يشكل الانقسام الملمح الأهم الذى يتصدر المشهد السياسي الأمريكي في مطلع العام الجديد 2023، فبعد الانتهاء من عطلة أعياد الميلاد، وفى اليوم الأول لانعقاد الكونجرس الأمريكي في دورته الـ118 في الثالث من يناير 2023 أخفق مجلس النواب لأول مرة منذ ما يقرب من قرن، منذ عام 1923، في حسم اختيار رئيس جديد له، بعد ثلاث جولات من التصويت باءت بالفشل، في ظل انقسام أعضاء الحزب الجمهوري الحائزين على الأغلبية البسيطة في التوحد خلف نائب والوصول به إلى رئاسة المجلس بعد ترشح كل من كيفن مكارثي، وآندي بيجز، وهما من الحزب الجمهوري فضلًا عن ترشح حكيم جيفرز زعيم الديمقراطيين من الحزب الديمقراطي. وهو ما دفع مجلس النواب لإرجاء التصويت على اختيار رئيس للمجلس للرابع من يناير 2023.
انقسامات متتالية
الثابت أن الانقسام داخل مجلس النواب الأمريكي، وما مثله من خروج على التقاليد الحزبية العريقة والمستقرة والمتعارف عليها في كل الممارسات الديمقراطية، فيما يتعلق بالالتزام الحزبي، يشكل انعكاسًا لأزمة المجتمع الأمريكي بشكل عام في مطلع العام الجديد 2023، كما أنه يعكس متوالية الانقسامات داخل المجتمع الأمريكي التي تشكلت لفترات ممتدة على عدة مستويات لعل أهمها:
(*) الانقسام بين الجمهوريين: عكست عملية انتخاب رئيس جديد لمجلس النواب مطلع العام الجديد 2023، وعقب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي التي حاز فيها الجمهوريون على الأغلبية البسيطة لمجلس النواب بإجمالي 222 مقعدًا للجمهوريين مقابل 212 مقعدًا للديمقراطيين (مقعد شاغر بعد وفاة نائب ديمقراطي)، عمق الانقسامات الحادة بين الجمهوريين في ظل انقسامهم بين تيارين أساسيين؛ الأول التيار التقليدي الذى دفع بكيفن مكارثى (58 عامًا) للمنافسة على منصب رئيس مجلس النواب، فيما دفع التيار اليميني المحافظ داخل الحزب الجمهوري بآندي بيجز للمنافسة أيضًا على منصب رئيس المجلس، وهو ما أدى إلى الإخفاق في حسم اختيار الرئيس بالجلسة المخصصة لذلك، حيث لا يمكن بدء دورة المجلس الحالية بدون تسمية رئيس المجلس.
وقد جسدت الاتهامات المتبادلة بين التيارين الرئيسيين داخل الحزب الجمهوري بشأن انقسامهما حول شخص الرئيس ضعف الالتزام الحزبي، وتزايد الانشقاقات والانقسامات بداخله، إذ أرجع التيار المحافظ رفضه لدعم مكارثي بسب ما قدمه من تنازلات للحصول على مقعد رئاسة مجلس النواب، واعتبروه ليس جمهوريًا حقيقيًا وإنما براجماتي، كما أن وجوده في مجلس النواب خلال 14 عامًا -وفقًا للتيار المحافظ- لم يسهم خلاله في تعزيز القيم الجمهورية داخل المجلس، فضلًا عن تحميله إخفاقات الحزب في الحصول على أغلبية بسيطة بدلًا من الهيمنة الحزبية على المجلس بما وصفوه باكتساح الموجة الحمراء، وهو ما لم يحدث في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر 2022. تجدر الإشارة إلى أن تمرد الجناح اليميني في الحزب الجمهوري كان سببًا قبل ذلك في حرمان كيفن مكارثى عام 2015 في أن يصبح رئيسًا لمجلس النواب بفارق ضئيل، لا سيما أن عملية اختيار رئيس مجلس النواب تحتاج لتصويت 218 عضوًا، وهي العملية التي ربما لا تستغرق ساعات في حالة الاتفاق الحزبي، أو ربما تمتد لأكثر من ذلك، ففي عام 1856 لم ينتخب رئيس للمجلس إلا بعد 133 دورة اقتراع استغرقت ما يقرب من شهرين.
(*) الانقسام بين الديمقراطيين والجمهوريين: استغل الحزب الديمقراطي حالة الانقسام بين أعضاء الحزب الجمهوري داخل مجلس النواب، وقام أعضاء الحزب بالدفع بزعيم الأغلبية الديمقراطية حكيم جيفرز للمنافسة على منصب رئيس المجلس، برغم تأكدهم من عدم حصولهم على رئاسة المجلس، لكن جاء ذلك السلوك كنوع من العمل التكتيكي لضمان اصطفاف أصوات أعضاء الحزب الديمقراطي خلف مرشحهم، فضلًا عن رغبتهم في تعميق الانقسام داخل الحزب الجمهوري. وبرغم الانقسامات بين الحزبين فقد نجح الديمقراطيون في تمرير العديد من القوانين التي ستساعدهم في إكمال ولاية الرئيس الثانية من دون مشكلات حقيقية، برغم توعد الجمهوريين بأجندة مثقلة باتهامات إزاء الديمقراطيين. لذلك سيسعى الديمقراطيون لتوظيف نجاحاتهم في مجلس النواب خلال حملاتهم الانتخابية لخوض انتخابات الرئاسة 2024، كان من أبرزها: قانون البنى التحتية، وقانون الاستثمار في الصناعات التكنولوجية المتطورة، وقانون تنظيم بيع الأسلحة الفردية، وهو الأول من نوعه منذ ثلاثين عامًا. كما يمتلك الرئيس بايدن إصدار قرارات رئاسية لها قوة القانون، في حال قيام الجمهوريين بتعطيل مشروعات القوانين. وهو الأمر الذي لجأ إليه الرئيس الأسبق باراك أوباما، وكان نائبه بايدن، لذلك يمتلك الأخير من الخبرة ما تمكنه من تجاوز انقسام الجمهوريين أو تعويق إصدار تشريعات خلال فترة السنتين المتبقيتين من ولايته.
(*) الانقسام المجتمعي الأمريكي: يعاني المجتمع الأمريكي من انقسامات حادة على أسس من الهوية والمناطقية لا سيما بعد تنامي المشكلات بين مجتمعات البيض ومجتمعات السود، وتزايدت معدلات القتل على أساس اللون أو العرق، وهو ما أدي إلى تزايد الحديث عن مجتمعات الجيتو لكل فئة، بحيث تقتصر التعاملات على مَن يشبهون بعضهم البعض خشية تطور الأمر لحرب أهلية.
وهي عملية يصعب تصورها في المجتمع الأمريكي الذي قام على أساس الاندماج المتكامل بين جميع الأعراق والهويات والأديان ليتم صهرهم في مجتمع واحد نجح في اجتذاب الأدمغة المتميزة من مختلف بقاع العالم منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها أرض الأحلام أو أمة فوق التل بعيدة عن التهديدات أو المشكلات المعقدة التي بدأت في التبلور أخيرًا، فبعد عقود شهدت العديد من الإخفاقات للتيار المحافظ الداعي لوضع قيود على حق الإجهاض، أصدرت المحكمة العليا حكمها بنزع الشرعية عن الإجهاض التي كانت هي بذاتها اعتبرته دستوريًا في سبعينيات القرن العشرين.
(*) الانقسام حول تجدد الظاهرة الترامبية: شكّل إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن خوضه انتخابات الرئاسة القادمة في 2024، تجدد الانقسام حول الظاهرة الترامبية، لا سيما أن تيارًا أمريكيًا يعتبر ترامب داعمًا لتشكيل ائتلاف فريد من تياري العنصرية البيضاء والأصولية المسيحية، وهي تلك التيارات التي تمثل وفق هذا التيار تهديدًا للتماسك المجتمعي الأمريكي وتعد أحد عوامل تفسخه وانقسامه. وهو ما تجلى في اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكابيتول رفضًا لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي فاز فيها جو بايدن، ورفض ترامب حضور مراسم تنصيب الرئيس الفائز كتقليد أمريكي مستقر.
(*) الانقسام الأمريكي في التعامل مع أزمة أوكرانيا: ثمة تمايز بين رؤية الديمقراطيين والجمهوريين في التعامل مع أزمة أوكرانيا. ففي حين يسعى الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تقديم كل أوجه الدعم الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا لمواجهة روسيا، إذ يسعى لرصد موازنة لدعم أوكرانيا تقدر بـ 45 مليار دولار. في المقابل يتحفظ عدد من أعضاء الحزب الجمهوري على الدعم اللامحدود الذي يقدمه بايدن لأوكرانيا متبنين وجهة نظر قائمة على أن الولايات المتحدة لن تقدم شيكًا على بياض لأوكرانيا.
أزمة الهيمنة:
سيكون للانقسامات الأمريكية المتتالية تأثيراتها على بعدين رئيسين: الأول داخلي سيرتبط بأزمة الديمقراطية الأمريكية التي لطالما وظفتها الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز مكانتها على المستوى العالمي، برغم ما شاب ذلك التصور من قصور، حيث تم توظيفها لخدمة المصالح الأمريكية بالأساس، ومنها ما أشار إليه المحلل لارى دايموند أشهر المتخصصين في قضايا الديمقراطية في مقال له نشر أخيرًا في مجلة "فورين أفيرز" الصادرة عن المجلس الأمريكي للشؤون الخارجية وصل لنتيجة مؤداها أن الديمقراطية في أمريكا تعيش مرحلة كساد عميق ومتشعب وممتد، كما حذّر عدد من علماء السياسة من عمق أزمة الديمقراطية الأمريكية. ويبدو أن هذا التراجع الديمقراطي لم يكن قاصرًا على الداخل الأمريكي، بل كان ممتدًا للخارج أيضًا فقد أخفق الزعم الأمريكي في تحويل أي من المجتمعات إلى ديمقراطيات مزدهرة تنتشر عبر نظرية الدومينو، وهو ما حدث في العراق وأفغانستان وتحويلهما لواحة للإرهاب عقب غزوهما بدلًا من واحة الديمقراطية التي بشّر بها الاحتلال الأمريكي للدولتين.
أما البعد الثاني فيتمثل في أزمة الهيمنة الأمريكية التي دفعت بالكثير من التحليلات للقول بأننا إزاء نظام عالمي يتغير، ولكن بتكلفة عالية نحو التعددية القطبية، ومِن المراقبين مَن يرى أننا إزاء نظام دولي أوشك على نهاياته التي حلت بالفعل، وأن العالم في إطار ترتيبات جديدة لم يسفر عن معالمه وقواعده بعد. ومن ثم فإن الهيمنة الأمريكية باعتبارها القطب الأوحد منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وبسبب معاناة الداخل الأمريكي، وصعود قوى كبرى إلى مسرح عمليات النظام الدولي، فمن المرجح أن تنجح محاولات تلك القوى في بناء نظام دولي متعدد الاقطاب سيمثل خصمًا من رصيد القوة الأمريكية.
مجمل القول إن متوالية الانقسامات ستشكل الملمح الأبرز لآفاق المشهد السياسي الأمريكي في 2023. وربما يفسر صعود وهبوط الإمبراطوريات جانبًا من ذلك المشهد المتكرر، والذي سبق أن حدث في نماذج تاريخية في إمبراطوريات بريطانيا وروما وغيرهما من التجارب التي هيمنت على التفاعلات الكبرى. وهي الإمبراطوريات التي أفلتت تدريجيًا أيضًا بسبب عوامل الضعف الداخلية وصعود قوى بديلة لتستمر الصيرورة التاريخية بقواعدها المستمرة والمستقرة.