المتوسط. وتحديدًا، التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة، حيث تطالب تركيا بحصة في هذه الموارد بالرغم من اعتراض اليونان وقبرص على هذا الأمر.
في الختام؛ رغم الأغلبية المطلقة التي حصل عليها حزب الديمقراطية الجديدة بزعامة ميتسوتاكيس، يبقى أمام الحزب مجموعة من التحديات التي من المتوقع أن تواجه حكومته، وهي ضرورة التعامل مع التحديات الاقتصادية، خاصة في ظل الأزمات العالمية المتلاحقة، وتحسين الوضع المالي للبلاد، وتعزيز العلاقات مع دول الجوار خاصة العلاقات مع أنقرة.