بعد عامين ونصف العام من المعاناة، تعود الأزمة السودانية إلى الواجهة بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة في مدينة شرم الشيخ المصرية. وخلال الأشهر الأخيرة، برزت العديد من الحوافز لإنهاء الحرب في السودان، التي تعاني من أسوأ أزمة إنسانية مع تفاقم الفقر والنزوح والجرائم ضد المدنيين السودانيين، بالإضافة إلى نجاح الجيش السوداني في استعادة العاصمة الخرطوم واستعادة السيطرة على أجزاء واسعة منها، مقابل لجوء ميليشيا "الدعم السريع" إلى حلفائها من الميليشيات والمرتزقة لتشكيل حكومة موازية.
وتأسيسًا على ما سبق، يتناول التحليل التالي تجدد الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب وفرص التوصل إلى تسوية تفضي لاستعادة مسار الانتقال السياسي في البلاد.
إعادة ترتيب المشهد
رغم المشهد الميداني الذي يستمر في تعطيل أي أفق سياسي لنهاية الحرب، برزت في الآونة الأخيرة مجموعة من المؤشرات لإعادة تموضع العديد من القوى داخليًا ونضوج مسار دولي داعم لإنهاء الحرب، يُمكن استعراضها على النحو التالي:
(*)تقدم ميداني للجيش: نجح الجيش السوداني بمعاونة حركات مسلحة رديفة في استعادة السيطرة على أجزاء واسعة من الجغرافيا السودانية. وتمثلت أهم إنجازاته في إعلان خلو ولاية الخرطوم من ميليشيا "الدعم السريع" في 20 مايو 2025. وفي مقابل التقدم الكبير بالسيطرة على ساحل البحر الأحمر وولايات شمال ووسط وشرق البلاد، يمثل صمود مدينة الفاشر باعتبارها المعقل الأخير للجيش وحركات الكفاح المسلح المتعاونة معه في إقليم دارفور، رغم الحصار الخانق الذي تتعرض له المدينة منذ منتصف 2024. مع استمرار الصراع في إقليم كردفان، تواجه "الدعم السريع" إحباطًا في أي إنجاز عسكري، مما يضعف موقفها في أي عملية تفاوض مقبلة.
(*)تعثر المسار السياسي: جاء تشكيل الحكومة الموازية في مناطق "الدعم السريع" في يوليو 2024 كدلالة واضحة على حجم الضغوط السياسية والميدانية التي تواجهها الميليشيا، والتي دفعتها للتعجيل بتشكيل كيان موازٍ، رغم فشل السيطرة على مدينة الفاشر. ولعل أهم أسبابها الرغبة في إيجاد أرضية سياسية تشرعن حضور "الدعم السريع" عبر تحالف مع الجبهة الثورية والحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال بقيادة عبد العزيز الحلو. كما أن تحالف "الدعم السريع" مع حركة "عبد العزيز الحلو" في كردفان يهدف لعزل جبهة دارفور وتفكيك التحالف بين الجيش والحركات المسلحة في الإقليم، مع إظهار اهتمام الجيش باستعادة الخرطوم على حساب إقليم دارفور. على الجانب الآخر، لا تزال حكومة كامل إدريس تواجه تحديات عميقة حالت دون اكتمال تشكيلها، مع بقائها رهنًا بالتوازنات السياسية في معسكر الشرعية من جهة، وفي ملف تسوية الصراع واستعادة المسار السياسي لعملية الانتقال الديمقراطي من جهة أخرى.
(*)مسار دولي جديد: جاءت التطورات الأخيرة في سياق جهد دولي متجدد يهدف لتسوية الصراع في السودان، خلال ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومدعومًا باتفاق السلام بين الكونغو ورواندا في يوليو الماضي. وكانت أبرز التطورات في هذا السياق توسيع الإطار الدولي الداعم لإنهاء الأزمة السودانية عبر نافذة الرباعية الدولية ممثلة في مصر والولايات المتحدة والسعودية والإمارات، والتي قدمت خطتها لإنهاء الحرب في 12 سبتمبر 2025، وذلك عبر مرحلتين تبدأ بالتوصل لهدنة إنسانية لمدة 3 أشهر، وصولًا لإطلاق عملية سياسية لمدة 9 أشهر.
وعلى الرغم من تعقيدات المشهد العسكري والميداني، فإن بناء إطار دولي موسع للوساطة يحقق العديد من الأهداف التي تخدم في النهاية وقف الحرب واستئناف مسار السلام وإنهاء أسوأ أزمة إنسانية مسجلة. وفي مقدمة تلك الأهداف أن الإطار الموسع يحقق مراقبة أكثر فاعلية لتدفق الأسلحة والدعم العسكري لأطراف النزاع. ثانيًا، أن بناء مسار موثوق للوساطة يعزز من أهمية معالجة الأزمة الإنسانية والمطالب الملحة بإنهاء حصار الفاشر، بما يحشد الجهود الدبلوماسية والمالية الدولية لخارطة طريق إنهاء الصراع على أساس مركزية الأمن الإنساني وحماية المدنيين في أي حل محتمل للأزمة السودانية. ثالثًا، أن الآلية الرباعية تعزز الضغوط الدبلوماسية على الأطراف المنخرطة في الحرب والقوى السياسية المدنية للتوصل إلى تسويات ضرورية لاستعادة الهدوء وبناء عملية سياسية مستدامة وشاملة للجميع بملكية سودانية خالصة. رابعًا، أن أطراف الرباعية تؤمن أنه لا حل عسكريًا للحرب في السودان، وهو ما يتعين أن يضمن أمرين رئيسيين؛ أن تضمن الحكومة السودانية اعترافًا موسعًا بشرعيتها كسلطة موحدة، وإنهاء الصراع في أقرب فرصة ممكنة بما يحقق أمن وسلامة السودان الإقليمية، وأن يتراجع مشروع ميليشيا "الدعم السريع" وتحالفاته مع الحركات المسلحة.
تحديات وعوائق
بالاستناد لتطورات المفاوضات الجارية بشأن الدخول في هدنة إنسانية قبيل الانطلاق في مسار سياسي انتقالي قصير نسبيًا، يمكن القول إن القبول بإطار الرباعية قد يمثل أساسًا لإنهاء النزاع، إلا أن الشروع في ذلك المسار تعترضه العديد من التحديات:
(&) حلحلة الملف الأمني والعسكري: على الرغم من القبول بمرجعية الرباعية الدولية خلال لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في القاهرة، إلا أن الأخير أثار رفضًا لبعض محددات تلك العملية خلال تصريحاته في 18 أكتوبر 2025، بالقول "لن يُفرض علينا سلام أو حكومة أو شخص رفضه الشعب". وتشير تصريحات البرهان في مجملها إلى رفض التفاوض بمنطق خطوط السيطرة بين قوتين متحاربتين، وإنما بمنطق الدولة التي نجحت في استعادة السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد وهزمت ميليشيا متمردة؛ وهو ما يهدف لإقصاء قيادة "الدعم السريع" وإعادة ترتيب الملفين الأمني والعسكري كأولوية قصوى لنجاح أي انتقال سياسي، على أساس دمج وتسريع الميليشيات والحركات المسلحة وتجميع عناصرها في مواقع عسكرية تابعة للجيش الوطني، حفاظًا على حياة المدنيين ومنعًا لتكرار سيناريو انتشار عناصر الحركات المسلحة في العاصمة الخرطوم عقب حراك ديسمبر 2019 وحتى اندلاع الحرب.
وعلى الجانب الآخر، يمثل حسم مصير المواجهات في إقليم دارفور محددًا رئيسيًا في نضوج شروط وقف العمليات العسكرية بين الجانبين. وعلى الرغم من صعوبة حسم الصراع في الإقليم، إلا أن أهمية معركة الفاشر ستحدد مستقبل وحدة السودان بصورة عامة، ومستقبل توزيع السلطة في الإقليم بصفة خاصة، مع انقسام الحركات اتفاق سلام جوبا بين الجانبين، ممثلين في القوات المشتركة الداعمة للجيش من جهة، وحركات الجبهة الثورية إلى جانب "الدعم السريع" من جهة أخرى.
(&) مستقبل العملية السياسية: ثاني تلك المحددات هو التمسك بإشراف القوات المسلحة على العملية السياسية ورفض عودة عبد الله حمدوك لقيادة المشهد السياسي مستندًا إلى الدعم الدولي ووقوفه على رأس تحالف صمود المدني الداعي لوقف الحرب، والذي سعى لتبني الحياد خلال الحرب. خاصة وأن بيان واشنطن الصادر في 12 سبتمبر 2025 نص على أن مستقبل حكم السودان لا يخضع لسيطرة أي طرف متحارب. وبالتالي، فإن أي عملية تفاوضية ناجحة ستشهد دمج القوى السياسية والمدنية في مسار الانتقال، بالتوازي مع فتح قنوات تواصل بين مجلس السيادة والقوى السياسية كافة على اختلاف انتماءاتها ومواقفها، مع الحفاظ على ملكية السودانيين لتلك العملية السياسية. خاصة في ضوء حالة عدم الثقة بين قيادة مجلس السيادة من جهة وتحالف صمود من جهة أخرى، حيث يعتبر "السيادة" أن الأخير يمثل تكرارًا لنموذج "ائتلاف الحرية والتغيير" الذي دفع البلاد لحالة الاقتتال الحالية في ضوء تمسكه بالاتفاق الإطاري مدعومًا بأطراف إقليمية ودولية.
وإجمالًا،يمثل استئناف الجهود الدولية لإنهاء الحرب خطوة إيجابية على طريق تسوية الأزمة في السودان. إذ تمثل صيغة الوساطة الرباعية محاولة جادة لحث الأطراف على تهدئة الصراع ووقف تدفق الأسلحة والوسائل القتالية من جهة، وإعلاء البعدين الإنساني والسياسي للأزمة على التطورات العسكرية على الأرض، بما يضمن وحدة السودان وتقييد مخاطر النزاع على السلم والأمن الإقليميين. ومن جهة أخرى، يعترض مسار السلام مجموعة من التحديات والعوائق تتمثل في بنية الصراع وتداخلاته السياسية والهوياتية، والتي خلقت تحديات أمنية لا متناهية من الميليشيات الإثنية، إلى جانب فقدان الثقة بين مختلف أطراف العملية السياسية وصعوبة استحضار ملف الاتفاق السياسي بين "الحرية والتغيير" والجيش في 2019، أو إقصاء الأخير في عملية سياسية بقيادة مدنية خالصة.