مع دخول الاشتباكات شهرها الثالث، تشهد الدولة السودانية وضعًا صحيًا متدهورًا، خاصة بعد الاتهامات التي تطال "الدعم السريع" بالاعتداء على عددٍ من المستشفيات التي خرجت بالفعل من الخدمة، وتسببت الأزمة الإنسانية في نزوح الملايين من الأشخاص، وتزايد الفقر وانعدام الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، الذي أدى بدوره إلى نقص الخدمات الأساسية اللازمة لتسيير شؤون الحياة اليومية.
تأسيسًا على ما سبق، يحاول هذا التحليل قراءة مؤشرات تدهور الأوضاع الإنسانية والصحية في السودان، وتأثيرها على المبادرات المطروحة لحل النزاع، والعودة إلى طاولة الحوار.
انهيار القطاع الصحي:
تدخل الأوضاع الإنسانية في السودان وضعًا خطيرًا في ظل استمرار الاشتباكات بين القوات المسلحة السودانية والدعم السريع. وأفادت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان عن ارتفاع أعداد الضحايا جراء الاشتباكات إلى 958 حالة وفاة و4746 إصابة، إضافة إلى ما يقرب من 2 مليون نازح، فيما قدَّر وزير الصحة السوداني هيثم إبراهيم، في تصريحات لوسائل إعلام في 17 يونيو 2023، وصول الضحايا إلى 3 آلاف قتيل، فيما أصيب نحو 6 آلاف، منذ اندلاع الصراع. ونبرز فيما يلي تطورات الأوضاع الصحية في السودان:
(*) الإمدادات الطبية: اعتبر وزير الصحة السوداني هيثم محمد، في السابع والعشرين من شهر مايو الماضي، أن 3 ولايات سودانية، هي الخرطوم وجنوب ووسط دارفور، تعاني من أزمة في الخدمات الصحية. وتحذر العديد من المنظمات الدولية، خاصة منظمة الصحة العالمية، والأمم المتحدة من خطورة انهيار النظام الصحي في السودان، بسبب استمرار الاشتباكات الجارية، بين الجيش والدعم السريع لا سيَّما مع فشل مبادرات وقف إطلاق النيران. واعتبر وزير الصحة السوداني أن البلاد لديها مخزون دوائي لأمراض الكلى والدم يكفي فقط لمدة تتراوح بين شهر وشهرين. وتشهد المراكز الرئيسية للإمدادات الطبية عملية استهداف ممنهجة من قِبل الدعم السريع بغرض السيطرة على احتياطي البلاد من الأدوية والإمدادات الطبية.
(*) تعطل عمل جمعيَّات الإغاثة: أعلنت العديد من منظمات الإغاثة العاملة في السودان منذ بدء الأحداث عن توقفها عن العمل بعد حملات الاستهداف الممنهجة التي طالت عناصرها. وقد أعلن برنامج الغذاء العالمي عن وقف أنشطته في السودان، نتيجة للأوضاع غير المستقرة هناك. من جانبه، طالب الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر الدوليين بتوفير الدعم اللازم لتمويل جهود الاستجابة للأزمة الإنسانية، خاصة لدعم مئات الآلاف الذين نزحوا إلى دول الجوار السوداني، وهي مصر وتشاد والصومال وليبيا وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى. وكانت الأمم المتحدة أعلنت عن تعهدات دولية بمنح مليار ونصف دولار للاستجابة الإنسانية في السودان والدول المجاورة التي تستضيف لاجئين فارين من الصراع، وذلك في مؤتمر مانحي السودان الذي استضافه مدينة جنيف السويسرية في 19 يونيو 2023 برئاسة مصر والسعودية وقطر وألمانيا والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
(*) استهداف ممنهج للمرافق الصحية: انعكست أحداث الاشتباكات في السودان على أوضاع المستشفيات والمقار الصحية سلبًا؛ حيث توقفت عدة مستشفيات عن أداء عملها عقب اندلاع الأحداث. وبجهودٍ ومبادرات فردية من الأطباء والأطقم الطبية، تعمل المستشفيات على العودة لأعمالها لا سيَّما بعد تعرض القطاع الصحي ومخازن الأدوية لأعمال من السلب والنهب. وقد أشار عدد من الأطباء لشبكة ABCالأمريكية، أن المستشفيات في السودان لم تعد آمنة سواءً للأطقم الطبية أو حتى المرضى.
ووصف مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، في حوار أجراه مع قناة القاهرة الإخبارية في 18 يونيو 2023 الوضع الإنساني في دارفور بالكارثي؛ إذ تشير المعلومات الواردة من إقليم دارفور وخاصة من مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور إلى أن المرافق الصحية للمدينة خارج الخدمة، مما يُعرض المرضى من ذوي الأمراض المزمنة كالغسيل الكلوي لخطر الموت، وهو ما دعا الكثير من الحالات لتحمل مشاق السفر للحصول على الخدمات العلاجية الأساسية في مناطق أخرى.
(*) مبادرات شعبية من شباب الأطباء: من خلال متابعة مواقع التواصل الاجتماعي السودانية، تلاحظ وجود مبادرات فردية من الأطباء والعاملين في القطاع الصحي السوداني، وذلك لعرض أرقام هواتفهم للكشف على المرضى عبر عياداتهم أو حتى الذهاب إلى المنازل في حال كانت الحالة قريبة من الطبيب، وأعلنت مجموعة أخرى من الشباب المتطوعين عن مجموعات واتساب لتوفير خدمة الاستشارات الطبية للمحتاجين دون اشتراط دفع رسوم الاستشارة. وحوَّلت مجموعة أخرى من الأطباء أجزاء من منازلها إلى عيادات لتقديم الاستشارات الطبية في محيطها الجغرافي. ورغم أن هذه الحالة من التضامن المجتمعي بين أبناء الشعب السوداني تدعو إلى التقدير والاطمئنان إلا إنها في الوقت نفسه تبرز حجم الدمار الذي وصل إليه القطاع الصحي الحكومي السوداني الذي نالت منه هذه الاشتباكات.
دور مصري مُقدَّر:
ركَّز دور القاهرة في الأزمة السودانية على المسائل الإنسانية خوفًا من تفاقم الأوضاع وانعكاسها على حالة الاستقرار بشكلٍ عام، وظهر ذلك في:
(&) رفض التدخلات والحفاظ على مؤسسات الدولة: كانت القاهرة منذ اليوم الأول للأزمة رافضة لأي تدخل خارجي في السودان، وواقفة في الوقت نفسه ضد أي محاولة للنيل من مؤسسات الدولة السودانية. وتهتم مصر في الوقت الحالي بتثبيت هدنة لمعالجة الأزمة الإنسانية لتوفير الدعم للشعب السوداني عبر تيسير استمرار تدفق المساعدات الإنسانية، وقد جاءت المبادرات المصرية المشتركة سواءً مع جنوب السودان أو قطر مُركزة على معالجة الأوضاع الإنسانية لتسهيل حياة الناس.
(&) تسهيل الإجراءات أمام النازحين في المعابر بين مصر والسودان: برزت المعابر البرية بين مصر والسودان كشرايين إغاثة للأوضاع الصحية والإنسانية المتدهورة في السودان. وفي هذا السياق، أشار وزير الصحة المصري، خالد عبد الغفار، أثناء مشاركته في اجتماعات الدورة 76 للجمعية العامة للصحة العالمية في 21 مايو 2023 إلى تقديم السلطات المصرية للرعاية الصحية الكاملة للنازحين السودانيين على الحدود المصرية، بما يؤدي إلى تعزيز الأمن الصحي على الحدود.
وينتشر متطوعو الهلال الأحمر المصري بالمعابر الحدودية بين مصر والسودان لتقديم خدماتهم للنازحين. وتقدم السلطات المصرية تسهيلات كبيرة للنازحين السودانيين، وقد أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني، مبادرة مشتركة لدعم جهود الإغاثة وتخفيف وطأة الأزمة الإنسانية في السودان. وأشار السيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك له مع الرئيس الأنجولي جواو لورنسو في العاصمة لواندا في 7 يونيو من العام الجاري إلى استقبال مصر نحو 200 ألف سوداني على أراضيها منذ بدء الأزمة.
(&) تقدير سوداني رسمي وشعبي للدور المصري: تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي السودانية المختلفة آلاف التغريدات والتعليقات، والمقاطع المصورة التي تُثمن الموقف المصري المُشرف في الاستجابة للأزمة الإنسانية في السودان سواءً على المستوى الحكومي أو الشعبي. وفي هذا السياق، اعتبر نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، مالك عقار، في حواره مع القاهرة الإخبارية في 18 يونيو من الشهر الجاري أن أعضاء مجلس السيادة السوداني يُقدَّرون دور مصر الأخوي والجيد بعد الأزمة خاصة فيما يتعلق بالاستجابة الطارئة للأزمة الإنسانية التي تمر بها بلاده.
مبادرات مطروحة وحلول مؤجلة:
تنوعت الوساطات والجهود العربية والإقليمية والدولية منذ اندلاع المواجهات بين الجيش السوداني والدعم السريع وذلك بهدف تغليب لغة الحوار والمفاوضات عن لغة الحرب والقوة العسكرية. وغلب على جُل هذه المبادرات ما يتعلق بضرورة إيقاف الحرب والتفرغ لحل الكارثة الإنسانية التي تتفاقم نتائجها في مختلف المناطق السودانية. ونبرز فيما يلي الأسباب التي تقف عائقًا أمام إنجاز مبادرات حل الأزمة:
(-) الحاجة إلى بناء الثقة: تُعد مسألة بناء الثقة بين الأطراف السودانية واحدة من أهم المداخل لأي مبادرة للحل باعتبار أن انعدامها يؤثر سلبًا على تحقيق السلام والوصول إلى اتفاق دائم لوقف الحرب. ولا يُمكن حل هذه المسألة دون الوصول إلى المرحلة التي يستطيع فيها الطرفان الاتصال بشكلٍ مباشر عبر الوسطاء المحايدين، والالتزام بالتعهدات التي تم الإجماع عليها، وتعزيز الثقة بين الأطراف المتقاتلة من خلال إجراءات مثل الإفراج عن السجناء وتوفير الحماية للمدنيين.
(-) استمرار التصعيد العسكري: تشهد العمليات العسكرية بين الجانبين تصعيدًا كبيرًا خاصة بعد عدم توصل اتفاق جدة إلى وقف شامل للمعارك، وعمل "الدعم السريع" على السيطرة على المراكز الحساسة في الخرطوم، وسعيها كذلك على فرض واقع أمني وسياسي جديد في دارفور. ويُعد الوصول إلى مرحلة الوقف الشامل للأعمال العسكرية، بمثابة البداية الحقيقية لوقف الحرب والعودة مرة أخرى لبناء السلام وتجاوز حالة الفراغ السياسي التي يمر بها السودان منذ عزل الرئيس السوداني السابق عُمر البشير في 11 أبريل 2019.
(-) الشروط المُسبقة: إن أي نجاح لمبادرات الوساطة يتطلب التخلي بشكلٍ كامل عن الشروط المُسبقة. وفي الحالة السودانية، وفي ظل استمرار تدهور الأوضاع الإنسانية بات من الضروري من الأطراف المختلفة تغليب الاستجابة الطارئة للأزمة الإنسانية حفاظًا على السودان ووحدته.
في النهاية، تواجه الأزمة الإنسانية في السودان مجموعة من العقبات التي تحول دون عودة الحياة اليومية إلى طبيعتها، أبرزها حالات الاستهداف المباشر للعاملين في القطاع الإغاثي، وحالات السلب والنهب التي تتعرض لها المصالح الأجنبية مثل المقار الدبلوماسية، والسطو على المساعدات ومخازن الأغذية والأدوية إضافة إلى استمرار الاشتباكات.